كتَّاب إيلاف

من أَعلام الإِعلام السعوديّ... الأمير تركي بن سلطان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا يطيب الحديث عن الإعلام الخليجي عامة والسعودي خاصة إن لم تكن شخصية فاعلة ومؤثرة بحجم سموّ الأمير تركي بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود حاضرة في هذا الحديث، بل لا يصح البحث في تاريخ الإعلام السعودي والخوض في قضاياه وشؤونه وانعطافاته من دون التعريج على البصمة العميقة والواضحة التي تركها سمو الأمير في المعمار الإعلامي البديع للمملكة العربية السعودية، ولا غرابة في أن يقترن قطاع الإعلام السعودي باسم الأمير تركي، فهو بمنزلة جزء عضويّ استراتيجي في كينونة هذا القطاع، وهذا هو شأن العظماء الذين يشغلون حيزاً حيويّاً في تاريخ العلوم التي يسهمون في بنيانها، فتقترن أسماؤهم بأسماء أعمالهم.

من أَلِف حياته إلى يائها، مسيرة حافلة بالعطاء محفوفة بالوفاء، عميقة بالقيم الوجدانية والمعاني الإنسانية والمشاعر الوطنية، افتتحها الأمير تركي برؤية بانوراميّة للواقع، رصد في ضوئها المشكلات والمعوقات الجاثمة في طريق النهوض بالعمل الإعلامي، فتمكن من معالجتها والتعاطي معها، منطلقاً بقفزات تنموية ونهضوية واسعة الخُطا، إلى أن توّجها بوضع لمساته النهائية على الصورة الإعلامية للمملكة، مخلفاً وراءه إرثاً إعلامياً ضخماً جاهزاً للاستثمار الوطني، أشبه ما يكون بمدرسة جديدة ومعدَّلة للإعلام الوطني الصادق.

وتشير المحطّات الكثيرة التي مرّ بها سمو الأمير إلى تشبّثه بمنهج حياتي صارم تبنّاه وتمسّك بعُراه، وآمن بأهميته من أجل بلوغ هدف وطني سامٍ طمح إليه وجعله بُوْصلته في ضبط رؤاه وتوجهاته، ويتمثل هذا الهدف في تأطير النظرية الإعلامية السعودية، ورسم حدودها ومعالمها بدقة، ووضع تعاليمها ومبادئها الأولية، وتوجيه العمل الصحافي بما يخدم المشروع الحضاري للمملكة، وهذا مما يفضي إلى تشكيل انطباع صحيح وإيجابي عن المؤسسة الإعلامية السعودية لدى الآخر.

ملامح من شخصيته
الأمير تركي علَم من أعلام الإعلام على مستوى المملكة العربية السعودية خاصة ودول مجلس التعاون الخليجي عامة، كما أنه شخصية إداريّة استثنائية وازنة ومتوازنة، تهيّأت لها أسباب النجاح ومقومات التفوق، وتضافرت حولها سبل الإبداع والتميّز، فلم يبلغ ما بلغه من المكانة المكينة والمرموقة بسهولة، بل جدّ وعمل وسعى، ومن الممكن إدراج جميع صفاته تحت صفة شاملة جامعة هي التميّز، كان شخصاً متميّزاً في كل شيء، رافقه التميز منذ نعومة أظفاره حتى بلغ أشُدَّه وإلى وفاته، حتى شهد له بهذه الصفة كل من عرفه، ولم يأتِ تميّزه من فراغ، وإنما كان نتيجة مسيرة طويلة من التعب والاجتهاد والمثابرة والتصميم والعزيمة، وبراعته في إدارة الأزمات، واشتهر باهتمامه بالتفاصيل الدقيقة والجزئيات، وشدة الملاحظة والفطنة.

