كنت أظن أنني على أعتاب تحقيق حلم طال انتظاره، حلم تحويل مبلغ مالي صغير إلى ثروة طائلة بضغطة زر. ولكن سرعان ما تحولت فرحتي إلى صدمة، حين اكتشفت أنني كنت على وشك الوقوع في شباك محتالين محترفين يتاجرون بآمال الناس وأحلامهم. سنأخذكم في رحلة شيقة إلى عالم الاحتيال الإلكتروني، وكيف حاولتُ كشف حقيقة منتحل شخصية مشهورة.
كان من المفترض أن يكون في حسابي المصرفي مبلغ 600 ألف ريال، ستصلني كهبة من إحدى الشخصيات المعروفة بتقديم المساعدات وعمل الخير والإحسان. وقد قررت أن أخوض مغامرة مثيرة، وأن أستدرج المحتالين إلى فخ من صنع يدي.
بدأت بمراسلة الذي ادعى أنه يمثل الشخصية العامة المعنية، وطرحت عليه العديد من الأسئلة المحرجة التي كشفت عن نواياه الحقيقية. لم يتردد المحتال في طلب مبلغ مالي صغير كضمان، بحجة أنه سيضمن وصول المبلغ الكبير إلى حسابي. كان واضحًا أنني أتعامل مع عصابة محترفة تمتلك مهارات عالية في التلاعب بالمشاعر واستغلال حاجة الناس للمال.
القصة حدثت كالتالي: إحدى السيدات التي تحمل اسماً وصفة اعتبارية لشخصية مهمة من النساء اللاتي عرفن بأنهن وسطاء خير، ادعت أنها تدير طلبات الناس وترفعها للشخصية الاعتبارية. أولاً، بدأت بمتابعتي على منصة X. ومع أنني أعلم مسبقًا أن هناك الكثير من الحسابات التي تزور أسماءً وتزعم أنها قادرة على الحصول على المساعدة، إلا أنني فكرت في أن أخوض تجربة صحافية لأصل لمعلومات مهمة عن هؤلاء. على الخاص، خاطبت صاحبة الحساب التي تقول إنها من أسرة مهمة، وخاطبتها بكلمة "أميرة". بعد التحية والاحترام، طلبت منها رقم هاتفها الخاص، وبالفعل، بعد لحظات وصلني الرقم وكان رقمًا محليًا.
كان لا بدَّ من اختلاق قصة لمسايرتها في الحديث وكشف المزيد من المعلومات عن الطرق التي يتبعها هؤلاء الذين ينتحلون أسماء وشخصيات لها مكانتها الاجتماعية. فأخبرتها أنني أحتاج إلى مساعدة من الشخصية التي تمثلها لشراء منزل، وينقصني بعض المال. سألتني كم أحتاج، فأخبرتها أنني بحاجة إلى 600 ألف ريال لأكمل باقي المبلغ. ردت عليّ بعد لحظات قصيرة على تطبيق واتساب، وحتى بروفايلها على الواتساب يحمل صورة القيادة السعودية وتحته مكتوب "مديرة الشؤون المالية في مؤسسة الشخصية التي تعمل معها". وكتبت أيضًا: "تقدم بطلب الحصول على مساعدة. نقدم الخير بلا حدود. نقوم بدعم وإطلاق المشاريع الإنسانية حول العالم وخاصة لأبناء الخليج العربي". وفي أسفل التعريف، وُضع اسم "المكتب الرسمي".
ردت عليّ بعد دقائق بأن الموافقة قد صدرت بمنحي مبلغ 600 ألف ريال. فسألتها عن كيفية الحصول على المبلغ، فأخبرتني أن المبلغ سيُوضع في حسابي فورًا. لاحظوا كلمة "فورًا"، كيف تمت الموافقة من شخصية معروفة في المجتمع ورجل أعمال معروف ومن أسرة مهمة على مبلغ كبير جدًا؟ ربما لو طلبت موعدًا لمقابلته شخصيًا، لكان استغرق الأمر أسابيع حتى يجد وقتًا لمقابلتي. فكيف بمبلغ مثل هذا يُوافق عليه فورًا؟ عادت مرة أخرى وأرسلت لي رسالة وسألتني: "هل أنت جاد في الحصول على المبلغ؟" قلت بالطبع، أكاد أطير فرحًا لأن هذا المبلغ سيفك لي أزمة مالية أسدد بها ما عليّ من التزامات وأشتري لنفسي سيارة جديدة. عادت بعد دقائق لتقول لي: "من شروط تقديم المساعدة لدينا هو أن تدفع مبلغ تأمين لتأكيد البيانات لدى نظام المؤسسة ونظام التحويل المباشر، ويضمن لك نزول مبلغ المساعدة باسمك من غير أي مساءلة بنكية لأن المبلغ كبير". وأخبرتني أن مبلغ التأمين مسترد، وسيُضاف إلى مبلغ المساعدة.
