العراق وأزمة الدولة الوطنية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أهمّ التطورات السياسية التي حدثت في أوروبا بعد سلسلة طويلة من الحروب القومية والصراعات الدينية، إن بلدانها تحولت من الدول القومية إلى الدولة الحديثة التي تعتمد الدستور الذي يجعل الشعب مشاركاً بالحياة السياسية ومبدأ المواطنة والتعايش السلمي بين جميع الهويات الفرعية، وحققت منهج العلمانية بفصل سلطة الكنيسة "الأكليروس" المسيحي عن سلطة الدولة التي تخضع للقوانين الوضعية، خطوات مهمة حققت تطوراً في كافة البنى السياسية والاجتماعية والحضارية والحقوق والحريات لهذه المجتمعات، ورسمت لها مسارات التطور الاقتصادي للدولة الوطنية والمزيد من الرفاهية والاستقرار للمواطن في تلك البلدان.
مشروع التغيير الذي حدث في العراق بعد الاحتلال 2003 وخروجه من أسوار نظام دكتاتوري - قومي منغلق نحو فضاء جديد، كان لحظة تاريخية حرجة وفاصلة في تاريخ العراق الحديث ومستقبله أيضاً، كان الزخم السياسي لتوجهات الولايات المتحدة الأميركية يؤكد على بناء نظام سياسي دستوري يعتمد الديمقراطية وهو ما لقى ترحيباً لدى غالبية الشعب، واستثمار الأحزاب السياسية "المعارضة" التي جاءت برفقة قوات الاحتلال الأميركي، وكان انهيار غالبية مؤسسات الدولة القديمة وتصفير وجود وبنية الدولة الإدارية والقانونية، مشجعاً على بناء نظام لدولة جديدة بعناوين ديمقراطية تُخلف الدولة القومية القديمة.
إنَّ الإشكالية السياسية التي عانى منها العراق على امتداد القرن الأخير تتمثل بإعطاء الدولة أيديولوجيا السلطة الحاكمة، وحين يسقط النظام السياسي تسقط معه الدولة، في حين أنَّ الدولة بمؤسساتها القضائية والقانونية والإدارية ينبغي أن تكون بعيدة عن السمة السياسية والأيديولوجية للسلطة الحاكمة، والأمر اللافت في العراق أنَّ الأنظمة الملكية والجمهورية والقومية التي تولت الحكم، اهتمت ببناء سلطاتها وليس قواعد الدولة الوطنية.
فشلت آمال العراقيين في تأسيس الدولة الوطنية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة بالحقوق والحريات، تسرّب حلم العراقيين في الديمقراطية التي تكرس دولة المواطنة التي تذوب فيها الهويات الفرعية وتنتصر وحدة المواطنية المشتركة، بعد أن اتَّفق الفرقاء على دستور يكرس سلطة المكونات من جهة، ومنهج المحاصصة الطائفية والقومية والحزبية في توزيع المناصب والموارد والنفوذ أي تقاسم (الكعكة) كما يُعبر عنها بعض السياسيين.
إقرأ أيضاً: السعودية... من رجال ألمع إلى مدينة نيوم
لم يمض وقت طويل حتى بدأت المشاحنات والصراعات بين المكونات (شيعية، سنية، كردية وتركمانية) ثم تطورت إلى صراعات وانشقاقات داخل المكون الواحد، وجوهر تلك الصراعات يتمثل في التنافس على الموارد المالية ومناطق النفوذ والتنافذ مع صراع الأجندات العاملة في الداخل وترابطها مع المكونات العراقية ونفوذ سلطاتها، أما موضوع بناء الدولة والإنسان وتحقيق الحياة الديمقراطية والمدنية فقد شطب من قائمة هذه الأحزاب، وتحولت البلاد إلى ساحات للفصائل والميليشيات التي تخوض في صراعات دولية حسب توجهاتها العقائدية وارتباطاتها مع دول الجوار أو غيرها.
الآن صراع حاد وتهديدات صريحة بالقطيعة بين حكومة المركز وإقليم كردستان وقد بلغت ذروتها.. ولا حلول في الأفق؛ السّنة في صراع داخلي وتسقيط متبادل بين الأحزاب بهدف الحصول على موقع رئاسة البرلمان بعد شغوره منذ ستة أشهر، بخلاف بنود الدستور، وهو موقع قد فُرّغ من محتواه الدستوري والاجتماعي والسياسي بسبب أن التشريع صار يرتبط باتفاق قادة الطوائف والأحزاب والفصائل ومصالح جماعاتها، وليس مصلحة الشعب، الأمر الذي جعل نحو 80 بالمئة من العراقيين يقاطعون الانتخابات، قطيعة شعبية تؤكد مرة أخرى غياب الدولة الوطنية وذلك من خلال انعدام التأييد الشعبي لنشاط أحزابها ونظامها السياسي.
إقرأ أيضاً: العرب والحلم النووي
التجربة السياسية العراقية، وبعد عشرين سنة ونيف، أجدها تسقط بالفراغ السياسي وعدم قدرتها على الاستمرار، في وقت يتعذر فيه أن نتحدث عن وجود دولة واستراتيجيات عمل ومناهج بناء للوطن والإنسان؛ تشرذم سياسي وانعدام الثقة بين جميع المكونات السياسية، فساد متغول واقتصاد ريعي يعتمد على واردات النفط التي تسرقها الأحزاب والإنفاق الفوضوي والمرتبات الكبيرة والمنافع التي تمنح لطبقة كبار المسؤولين على حساب الغالبية التي أصبحت أوضاعها أقرب إلى الفاقة، بينما مديونية البلاد تزيد على مئة مليار دولار أميركي. إنها مرحلة موت العملية السياسية التي تصطحب معها موت النظام، بعد أن أفرغ حمولته من شعارات سياسية قدمتها له دول وأجندات الاحتلال.