ومن ثم، كان تميّزه هذا حصيلة تضافر جملة من الصفات التي من أبرزها الانضباط في الحياة، والمحافظة على الوقت، واحترام المواعيد، والدقة في الإنجاز، وصون العهود والمواثيق، وطالما تمسك بالمبادئ التي آمن بها، ومن صفاته أيضاً التواضع الذي يتضح من خلال استماعه للرأي الآخر، وتقبله النقد برحابة صدر، وإفادته من تعاليم والده وتطبيقها بحذافيرها دون سأَم، وعدم إضاعة الفرص في الإفادة من دروس الحياة، إضافة إلى قيامه بتوظيف التعاليم التربوية التي تلقاها في كنف أسرته ولاسيما في صغره.

كان الأمير تركي رجلاً مثقفاً ثقافة واسعة وعميقة وعالية، ومن ثم فليس من الغريب أن يكون متفوقاً على أقرانه في جميع المراحل الدراسية، ورؤيته دوماً في الصفوف الأمامية، نال المراتب العليا في دراسته الجامعية في بلده، ثم حصل على المرتبة الأولى على دفعته في الماجستير في تخصص الإعلام في جامعة سيراكيوز في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية.

وأما مصادر ثقافته، فهي متنوعة تراوح بين الأصالة والمعاصرة، وتجمع بين التراث والحداثة؛ لأنه لم يقتصر في تعلمه على ورود مناهل التعليم النظامي، وإنما ضمّ إليها تعليمه الذاتي الذي اكتسبه من بيئته الأسرية، فهو سليل أسرة متعلمة ذات مكانة نبيلة، وخاض في التجربة التعليمية داخل الوطن وخارجه، أي في التعليم العربي والتعليم الغربي، ودأب على تطوير نفسه، وتحسين مقدراته والاستزادة من ينابيع العلم الشرعي، فشهد له محيطه بتديُّنه عبر التزامه أداء واجباته الدينية، واحتازت الصلاة في قلبه مكانة كبيرة لا تُدانى، فحافظ عليها ولم يتهاون في إقامتها في أوقاتها، إلى جانب مواظبته على قراءة القرآن الكريم يومياً، حتى قيل: إنه كان يختمه في كل شهر مرة، فهو بحق ممن يوصفون بأهل القرآن، وهكذا تحلّى الأمير بثقافة دينيّة واسعة.

وفيما يتعلق بمواقفه الإنسانية، فحدّث ولا حرج، عُرِف عنه كرمُه وسخاؤه وكثرة أياديه في فعل الخير، وبدا ذلك جليّاً في مساعدة الضعفاء من فقراء ومحتاجين ومرضى وذوي احتياجات خاصة، ومنح المكافآت المالية والحوافز التشجيعية لمستحقيها من الموظفين والعاملين الذين يرأسهم، كما شارك في الأعمال الخيرية المختلفة سرّاً وعلانيةً، وأصاب نَوالُه مختلف شرائح المجتمع من المعوزين... إنها مسيرة حافلة بالعطاء والإحساس بالآخرين ومقاسمتهم همومهم.

وتجدر الإشارة إلى اقتران كرم الأمير بقيمة الوفاء، ولا أدلّ على ذلك من أنه كان وفيّاً لموظفيه إلى ما بعد مرحلة تقاعدهم، يتفقد أحوالهم، ويتحرى إغاثتهم، ويسأل عن احتياجاتهم، ولكن، وفي المقابل، فإن كرمه وإنسانيته وعطفه على مرؤوسيه لم تمنعه من محاسبة المخطئين والمستهترين منهم وكفّ أيديهم عن العبث.

وبعدُ، فمما لا ريب فيه أن صفاتٍ كهذه حَريَّةٌ أن تجعل من موصوفها مَجْمعاً للمروءة، ورمزاً للقدوة الصالحة لغيره في العلم والعمل، قدوة منذ الصغر حتى الكبر إلى الممات.