طلبت منها رقم الحساب الذي سأدفع من خلاله مبلغ التأمين، وكنت متأكدًا أنها لن تعطيني حساب المؤسسة الخيرية التي تحمل اسم الشخصية الاعتبارية. وبالفعل، عادت بعد دقائق وأخبرتني أنه لا يسمح بتحويل مبالغ صغيرة إلى حساب المؤسسة. وعليه، يجب التحويل عبر حساب مندوب التحويلات والإيداعات لكي يتم إطلاق أمر الصرف الخاص وإنزال المبلغ في حسابي عن طريق حساب المندوب. يعني هذا أن يُدفع مبلغ التأمين في حساب المندوب، ومن ثم يحول بدوره من حسابه مبلغ المساعدة وقدره 600 ألف ريال. سألتها عن مبلغ التأمين، فأرسلت لي رسالة مطولة تحمل الرقم F217 وبجوار الرقم كلمة "سيستم كنترول المالية"، وتحتها اسم المندوب المالي وتحمل اسم شركة تعمل في مجال التشييد والنقل والتجارة. وفي نفس الرسالة، رقم الحساب المصرفي ورقم الآيبان في أحد البنوك الكبرى المحلية. أما مبلغ التأمين الذي يجب أن أدفعه لحساب المندوب المالي، فهو 3500 ريال. وطلبت مني هذه الشخصية الوهمية، التي تزعم أنها من أسرة معروفة اجتماعيًا في عمل الخير، أنه فور تسديدي لمبلغ التأمين وإرسال صورة من التحويل، سيتم وضع مبلغ 600 ألف ريال في حسابي المصرفي.
إقرأ أيضاً: السعودية والدولة الفلسطينية.. جهود دبلوماسية وانتصارات قانونية
أحداث دراماتيكية وأكشن كنت أعيشها. كل هذا الحوار تم في الحادية عشرة ليلاً. لكم أن تتخيلوا أن تصدر موافقة على تقديم مساعدة بهذا المبلغ الكبير في حوار استمر فقط 120 دقيقة على الواتساب. طلبت منها أن تمهلني إلى صباح اليوم التالي حتى أسدد مبلغ التأمين. عادت في الواحدة ليلاً تسألني: "هل أنت جاد أم تريد الانسحاب؟" فأخبرتها: "كيف لشخص مثلي، محتاج لهذا المبلغ، أن ينسحب بسهولة؟" فقالت: "أريد كلامًا أكيدًا". فقلت لها: "طيب، سأدفع الآن من جوالي، لن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً". فأخبرتها أن المبلغ المطلوب ليس معي، وفي بطاقتي فقط 1500 ريال. عادت تطلب أن أرسل صورة للشاشة من هاتفي، يظهر فيها المبلغ الموجود في الحساب. عدتُ أقول: "يا أميرة، أنتِ من عائلة محترمة، لا يصح أن تكون هذه لغتكِ مع أن الوقت متأخر... والدنيا ما طارت، الصباح رباح".
لكم أن تتخيلوا عدد الأشخاص وراء هذه العصابة التي تضحك على البسطاء والميسورين، وتستغل اسم شخصية اجتماعية معروفة، وينتشرون بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي. تجد في منصات ومواقع مختلفة حسابات عديدة لنفس الشخصية وبنفس التعريف على حساباتهم بأنهم ينتمون لجمعية خيرية، ويضعون صورًا لقيادات سعودية، وذلك لتشكيل صورة ذهنية لدى الناس.
إقرأ أيضاً: “الأم المستأجرة" حين تصبح الرعاية الأسرية خدمة مدفوعة
طبعًا لم تنتهِ القصة. من ناحيتي، حظرت رقم الواتساب الذي كنت أتخاطب معه، وسألت أحد الزملاء كيف يمكنني الإبلاغ عن الاحتيال والجرائم المعلوماتية. أحدهم اقترح أنَّ تطبيق "كلنا أمن" يفي بالغرض. وبالفعل، حمَّلت التطبيق ووجدت أن الخيارات الموجودة فيه يصعب التعامل معها. لا توجد خيارات للإبلاغ عن مثل هذه الحالات، وخانة الجرائم المعلوماتية تطلب مني مراجعة أقرب مركز شرطة، مع أنني لا أحتاج إلى مراجعة قسم الشرطة أو تقديم بلاغ، لأنني لم أتعرض للاحتيال، وإنما أريد الإبلاغ عن أشخاص ينتحلون شخصيات ويبتزون الناس. استعنت بصديقنا Google، الذي أدخلني في متاهات مواقع وإدارات. دخلت موقع وزارة الداخلية بحثاً عن خانة لتقديم مثل هذه البلاغات، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل. كان كل همي أن أعطي البيانات للجهات المعنية فربما تصل إليهم، خاصة أنني أعرف رقم الهاتف ورقم الحساب المصرفي، واسم الشخص الذي يستخدمون حسابه المصرفي. هل هو شريك معهم؟ بالتأكيد هو على علم، وربما يقودنا التحقيق إلى العصابة وعدد أفرادها، وربما نستطيع إعادة أموال الناس الذين تم خداعهم. على العموم، فرحتي بمبلغ 600 ألف ريال كانت ستصلني، تبخرت. إلا أنني استمتعت بممارسة هوايتي الصحفية للوصول إلى معلومات قد تقود إلى كشف هوية الشخصية الوهمية، وأيضًا توعية المجتمع حول طرق وأساليب الاحتيال وضرورة أن يكون الكلّ يقظًا ونبيهًا لمثل هذه السلوكيات. على العموم، كل البيانات المطلوبة موجودة لدي، وأنا مستعد لتقديمها للجهات التي تطلب التحقيق فيها. والعوض على الله على الحلم الذي تبخر.
التعليقات