تفعيل ما تبقى من الطائف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يُدرك أيَّ متابع للشأن اللبناني أن ترسانة حزب الله العسكرية والعقائدية كان لها وزنها الفعلي وتأثيرها البالغ على كل لبنان وليس فقط على جنوبه وضاحية العاصمة بيروت، وذلك بفضل القوة البشرية التجيشية له وعلاقاته المميزة مع إيران وسوريا والدعم الذي يتلقاه الحزب بشكل خاص بعيداً عن سلطة الدولة، إضافةً إلى حلفاء يدورون في فلكه داخل لبنان، إذ أن الحزب قبيل العملية الإسرائيلية في 27 أيلول (سبتمبر) 2024، والتي أُعلن فيها عن اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كان بحق أعظم كتلة صلبة وموحدة على متن الباخرة اللبنانية، وكانت تلك الكتلة بتحركها في أيّ اتجاهٍ قادرة على التأثير المباشر على المحيط برمته وإحداث الخلل في توازن الباخرة ككل، وذلك بفضل الإمكانيات الهائلة للحزب مقابل هشاشة قدرات الدولة وباقي الفرقاء في عموم االبلد.
ولكن بُعيد ما يشبه الشلل الذي أصاب قوة حزب الله العسكرية والبشرية من قِبل إسرائيل، راحت الاِستنتاجات بخصوص ما بعد الحرب الإسرائيلية على الحزب تكثر وتتفاوت بنفس الوقت، منها أن الذين كانوا يُشغلون الناس والحكومة ويهيجون الجماهير ليل نهار بحجة اللاجئين السوريين سيبحثون عن قضية أخرى يعتصمون بأذيالها إلى حين، باعتبار أن اللبنانيين أنفسهم الآن صاروا لاجئين في سورية، أما عن تداعيات ما يجري في لبنان، فثمَّة تصور أنه ليس من مصلحة إسرائيل القضاء الكلي على حزب الله اللبناني باعتبار أن إسرائيل لا تريد من دولة لبنان أن تكون قوية، وطالما أنها ليست مع قوة الدولة فهذا يعني أنها مع وجود طرف ما ينازع سلطة الدولة ويحرمها من الاستقرار والسيادة على كامل الأراضي اللبنانية، ووفق هذا التصور، فإنَّ حزب الله ذريعة مهمة بيد إسرائيل لإنهاك الدولة اللبنانية كل فترة، وإرجاعها إلى نقطة الصفر من حين لآخر بحجة العدوان على حزب الله، أي أن دولة إسرائيل لن تنهي الحزب كلياً إنما ستعمل على تقليم أظافره وانتزاع أنيابه.
وثمة تصور آخر مفاده أن قوة حزب الله العسكرية والبشرية والجماهيرية ككل باتت تهدِّد إسرائيل بشكل فعلي على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وكذلك الأمر ما وراء حدود الدولتين، أي داخل الدول العربية، حيث أن العمليات التي يشنها الحزب على إسرائيل بين فترة وأخرى صنعت له رصيداً جماهيرياً كبيراً لا في لبنان فقط، إنما في باقي الدول العربية، وهذا الأمر يضر بتطبيع العلاقات مع إسرائيل من قبل الدول العربية التي في نية بعض حكامها تطبيع العلاقات معها بشكل رسمي، ولكن تلك الحكومات تخشى نقمة الجماهير والوقوف بوجهها إذا ما قامت بتلك الخطوة، وباعتقادهم أن الطرف الوحيد الذي يُدغدغ حالياً مشاعر الجماهير العربية والقادر على التأثير فيهم من خلال خطاباته التي تلهب الحشود البشرية وترفع من منسوب الأدرينالين الذي يعمل بدوره على زيادة نبض الشارع وتهيئته وتحضيره للقيام بالأنشطة الفعالة وحث المواطنين على الخروج بالمظاهرات ومساندة المقاومة، بل والذي يدفع الناس للالتحاق بصفوف المقاومين، هو حزب الله، وهذا الدور الذي بات حزب الله يلعبه لوحده بعد تحطيم قوة حركة حماس في غزة، يدفع إسرائيل للتفكير جدياً بإنهاء الحزب أو على الأقل شل فعاليته وجعله في مستوى باقي القوى اللبنانية الهزيلة؛ وبالتالي تحطيم أسطورة حزب الله كطرف عربي وحيد قادر على الوقوف بوجه إسرائيل، إذ أنه مع شل حزب الله وتدميره المادي والمعنوي، ستقضي إسرائيل على الطرف الذي يدعو إلى المقاومة في كل الدول العربية، بما أن شريحة كبيرة من الجماهير فيها ما تزال تستمد معنوياتها العالية من حزب الله وخطابات قادته، ما يعني أن تقزيم الحزب وجودياً في لبنان سيكون كفيل بإطفاء جُذوة العداء الوجودي لإسرائيل لدى المعجبين بنهج السيِّد حسن وبخطه وتوجهه وأسلوبه النضالي في باقي الدول العربية، وهذا الأمر سيعود بالفائدة ليس على إسرائيل وحدها، إنما سيكون كذلك الأمر محط ارتياح لدى بعض حكام الدول العربية الذين سيتخلصون للأبد من السلطة المعنوية لأكبر محرِّض خارجي لجمهورهم الداخلي.
وثمة تصور مغاير فحواه أنَّ إسرائيل والمجتمع الدولي يسعيان لتنفيذ القرار الدولي 1701، وهم قادرون على تنفيذه عقب إنهاك قوة حزب الله وإبعاده عن تخوم الدولتين وترسيم الحدود مع إسرائيل من جديد، ولكن في ما يتعلق بالداخل اللبناني، فمن تعوَّد على الاستفراد والاستحواذ ليس من السهولة أن يقبل بالأمر الواقع ويخضع لسلطة الدولة، بما أنَّ اتفاق الطائف هو أصلاً داخل لبنان، وطالما أن حزب الله سيبقى، ولو مخلوع الأنياب، فلن يكون بمقدور الطوائف اللبنانية تنفيذ اتفاق الطائف إن لم ير حزب الله بأنه معني بتطبيقه وله مصلحة بتنفيذه، وإن لم يرضخ الحزب، فالدول العربية والاقليمية لن تكون لها مصلحة بالتدخل في الشأن الداخلي اللبناني، لذلك فالوضع داخل لبنان سيبقى على ما هو عليه، وربما يتجه نحو الأسوأ، خاصةً إذا ما وجدت أيادٍ خفية تجر الجيش اللبناني إلى حربٍ طويلة الأمد مع حزب الله، وسيكون أمام لبنان حالة واحدة للخروج من الحرب بالفائدة المرجوة، وقد ينهض لبنان بموجبه، وذلك في حال تغيَّرت قيادات إيران الروحية، وهذا متوقع، وقد تطبع القيادات الإيرانية الجديدة مع إسرائيل، عندها ينتهي كل شيء يتعلق بذريعةٍ اسمها مقاومة.
إقرأ أيضاً: مسارُ القطعانِ في السماء
من جانبٍ آخر، صحيح أن العمليات الإسرائيلية على مواقع ومقار ومصانع حزب الله لم تسفر عن قتل أعضاء الحزب ومؤيديه لوحدهم، إنما راح في القصف الإسرائيلي العنيف عشرات الضحايا من اللبنانيين الأبرياء، كما أن الهجمات الإسرائيلية تسبَّبت بتدمير البنية التحتية لمناطق واسعة من لبنان، كما ساهمت حربها الأخيرة على الحزب في انهيار اقتصاد البلد المتهالك من قبل، وتسببت بتشريد مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء، إلاَّ أنه، بالرغم من كل ذلك، فقد يكون المستفيد من هذه الحرب هي الدولة اللبنانية، بما أنها منذ اتفاق الطائف في 1989 لم تستطع بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية، ومن ثم بدء تنفيذ كل بنود اتفاق الطائف الذي مضى عليه حوالى 35 سنة، خصوصاً في ما يتعلق القوات العسكرية خارج سلطة الدولة التي لا تتلقى الأوامر من السلطة المركزية في البلد، والذي جاء في إحدى بنود ذلك الاتفاق "الإعلان عن حل جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر"، إذ بدلاً من استمرار احتكار جبهة المقاومة ومجابهة إسرائيل من قِبل حزب الله، جاء في اتفاقية الطائف حيال بسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، فيما يتعلق بـ"تعزيز القوات المسلحة"، سيتم العمل على "توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوان الإسرائيلي".
إقرأ أيضاً: حياة الأوادم في الشمال
وحيال التطورات الأخيرة ومجمل تأثيراتها السلبية فإن التأثير الإيجابي المحتمل على لبنان ككل هو إنعاش الأمل مجدداً بعد طول سنين من خلال تطبيق كامل بنود اتفاق الطائف الذي قد يغير الأحوال في البلد بشكل كبير؛ ولكن بالرغم من أهمية ذلك فهنالك أصوات ما تزال تعبِّر عن عدم ارتياحها لمضمون اتفاق الطائف (5/11/1989) الذي يرد إليه حقيقةً الفضل في وقف الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهي الحرب الداخلية التي كانت تأكل أخضر لبنان ويابسه، إذ أن أصحاب المآخذ على جوهر الاتفاق يرون أنه كان بمثابة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، وكان إبان إبرامه الرجاء الوحيد في إنهاء المعاناة واستتباب الأمن وإعادة الإعمار وعودة الحياة تدريجياً إلى جسد لبنان الذي أثخنته طعنات الفرقاء، إلاَّ أنهم يرون فيه اتفاقاً طائفياً بامتياز، فهو حسب وجهة نظرهم لا يليق بلبنان الذي كان يوماً منارة الشرق برمته، ويرون أن مضمونه بعيد عن المواطنة الحقة التي ينبغي أن يتمتع الفرد بكامل حقوقه بموجبها من دون أي تمييز بين المواطنين أو أفضيلة فئة من المجتمع على أخرى.
إقرأ أيضاً: لأجل هذا خرجنا
على كل حال، ليس كل مؤيدي اِتفاق الطائف متحمسين لتطبيق كل بنوده، ولا كل منتقدي الاِتفاق مع نسفه كلياً، إنما الكثير من المنتمين للفئة الأخيرة مع تطويره أو إضافة التحسينات عليه أو تعديله، كما أنه عدا عن المتذمرين من فحوى الاِتفاق المذكور محلياً، فثمة أصوات من خارج لبنان ترى أن الاتفاق دون مستوى لبنان، ومن بين الكتَّاب الأجانب الذين انتقدوا الطائف بكونه رسَّخ الطائفية في لبنان وتسبَّب بحرمان فئتين من المجتمع اللبناني من حقوقها، قال الكاتب البريطاني الراحل كريستوفر هيتشينز: "تصوروا أننا كنا نذهب إلى بيروت لؤلؤة المشرق العربي، المدينة الأكثر تحضراً وجمالاً وتثقفاً في الشرق الأوسط ونرى ما يحدث لأسباب مسيسة، يوضع دستور طائفي يقول: إنّه يجب دائماً على رئيس لبنان أن يكون مسيحياً مارونياً ويجب على رئيس برلمان لبنان أن يكون دائماً شيعياً وأن على رئيس وزرائه أن يكون دائماً سنياً وأن للدروز حصتهم وهلم جراً.. تاركاً لخوفي في أسفل القائمة الكرد والأرمن"؛ عموماً، بالرغم من المآخذ على ذلك الاِتفاق، فإنَّ الفرصة قد تكون اليوم سانحة أكثر من أيَّ وقتٍ مضى لإحداث التغيير الذي كان منشوداً إبان إبرام الاِتفاقية، وذلك من خلال تفعيل ما تبقى من اِتفاقية الطائف وتطبيق باقي بنودها المعلَّقة منذ زمن توقيعها.