جهوده في حقل الإعلام
بين عام المولد (1959) وعام الوفاة (2012)، تنقضي سنوات وعقود من بذل الجهود التي أسداها الأمير تركي لبلده، وتركزت جهوده في قطاع الإعلام الموجَّه نحو الداخل والخارج، بحكم تخصصه في هذا المجال، وإضفائه عليه قيم التقدير والجمال، فمنذ عودته إلى السعودية عام (1982) قادماً من الولايات المتحدة الأميركية، حاصلاً على درجة الماجستير في الإعلام الدولي، دخل مضمار العمل الإعلامي من صحافة وتلفزة وغير ذلك، وما لبث أن عُيّن مستشاراً في وكالة الإعلام الخارجي، وبدأ يتدرّج في سلّم الوظائف والمهام الإداريّة، ويترقّى بطريقة تسلسلية بعيداً عن القفزات الواسعة غير المنطقية، وهذا مما زوّده بخبرات إدارية كبيرة، إذ شغل أكثر من منصب، وخبر طبيعة كل وظيفة في قطاع الإعلام، وعاش الحياة الإعلامية من موظف صغير عادي إلى نائب وزير الثقافة والإعلام السعودي.

ومما يلحظ عليه أن جميع إنجازاته وأعماله رُسمت في إطار رؤيته الاستشرافية المتميزة، التي حاول من خلالها أن يبني جسوراً من التواصل بين بلده والبلدان الأخرى، ليرتقي بقطاع الإعلام في بلده، ثم وسّع رؤيته لتشمل الاهتمام بالشأن الإعلامي الخليجي برُمّته، وأفرزت رؤيته هذه تداعيات مهمة على سير العمل الإعلامي وتوجيهه، وشغل ضمناً دور الموجّه والمؤثر.

إن جزءاً كبيراً من الصورة الحالية للإعلام السعودي تُعزى إليه، فقد أسهم في التخطيط التنموي الإعلامي ووضع الخطوط العريضة للسياسة الإعلامية، وأحدث عدة مفاصل في تاريخ الإعلام، واضعاً نصب عينيه هدف الارتقاء بواقع وزارة الإعلام، ولعل ارتقاءه الفكري والثقافي وسّع دائرة رؤيته للأحداث والمشاريع الوطنية التي تزعّمها.

ثم إنه التزم في كل منصب شغله حدودَ عمله، ولم يُعرف عنه أنه استعمل اسمه بوصفه أميراً أو ابن أمير لتمرير قرارات ما، أو إيقاف قرارات ما، أو احتكار حق إبداء الرأي واتخاذ القرارات، ولم يتجاوز حدود صلاحياته، وتعامل مع زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه في القطاع تعاملاً طبيعياً.

وأُوكلت إليه مهام عدة في الإعلام الخارجي، إذ شارك في الكثير من اللجان والاجتماعات والمؤتمرات والمعارض الدولية، وتجلت إسهاماته في تطوير قطاع الإعلام من خلال دوره في تحسين المطبوعات والإصدارات ودعم البحث العلمي والتلفاز لإظهار الوجه الحقيقي للمملكة، بمعنى أنه قدّم المملكة أمام الرأي العام المحلي والعربي والعالمي تقديماً يليق بوزنهاالإستراتيجي ، بما يعطي الآخر انطباعاً إيجابياً عن الشخصية السعودية الأصيلة الفاعلة والمؤثرة في العالم.

ومن أوجه ذكائه وفطنته استثماره للأحداث والمناسبات الكبيرة، فاتخذ مثلاً من مواسم الحج والعمرة نافذة إعلامية بارزة أسهمت في إيصال الصورة الدينية والحضارية الصحيحة المشرقة والمشرفة للمملكة إلى مختلف أنحاء العالم، عبر إشرافه المباشر على تغطية شعائر الحج، وتنظيم عمل الكوادر الإعلامية والتلفازية، والتنسيق بين فريق العمل السعودي وسائر الوفود الإعلامية الزائرة، مقدماً جميع التسهيلات الممكنة لعمل وسائل الإعلام الدولية، من أجل إنجاح دور وزارة الإعلام في المملكة، في تغطية هذا الموسم الديني المهم، وحرص على استضافة الوفود بكل حفاوة وتكريم.

