يجد قارئي الكريم في هذه المقالة نبذة يسيرة من المعرفة عن أقوام يهمنا التبصر بهم واستجلاء كُنه ضمائرهم. ولك أن تُلحقها بباب "اعرف عدوك"، فلن تجافي الحق. فإن قرأتها وتبصرت فيما وراءها، فقد فطنت وأفدت.

ولعلك مثلي، أخي القارئ، قد طال بك العجب، واشتدت عليك الحيرة لما تراه من هذا الميثاق الغليظ المنعقد بين بلاد ما وراء بحر الظلمات و"السلطة العبرية" في الأرض الفلسطينية المحتلة. ولعلك مثلي قد صرت تصرف وجوه النظر وتقلب وجوه الرأي لتتبين كُنه هذا العقد المبرم وجلية هذا الميثاق، فلا يحضرك في أمره قليل ولا كثير. كلنا يرى أن حماية الأمريكان للدولة العبرية ليست كسائر الأحلاف والمعاهدات التي تبرمها الأمم دفاعًا عن حلفائها أو حماية لمواطن نفوذها، بل هي حماية إخوة الدم والرحم! ورعاية حكومة لولايتها الحادية والخمسين! فما تلك العروة الوثقى التي بين الفريقين؟! وما عقدتها؟!

أقولها من غير تورية ولا تكنية: إن العروة الوثقى بين الفريقين هي الديانة الجامعة لهما. وإن لك أن تقول: كيف ديانة جامعة، والأمريكان إما ملحدون لا يدينون بدين، وإما مسيحيون يؤمنون بالمسيح إلهًا وبأن يهودًا سعوا بهذا الإله ليهان ويُقتل؟ وأما اليهود فإلههم "يَهْوَه"، ولا يرون المسيح إلهًا ولا نبيًّا، بل يرمونه بالسوء والقبيح؟! فأي دين يجمع الفريقين؟! فأقول لك: تجمعهما "المسيحانية"، أي الإيمان بمسيح مخلِّص يأتي آخر الزمان فيقيم مملكة الخير والحق على أرض فلسطين. وأكثر الأمريكان ليسوا من الملحدين، ولو بدا لك منهم ذلك، لكنهم يدينون بالمذهب البروتستانتي الإنجيلي. ومما يؤمن به البروتستانت الإنجيليون أنه سينزل المسيح ابن مريم في رجوعه الثاني ويحكم العالم ألف سنة من الخير والرخاء، فينبغي أن يسبق مقدمه قيام دولة اليهود على كل أرض فلسطين، وإقامة الهيكل مكان المسجد الأقصى. وهم يرون أنهم كلما ثبَّتوا لليهود أركان دولتهم فقد عجَّلوا بمقدم "مسيحهم". وعلى هذا الإيمان يمضي ساسة أمريكا، وإعلاميوها، ورجال المال فيها. وقد نالنا نحن من هذا الإيمان بلاء عظيم، لا سيما أهل فلسطين. فإن كل فئة من تلك الفئات تجاهد في سبيل رجعة "مسيحهم" بما تستطيع؛ فالساسة والرؤساء يمضون المراسيم ويأمرون بالحروب ويعينون المعتدي على عدوانه، وأهل الإعلام ينطقون بالكلمة فيوجهون الجماهير إلى نصرة صهيونيتهم، وأرباب المال يعينون بأموالهم. فإذا علمت ذلك، فلن تعجب لما تراه من مبادرتهم واستباقهم في تثبيت سلطة الدولة العبرية والتنكيل بالفلسطينيين. فالأمر عند الأمريكان ليس فيه كثير من فسحة السياسة ولا سعة مسالكها، ولا يجوز فيه ما يجوز فيها من الأخذ والرد، والمهادنة والموادعة. بل الأمر عندهم دين ومذهب. من أجل ذلك ترى الخلاف بين الديموقراطي والجمهوري في كل شأن وفن، فإذا ذُكرت "إسرائيل"، فلن ترى اختلافًا بين جمهوري وديموقراطي، بل الكل يتنافس في مرضاتها تعجيلًا بنزول "مخلِّصهم". فإذا نحن علمنا ذلك، لم نكن لنعجب حين جاء عتاد الأمريكان من وراء بحر الظلمات محمولًا على "جسر جوي" ليمد اليهود حين انهزموا في حرب 6 من تشرين الأول (أكتوبر). ولن تعجب أن تراهم اليوم في حرب 7 تشرين الأول (أكتوبر) بعد نصف مائة من السنين أو تزيد ينثرون خزائن السلاح الأمريكي بين يدي الجيش العبري ليبيدوا بها الغزيين. ولن تتحير حين ترى هذه البوارج والأساطيل الأمريكية مستنفرة، وقد أقبلت على بحارك تريد حراسة "الدولة العبرية" والدفع عنها!

إقرأ أيضاً: العيال كبرت

ولليهود كذلك "مشيحهم المرتقب"، وهم يوافقون الإنجيليين أنه ليأتي هذا "المشيح"، فينبغي أن تكون لليهود دولة على كل أرض فلسطين، وأن يُقام الهيكل مكان الأقصى لتعجيل ظهوره. من أجل ذلك ترى ذلك الحلف الصهيومسيحي قائمًا لا يفتر، محاربًا لا يوادع لتتم لهم النبوءة الكتابية.

لكن فمهلًا، لعلك تظن أن ترافق هؤلاء وهؤلاء وتوافقهم في البدايات قدمًا بقدم وكتفًا بكتف إنما هو لاتفاقهم في النهايات المرجوة لكل منهم. كلا، فالأمر على خلاف ذلك، فإن مسيح "الإنجيليين" الذي يرتقبون رجعته إنما هو المسيح ابن مريم، أما "مشيح" اليهود فهو ملك من نسل داود لم يأتِ بعد ولم يُبعث من قبل. فذلك اختلاف في صفة "المنتظر"، وبين المسيحين اختلاف آخر سيفضي إلى إهلاك أحد الفريقين على يد هذا "المنتظر". فاليهود يرون أن "مشيحهم" حين يأتي لن يقبل من الأديان إلا اليهودية دينًا، ويستأصل ما سواها من الأديان. والإنجيليون يرون أن "مسيحهم" لن يقبل من الناس إلا المسيحية دينًا، فإما أن يتحول اليهود إليها أو يهلكوا!

إقرأ أيضاً: مَالَ واحتجب!‎

فإن شئت عجبًا، فها هو قائم حاضر بين يديك عند هؤلاء الذين اصطلحوا على التآزر فيما بينهم حتى يصلوا إلى يوم الملحمة الكبرى فيفني أحدهما صاحبه! وكلاهما يعلم تربص صاحبه به، وكلاهما يتغافل عن تلك النية من حليفه، بل يعينه عليها ليظفر بمسيحه، ثم يدع الخواتيم للخواتيم!

وإن شئت موعظة وتذكرة، فانظر أخي، كيف فرقت هؤلاء دياناتهم ومذاهبهم والضغائن القديمة بينهم، ثم هم اليوم حين وجدوا حاجة مطلوبة وهمًّا جامعًا اجتمعوا عليه ليبلغوا حاجتهم تلك على أن يعودوا فيستأنفوا ما انقطع من عداوتهم القديمة حتى يستأصل أحدهم حليفه!

فافطن إن كنت من أهل الفطنة!