أيا كان حجم وقوة المواجهات المرتقبة في لبنان، فإن صيغة العيش، وبالتبعية صيغة الحكم، أصيبتا في الصميم وربما في مقتل.
إعادة الإعمار الاجتماعي والثقافي والسياسي في ظل انهيار دولة المؤسسات أصبح حلمًا بعيد المنال. وما عاد مفيدًا المضي في شعار العيش المشترك في ظل "أسقف المواطنات" التي يستظل بها المجاميع اللبنانية المختلفة.
انهار سقف المواطنة مع تفتت المؤسسات، وتصدعت جدران الوحدة مع تناقض الأولويات، فكان الانهيار الاجتماعي بعد سلسلة الانهيارات السياسية والاقتصادية والمعيشية. كل ذلك يشي بأن لبنان دخل مرحلة استحالة المضي بصيغة الحكم الحالية.
لبنان ما بعد الثامن من أكتوبر عام 2023 ليس كما قبله.
منذ السابع من أكتوبر الماضي، موقعة التحول في الصراع العربي الإسرائيلي، كتبت في أكثر من مناسبة أن تسونامي طوفان الأقصى سيكون أشد فتكًا من الطوفان نفسه بخارطة المنطقة سياسيًا وديموغرافيًا، وها نحن اليوم أمام خارطة طريق جديدة لتقاسم السلطة.. ما تبقى من سلطة في الأراضي الفلسطينية.
في لبنان، أطلت رياح العصف بصيغة الحكم مجددًا مع تبني رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عام 2020 مشروع اللامركزية الإدارية والمالية، الأمر الذي سقط كالصاعقة على القوى السياسية باعتباره مشروعًا تقسيميًا، فكان أن أشهر المفتي الجعفري الممتاز عبد الأمير قبلان مشروع نسف صيغة الحكم بقوله: «نؤكّد أن أصل نشأة لبنان تمّ على أساس طائفي واستبدادي، بوظيفة خدمة المشروع الاستعماري والاحتكاري، وهذه الصيغة قد انتهت، وما قام به بشارة الخوري (الرئيس اللبناني في عهد الاستقلال) ورياض الصلح (أول رئيس للحكومة بعد الاستقلال)، لم يعد يصلح لدولة إنسان ومواطن، بل أيضاً مرحلة انتهت، ولذلك مطالبون بإسقاط الصيغة الطائفية لصالح دولة القانون واللاطائفية».
آنذاك، لم تكن الظروف مواتية إقليميًا ودوليًا لشحذ المواقف فكانت هدنة الأمر الواقع بسبب الوضع الإقليمي.
بعد الثامن من أكتوبر 2023، حين قرر حزب الله دخول الحرب إسنادًا لجبهة غزة، دخل المكون الشيعي المعركة على أرضية هشة داخليًا، وطوائف صيغة الحكم (السنة والموارنة والشيعة) يحكمها واقع "ما حدا بيشبه حدا".
في ظل هذا العزل الخليجي العربي لأركان الصيغة، خرج زعيم تيار المستقبل سعد الحريري من الساحة، اضمحل الدور السني أحد روافد صيغة الحكم. وانسد أفق العمق الغربي، الفرنسي تحديدًا، أمام المكون الماروني في ظل انحسار التعاطي الأميركي الغربي مع الثنائي الشيعي في الملفات الكبرى، فيما يتأرجح القرار الشيعي، المكون الثالث لصيغة الحكم، على تناقضات التفاهمات الإقليمية والدولية.
أما الأقليات التي تشكل ما يمكن وصفه بـ"صيغة النظام" في لبنان، فإنه وبحكم غياب الارتباط الإقليمي والدولي تمتلك "رشاقة" في إعادة التموضع السياسي بما يحمي وجودها ومستقبلها وسط رمال المعادلات الإقليمية المتحركة.
ختامًا، ضبابية المشهد الإقليمي لا يمكن أن تحجب التفاهم الصلب الأميركي الإيراني. ومخطئ من يظن أن تسونامي هذا التفاهم لن ينعكس على لبنان.
من أرض المعركة تُخط صيغ السلام.. والحكم، فأي صيغة حكم تنتظرنا في لبنان؟