ولعل من أبرز إسهاماته على الصعيد الخليجي موقفه الواضح من حرب الخليج، إذ إنه وقف إلى جانب الكويت الشقيق في محنته، واضعاً إمكانات الإعلام المتوافرة لإيصال صوت الكويت إلى العالم، وتعريف المجتمع العربي والدولي بما يجري بالفعل على أرض الواقع، وهذا يدل على وحدة الشعور الخليجي، وبذلك وسّع رؤيته الإعلامية من البيت السعودي إلى البيت الخليجي، كما أسهم في دخول المملكة تجربة البث الفضائي.

إذن، كان يتولى تغطية الأحداث المهمة والمناسبات الوطنية الكبرى بنفسه وبمهارة فائقة، وامتلك بصيرة ثاقبة وفراسة سياسية إعلامية قلّ نظيرها، وأشرف بنفسه على التغطية الإعلامية في بعض الظروف الغامضة التي يشعر فيها بوقوف بعض الأطراف والأصابع الخارجية المغرضة خلف الكواليس، فيمنع منحها تراخيص للدخول، حرصاً على أمن بلده.

اهتمامه بقطاع الرياضة
لم يقف دور الأمير عند حب الرياضة، ومتابعة أخبارها وتشجيعه لبعض النوادي والمنتخبات، بل إنه أولى الإعلام الرياضي الكُرَوي خاصة عناية مشدّدة، وقام بدور المشرف العام على القنوات الرياضية، بل إنه أحدث أثراً بارزاً في هذا النوع من الإعلام، أعطاه خصوصية مختلفة عن التغطيات الإعلامية للقطاعات الأخرى، وعرف بحياده، ويتضح اهتمامه في هذا الجانب من خلال طريقة تعامله مع الموظفين والعاملين في قطاع الإعلام الرياضي والقنوات الرياضية، وتنبّه إلى ضرورة توفير سبل الراحة لهم من أجل تعزيز الإنتاجية، إلى درجة أنه دفع من ماله الخاص أحياناً لدعم بعض المشاريع، كل ذلك أحاط القناة الرياضية بهالة من الهيبة والاحترام، بوصفها قناة وطن لا قناة قطاع فحسب، وطور البرامج واستقطب الكفاءات والخبرات.

وحققت القنوات الرياضية نجاحات باهرة في عهده، فنالت رضا الجمهور، وخطَت خطوات كبيرة ابتداء من التجهيزات والتحضيرات الأولية مروراً بالإعداد والتقديم وصولاً إلى الإخراج الفني الناجح، وبذلك يكون قد أسهم إسهاماً فعالاً في النهضة الرياضية في المملكة، من خلال مواقفه الداعمة والمؤثرة.

ووقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء الرياضيين، فحبه لنادي الهلال مثلاً لم يبعده عن الحيادية، كان يوزع اهتماماته ودعمه بالتساوي بين جميع النوادي.

وعند وفاة الأمير تركي نزل نبأ وفاته كالصاعقة على مسامع الناس، فرحل بعد أن ترك أثراً إيجابياً كبير في نفوس أبناء وطنه في حياته ومماته، وارتسمت في أذهانهم ملامح شخصيته من ذكاء متوقّد وعطاء متجدّد، حتى أصبح بالفعل علامة فارقة في الوسط الإعلامي من جهة، والوسط الوظيفي والاجتماعي من جهة ثانية، وآثر ألا يعبر الحياة إلا وقد أثّر في جبينها، وخدم أبناء وطنه.

وباختصار، الأمير تركي اسم مهم على قائمة الأسماء السعودية الفاعلة والمؤثرة في مجتمعنا ، وشخصية وطنية مرموقة يشار إليها بالبنان في مملكتنا السعودية وعلى مستوى دول الخليج أيضاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف