بالرغم من أن وزارة الخزانة الأميركية كانت قد فرضت قبل عامٍ من الآن عقوباتَ على فصيلين سوريين لتورطهما في اِرتكاب انتهاكاتٍ خطيرة لحقوق الإنسان في منطقة عفرين الواقعة في أقصى الريف الشمالي الغربي لسورية، والفصيلين هما "فرقة السلطان سليمان شاه" بقيادة محمد حسين الجاسم الملقب بــ"أبو عمشة" والفصيل الثاني هو "فرقة الحمزة" بقيادة "سيف بولاد" الملقب بـ"أبو بكر"، إلاَّ أن العقوبات الأميركية لم تخفِّف قط من حجم انتهاكات الفصيلين المذكورين، ولا استطاعت أن تقلِّص من نفوذهما أو تحد من سلطانهما المادي أو المعنوي، على عكس ما حصل تماماً على أرض الواقع، باعتبار أن حليف الحزب الحاكم في تركيا، أي زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي، استقبل منتصف الشهر الماضي زعيم الفصيلين المذكورين، أي أنه ليس فقط تم تجاهل الملف الرديء للفصيلين وموقف واشنطن منهما مِن قبل زعيم الحركة القومية التركي، إنما تم مكافأتهما معنوياً على كل ما يقومان به في عموم الشمال السوري ومنطقة عفرين على وجه الخصوص منذ عام 2018.

وحيال هذا الاِنتكاس الأخلاقي المستمر الذي يدفع الناظر للذهول مما يرى ويسمع خصوصاً ما يجري الآن في البُقعة التي تخيَّلها من قبلُ بأنها ستغدو يوماً من الأيامِ واحةً للحرية والكرامة في قلب بيداء الأنظمة الاستبدادية، ثمّة من يقول: إن ما يجري الآن في تلك المرابع هو ليس بداية صدمة طلاب الحرية في سورية، بما أن أوَّل ما انصدم به عامة السوريين الذين عانوا طوال سنوات الحزب الواحد من طغيان الأجهزة الأمنية وعسف جلاوزتها هو رؤيتهم بأم العينِ في المناطق التي لم تعد خاضعة لسلطة النظام كيف أنَّ الأجهزة العسكرية والأمنية فيها راحت بكل صفاقة تضع حافرها على حوافر الذين ثاروا عليهم في الأمس.

كما سبقهم في الصدمة علمانيو الثورة السورية وكذلك الأمر أصحاب التوجهات اليسارية في البلد، يوم سماعهم من بعض المتدينين من أقرانهم في المظاهرات السلمية بأنهم إنما خرجوا في الثورة من أجل نصرة الدين وإعلاء كلمة الله، وكأن سورية كانت دولة بوذية وخرج هؤلاء لكي يعيدوها إلى أصلها الإسلامي، أو كأن الله بكل عظمته وجلاله وسلطانه بحاجة إلى بعض الأنفار السوريين الضعاف ليقوموا بالدفاع عن الله وإعلاء كلمة الخالق القادر على كل شيء من خلال قوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ".

ولعل الصدمة الأشمل كانت لدى كل من كان حلمه الأوَّل والأخير هو أن تنتصر العدالة في ختام الحراك الجماهيري، وتغدو حرية الرأي والتعبير من قبيل تحصيل الحاصل، وتنتقل الدولة مع كل مؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية من الظلمات إلى النور، من الكبت والقمع والتنكيل والفساد إلى فضاءات الحرية والمساواة والأمان والنزاهة، حيث لم يكن في بالهم قط احتمال العودة إلى زمن ما قبل الدولة، وإلى ما هو أكثر بؤساً مما مضى على حد تعبير براتراند راسل في كتابه (العالم كما أراه) الذي يشير فيه إلى مثالب ثورة البلاشفة وكيف أن "الروسي غدا أقل حظاً من السعادة على أيام ستالين مما كان عليه في عهد القياصرة".

عموماً، فمن أبرز ما قد يشوب مسار أي ثورة في الدول النامية، هو أن غايات جميع الأطراف تبقى غائمة وغير واضحة المعالم ولا قدرة حتى للمحتك بالناس التعرُّف على مستبطنات الأفراد والجماعات، بما أن "في جوف كل إنسان تعرفه إنسان آخر لا تعرفه" حسب تعبير مصطفى صادق الرافعي، وذلك طالما أن المسألة ما تزال في إطار المجادلات والأحاديث والتصريحات الخالية من هوى المصالح الشخصية، باعتبار أن المقابح الجوفية لا تظهر للعيان إلاَّ مع استلام الفرد لأي سلطة كانت أو عَقبَ إمتلاء الجيب أو حين القدرة على الإيذاء.

أقرأ أيضاً: مسارُ القطعانِ في السماء

إذ في بادئ الأمر، تكون الأهداف العلنية متقاربة جداً، أي حين يكون الأمر مقتصراً على الجانب الكلامي إلى حد عدم قدرة الإنسان على التمييز بين مرامي وتوجهات هذا وذاك، حيث يعتقد الثائر الصادق مع نفسه آنئذٍ خاصةً إبان الحماسة بأن الهواجس بمجملها تمضي نحو مرتجى واحد، إلاَّ أن الغايات المنفِّرة سرعان ما تتكشف وتظهر للمُعاين بخلاف ما كان يتوقع، حيث أن الطحالب والعوالق تتسلق أبدان سفينة التغيير، والمزيف يتنطع باسمها أكثر من الحقيقي، والكاذب يصرخ باسمها أكثر من الصادق الذي يُضحي في سبيلها الغالي والنفيس، والتاجر يكثر الحديث عنها ويتكلم عن منافعها اللاحقة أضعاف ما يُفكر بمستقبلها المادي أولئك الذين كل همهم التخلص من غول الحاضر الجاثم على صدورهم، إذ من فيض المزاودة يتوه المرءُ بين معرفة الثائر من أجل قضية جديرة بالانتفاض أو الثائر من أجل نيل الحرية والكرامة وصون العدالة وبين ذلك الذي ينضم إلى القافلة من أجل غاياتٍ تتعارض كلياً مع أهدافها الحقيقية.

أقرأ أيضاً: الامتثال لأوامر المعتدي

في الأخير، لا شك في أنَّ غايات الناس حيال الثورة وأسبابها مختلفة، فربما كان البعض منهم سطحياً جداً كمن يُشارك في مسيرة لا يعرف مقصدها ولا الغرض منها إنما يلتحق بالركبِ لوجود أترابه فيها، أو أن منهم من كان هدفه الأول والأخير إزالة القيود حتى يفرح بعض الوقتِ بغياب السلطة ولكنه راح يبحث لاحقاً عمن يُعيد له الأمن والأمان والعمل بالقانون، أو أن منهم من كان بسيطاً وعفوياً في مطالبه ولم يكن هدفه من الخروج بالثورة بعيداً عن أماني الأطفال كما هو حال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ في قوله: "دعوتُ للثورة وأنا دون السابعة، ذهبتُ ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسًا بالخادمة. سِرتُ كمن يساق إلى سجن، بیدي کراسة وفي عينَي كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقَيَّ شبه العاريتَين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفرَّاش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضًا. غمرَتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة. ومن صميم قلبي دعوت لله أن تدوم الثورة إلى الأبد!"، ولكن بعيداً عن الأماني الطفولية المتعلقة بالرغبة في إدامة عمر الثورة لكي يستمر إغلاق أبواب المدارس، فهناك العشرات من أمراء الحرب وجوقاتهم وأزلامهم في الشمال السوري يتمنون إدامة عمر الثورة ليس رغبةً في تحقيق العدالة، ولا من أجل تحقيق شروط الحرية، ولا من أجل صون الكرامة التي هدروها كما فعل من قبلهم جلاوزة السلطة في دمشق، إنما يتمنون إدامتها حتى يتعاظم جبروتهم، وحتى يتمدَّد سلطانهم، وحتى تستمر متاجرتهم بها إلى أجلٍ غير مسمى، ولعل كل واحد منهم يقول في سره: نعم لأجل هذا خرجنا.