أردت لهذه المقالة أن تكون في شأن الإنسان "الوقح"، فلما كتبتها وأتممتها، وعنونتها "عديم الدم" جريًا على عادة اللسان المصرى في وصف "الوقح" جددت النظر فيها، وراجعت الفكرة، وحدثتني نفسي: ولِمَ لا تجعلها عن فصائل الدم البشري عند الشعب المصري، وتعنونها "بنك الدم"؟! فرأيت أن ذلك أحسن، وأطرف، والباب فيه أوسع، وشرعت في تبيان فصائل الدم الشائعة عند المصريين.

ولقد صنَّف أهل الطب الدمَ البشري زُمرًا أربعًا كبرى هي: (إيه، بي، إيه بي، أُو)، وكذلك صنَّف أهل مصر طبائع البشر زُمَرًا وفصائل، وأسموا كل طبع (دمًا)، فهذا دمه خفيف، وهذا دمه واقف، وذاك دمه حامٍ، ...، فكما كان الدم مادة حياة الإنسان، فقد اتَّخذه المصريون كذلك اسمًا لطباعه التى يحيا بها، وتحيا فيه، وهي لصيقة به، تجري منه مجرى الدم في العروق، ولا تزايله ولا يزايلها حتى يزايل الدم وريده، وهلم فلنفصل القول في فصائل الدم:

الدم الحر: يُسمع من المصريين إذا أرادوا مدح بعض الرجال أن فلانًا "دمه حُر"، و"حُر" هنا تعني أن صاحبه ذو حمية وأنفة، لا يتذلل لذي سلطان، ولا تتسلط عليه امرأة، ولا يرضى الدَّنِيَّة، ولا يعطيها، وإن شئت فقل فيه كما قال الأول: هو "فتى لا يبيت على دِمْنَة"، فمن تعرض بالسوء لعرضه رد عليه السوء بالسوء كائنًا من كان ولا يبالي، وإن أورده ذلك المهالك.

وصاحب هذا الطبع يعينه طبعه على صون حِماه، ورد الأذى والسوء عن نفسه وأهله، لكن إن هو لم يؤدب طبعه ذاك بآداب الصبر والحِلم والأناة تحول به دمه من زُمرة ذوي "الدم الحر" إلى زُمرة ذوي "الدم الحامي".

الدم الحامي: وصاحب هذا الدم تلوح لك صفته من اسمه، فهو ساخن الدم، سريع الغضب، يثور دمه ويبادر بالتعرض لمن ناله بأهون الكلمات، أو أتى أصغر الهفوات، فترى يده ولسانه مبسوطان إلى هؤلاء يلاحيهم، وإلى هؤلاء يشاتمهم، وإلى آخرين يضاربهم! ومن كانت سرعة الغضب صفته كان أبعد من الحِلم والأناة، وأقرب إلى الطيش والنزق، وعالج بالعنف ما كان هو أقدر على علاجه بالرفق.

وصاحب هذا الدم هو أبعد من التثبت ووزن الأمور، وتعقل الأشياء، وربما حمله طبعه ذاك على كثرة اللجاج، ومؤاخذة الناس بالصغائر التى يُتغاضى عنها، فإن لم يملك صاحب "الدم الحامي" طبعه أورثه ذلك الضغائن والأحقاد، وتربص به الناس الدوائر، وربما أتلف بطبعه هذا نفسه وأنفسًا أخرى فأورده ذلك المهالك.

الدم الواقف: وصاحب هذا الدم إنسان جامد الوجه والخُلُق، لا تنفرج أساريره، ولا تُرى ابتساماته، ولا يلين كلامه، ولا تسهل طباعه، فهو لا يؤلف، والقوم منه ينفرون، وعنه يصدون، وكثيرًا ما يكون جمود خُلُقه وخَلْقه هذا حائلًا يحول بينه وبين حاجاته، فإن لم يُرَوِّض "دمه" هذا على شيء من اللين شقي به.

الدم الخفيف: وصاحب هذا "الدم" تراه يُحسن الضحك والإضحاك، ويُحسن التقاط كل لمحة أو هنة أو لفتة فيصنع منها مُزحة باسمة، أو دعابة حسنة، أو تورية لطيفة، أو يتمادى فيجعل من صاحبها ضُحكة المجلس، أو يلمز بها فلانًا حتى يكون هُزأة سخريًّا بين الناس! وهؤلاء المقتصدين، وهؤلاء المُفرطين كُثُرٌ في مصر، إن لم يجد أحدهم ما يضحكه، أو يُضحِك به، فربما سخر من نفسه! فمن أجل ذلك قيل عن المصريين "شعب ابن نكتة".

وهذا الصنف على قدر ما يُضحكون، ويسعد بهم المجلس، فإنهم إن لم يهذبوا هذا الطبع، ويقتصدوا ولا يتجاوزوا، ويكتفوا من الضحك بالدعابة الخفيفة، ويكفوا عن السخرية والاستهزاء، فإن "خفة دمهم" تلك ستورثهم الأوزار، والعداوات، كما تُذهب مهابتهم، وتُخِفُّ أقدارهم، كذلك فإن كثرة المزح وتعديه إلى السخرية بكل أحد، وبكل شىء ربما يفَوِّت على صاحبه وعلى متعاطى هذا الفن من الحديث، ربما يفَوِّت عليهم مصالح كثيرة كانت ستنفعهم في معايشهم لو أعطوها قدرها.

الدم التقيل: وهو نقيض "الدم الثقيل"، وكان أطباء القلب لا يزالون يوصون الناس بكثرة شرب المياه، وتعاطى أدوية السيولة ليسلس جريان الدم، وليكونوا في عافية من لُزوجته وتخثره، فلا تنغلق شرايينهم بالجلطات والخثرات، ولعل عوام الناس في مصر كان عندهم علم من هذا، وعلموا أن تلك آفة لا تُحتمل، فأسموا الإنسان الثقيل الروح، المتظارف، الذي يتكلف الدعابات الباردة، أو يذكر اللطائف النادرة لكنه لا يحسن إلقاءها فتأتي كذلك باردة، وهو كذلك لا يُحسن تخير موقع المزحة ولا وقتها من سامعها، فربما أبكى من حيث يريد الإضحاك، وربما أغضب من حيث يريد الإبهاج، فمن أجل ذلك قالوا "دمه تقيل"؛ لأنه تضيق به القلوب، وتثقل به المجالس، ويأخذ بمخانق الأنفاس، ولا ينال منه جلساؤه إلا الكرب والضيق من سخيف قوله، وبارد دعابته.

وصاحب "الدم التقيل" هذا إن لم يتدارك ثقله بأن يكف عن تكلف المزاح والدعابة، فربما تفرق عنه جلساؤه، ونفر منه أصحابه، ونُفي من مجالسهم، وعُزل عن محافلهم.

الدم السم: وهذا الفصيل من الدماء لا يُحسن تعرفه ولا ترصده إلا النساء في مصر، فإنهن يكنين به عن الرجل ثقيل الدم، أو الذى لا يُحسن انتخاب منطقه بحضرة النساء، ولا يُحسن تهذيب القول لهن، كما يقلن "دمها سم" للمرأة إذا لم يألفن روحها، وثقل عليهن حديثها.

عديم الدم: وجد المصريون أن الدم مادة الحياة، فعلموا أن عدمه يميت الحس، ويذهب بالتمييز؛ فمن أجل ذلك قال المصريون للوقح "عديم الدم"، وهو الإنسان الذى يفعل العيب، ويأتى القبيح، ويصنع ما يتأذى به الناس من حوله من غير أن يدركه الخجل، ومن غير أن يكون له واعز من نفسه يرده، ومن غير أن يبالي بِخَفِىِّ التعريض، ولا بعلانية اللوم، فهذا "عديم الدم"! وهي مذمة لصاحبها إن كان يبالي بها، ولا أظنه يبالي فهو "عديم الدم"!

و"عديم الدم" هذا يتلقاك علانية بصريح الوقاحة، ويستقبلك جهرة بالاجتراء على حُرَمِك، ليس من دون ذلك مداراة ولا مداهنة، ولست تجده يخلط أذاه باللين، وليس يرد غضبك بالتبسم، لكن هو يُضَارُّك، ويقتحم عليك خاصة أمرك وليس يبالي بك شيئًا! فإن سكتَّ عنه ووكلته إلى ما في نفسه من الحياء والحشمة فتلك ليست بضاعته، فستراه يتمادى ويمعن، وإن جعلت رسولك إليه هين الكلام، ورقيق العتاب لم يزده ذلك إلا إفراطًا عليك، واستمكانًا منك، وفي مثله قالوا: "سكتنا له، دخل بحماره"، وأنا أزعم أنه لو استطاع لأقامك من فراشك وأجلس حماره مكانك! فهو لا يرى لأحد من الحُرمة شيئًا، ولا يرى أحدًا أحق منه بشيء!

وإنه على ضيقك "بعديم الدم" هذا، ووقح خصاله، واجترائه عليك بالأذى والتنغيص، فإن تلك الخصال التى يؤذيك بها صاحبها، هي ذاتها التى تكفيك صاحبها، وتجعلك في حل من أمرك، وإن ما يتلقاك به من سوء التجرؤ والوقاحة لَيُسقِط عنك ما عساه أن يكون في نفسك من الخجل من أن ترده أو تأخذ على يديه، فإنما يُستحيى ممن كانت له سابقة فضل، ويُتغاضى عمن تَحَرَّم منك بحرمة توجب له حقًّا، أما هذا الصنف فسابقته يد سوداء، وفعلة سوآء، فبأي شيء يُتذمم له؟! إن مثل هذا دواؤه أن يُرفع أمره لولي أمره فإما أن ينحى عنك أذاه، وإما أن يُنَحِّيه هو فتُكفَى أمرَه.

فهذا ما أحصيناه من زُمَر الدم وفصائله التى يعرفها شعبنا المصري ويُمايز بها أصحاب الطبائع المختلفة.