كتَّاب إيلاف

الموسيقى بكونها هوية ثقافية للمجتمع

فنان يعزف الموسيقى في أحد المهرجانات في الشارقة، في 10 نيسان (أبريل) 2016
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

معيار الجمال ليس ثابتاً ودائماً، الثابت هو المتذوق للجمال ودرجة الإحساس به. بعضهم يجد جمال الشرق بزخمه الروحي المتنوع، أجمل بكثير من جمال الغرب وحضارته التقنية الحديثة. لا توجد ثوابت دائمة في معيار الجمال، بل متغيرات دائمة وهو عادة ما يرتبط بالبيئة، ثم تبقى درجة القياس مرتبطة بعين وإحساس المتذوق للجمال، لأنَّ قيمة الجمال ليس في كنهه، بل في علاقته مع الذي يتفاعل مع الجمال ودرجة وعيه الجمالي النابع من الإحساس المرهف.

الثقافة معطى جمالي آخر، فهذه الشجرة مثلاً ينظر لها الإنسان العادي بكونها توفر الظل لسيارته لتحميها من الشمس وصيفها اللاهب؛ هنا تعامل نفعي لا يمتد لأكثر من وعي الفرد بأهمية حماية سيارته من الحر، لكنَّ الفنان التشكيلي يجد فيها تحدياً لمهاراته في إنتاج اللون بما يضاهي تلك الألوان التي تشكلها الطبيعة، أي محاكاة للجمال البصري للفنان مع جمال اللون الطبيعي، أما الشاعر فيتسلق تلك الشجرة ليجعلها مسكناً لمخياله ومحطة هروب فوق الأرض، أما الخبير الزراعي فعنده فكرة أخرى عن الشجرة، فهو يحدثك عن الأوكسجين الذي تغذي به الهواء والندى الذي يرطب الأجواء والثمر وغيرها من المعطيات الكاملة بالشجرة باعتبارها كائناً منتجاً.

الشجرة تعيش دورة فصولها السنوية ومع كل موسم لها مظهر مختلف وتأثيرات مختلفة في الآخرين، دون أن تكترث لهم، بل تلك دورتها بالحياة، ترتقي قيمة الشجرة جمالياً مع قيمة من ينظر لها، مثال الشجرة ينطبق إلى حد ما مع المرأة ومعايير جمال المرأة، وحكمة الطبيعة أنها خلقت صور جماليات فيها من التنوع للجمال الأنثوي ما يفوق تنوع الشجر.

الثقافة الجمالية تُكتسب بالتدريب المستمر على تذوق الجمال، وقاعدتها الأساس، بحسب تجربتي، تكمن في الموسيقي أولاً، بخلاف العديد من كبار الفلاسفة وأهمهم الفيلسوف الألماني هيغل في موسوعته الجمالية، حيث اعتبروا فن الرسم يسبق الموسيقى لأنَّ الإنسان القديم مارس الرسم قبل أن يغني ويعزف، لكن أنا أحسب أن الموسيقي والغناء بضمنها، تشكل هوية المجتمع أو الأمة، ومن اليسير أن تميز الموسيقى الغربية الكلاسيكية عن الشرقية ومنها العربية، كما تختلف الموسيقي الأفريقية عن سواحل المتوسط الأوربية، والهندية تختلف عن الروسية وهكذا، لكن من الصعب أن تميز بين الفنون التشكيلية لأنها تخضع لمدارس، وخذ مثلاً المدرسة الانطباعية، حيث تجد رسامين من جميع دول العالم يرسمون وفق شروط المدرسة الانطباعية أو التكعيبية أو السريالية.

إقرأ أيضاً: الديمقراطية العراقية: الإله الذي فشل!

هل تشكل الموسيقى والغناء معياراً لتطور المجتمع وحضارته، الجواب نعم لأنَّ مميزات اﻟﻤﺠتمع السائدة، وعلى وجه الخصوص الميزات الفكرية والثقافية، عادة ما تكون بذات الصفات التي تنطبع على الغناء والموسيقي المنتمية إلى هذا العصر أو ذاك.

ومن هنا، فإنَّ كل مرحلة تاريخية أو فاصلة زمنية محددة تفرز موسيقاها التي تتجذر في عمق الثقافة الموسيقية التي تتغذى بالثقافة الفكرية والسمات الجمالية التي يقدمها نغمياً المؤلف الموسيقي لكي يرتفع بمستوى الذوق العام، وكلما تقدمت الفنون وارتفعت مناسيب المعرفة الجمالية ومستويات التذوق الجمالي، ارتقت الموسيقى وانطوت على إبداعات جديدة بكونها تخرج من بنية المجتمع الفكرية والجمالية وترجع أليه في علاقة تبادليَّة.

إقرأ أيضاً: إيران وإسرائيل والحرب المستحيلة

الموسيقى من أولى الفنون التي وجدت مع الإنسان وربما حتى قبل اكتمال رحلة وجوده وولادته الواعية، حيث بدأت مع الأصوات الأولى التي تعزفها الطبيعة في مواسم الريح وحفيف الشجر، أصوات ارتطام أمواج البحر على الشواطئ، وتغاريد الطيور، وأصوات الحيوانات وغيرها مما يحيط الإنسان، ثم جاءت أصواته الأولى في تعاملاته اليومية وتحدياته مع عوالم الطبيعة والغابة، كانت أصواتاً تمثل منظومة إشارية لتصبح لغة في ممرات حياته العسيرة انذاك، وهكذا تنامت مظاهر التطور للموسيقى من أصوات مبهمة وهمهمات وترددات لا تحمل معاني محددة وثابتة، إلى لغة تبعث في صور صوتية - سمعية ما يجول من مشاعر داخل الإنسان، وكان الغناء الذي يصدر عن الإنسان وفق ترانيم وإيقاعات محددة تترجم حالات الحزن أو الفرح، الحنين أو الغربة، الخوف أو الشعور بالانتصار.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف