على خلفية موجة من التهديدات الإيرانية المتوالية منذ استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس الإرهابية" إسماعيل هنية في طهران، بات الشغل الشاغل للجميع في منطقة الشرق الأوسط والعالم يتمحور حول رد الفعل الإيراني المتوقع، وفي ذلك تنقسم الآراء والتصورات ووجهات النظر بين خيارين لا ثالث لهما هذه المرة أولهما عملية إيرانية محدودة ومحسوبة وفي إطار تنسيق قائم على حفظ ماء الوجه دون الاندفاع والتهور إلى حد الحرب الشاملة مع دولة إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة التي أعلنت بشكل واضح التزامها التام بالدفاع عن أمن دولة إسرائيل، وثاني الخيارات هو رد عسكري إيراني يسعى من خلاله النظام الإيراني لاستعادة هيبته وكرامته التي إنتهكت وبعد الاهانة الكبرى التي لجقت به جراء عمليات الاغتيال المتلاحقة سواء في خارج إيران أو داخلها، وبالأخص عملية اغتيال هنية الذي كان في ضيافة إيران رسمياً للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الجديد.
الشواهد تقول أن قرار الرد ومستواه هو بيد إيران بالأساس ومن ثم أذرعها الميلشياوية الإرهابية التي تأتمر بأمرها، والبيئة الاستراتيجية هذه المرة تبدو مختلفة فدولة إسرائيل قد لا تكون على استعداد للصمت على/ أو لدفع كلفة أي رد إيراني حتى لو كان استعراضياً، حيث تسعى حكومة نتنياهو إلى إعادة ترميم الصورة واستعادة قوة الردع والهيمنة الاسرائيلية اقليمياً بشكل تام من دون أي منازعة من جانب خصومها وبأي درجة من الدرجات.
النظام الإيراني يدرك بدوره أي المسألة لم تعد تحتمل أي رد محدود، وأن هذه الفكرة لم تعد تكفي لاستعادة الكبرياء الوطني المنتهك، وأن الرد على اختراق دولة إسرائيل الداخل الإيراني بهذه الصورة إن لم يكن بنفس القوة والتأثير فلن يمكن اقناع الشعب الإيراني أو الخارج بفاعليته.
صحيح أن من الوارد أن تتوافق الآراء من خلف الكواليس على رد إيراني محسوب يعقبه رد إسرائيلي محسوب كذلك في إطار عملية مدارة لإعادة ترسيم قواعد الاشتباك، ولكن النظام الإيراني يدرك كذلك أنه يواجه أخطر عملية استدراج للحرب في تاريخه، ويدرك أن حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ترى في الظروف الدولية، والأمريكية على وجه التحديد، فرصة نادرة لتحييد التهديدات الإيرانية والتخلص من جميع من تراهم دولة إسرائيل أعداء لها والقضاء على جميع التهديدات التي يتعرض لها الشعب الإسرائيلي باعتبار ذلك السبيل الأمثل لاستعادة الثقة داخلياً في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والتخلص من آثار الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر الذي شنته حركة "حماس الإرهابية" وخلف جرحاً عميقاً لا يزال ينزف في الوعي الجمعي الإسرائيلي.
برأيي، أن النظام الإيراني لن ينظر للأزمة كما نراها كمراقبين أو يراها العالم من حولنا، فهو نظام براجماتي لدرجة بعيدة للغاية، وإذا كان مؤسس النظام الخميني قد وقع اتفاقية نهاية الحرب مع العراق مصحوباً بمقولته الشهيرة "أنا اتجرع كأس السم كم أشعر بالخجل"، فإنه لم يخطأ تقدير مصالحه سوى مرات نادرة، وقناعتي أنه سيمضي وراء هذه المصلحة مجدداً لأن المغامرة برد عسكري واسع على عملية اغتيال "هنية" تبدو مقامرة مفتوحة على الاحتمالات كافة بما فيها منح دولة إسرائيل والولايات المتحدة وربما بقية دول الغرب فرصة ثمينة للتخلص من تهديد البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، فضلاً عن تدمير كل ما يدعي النظام الإيراني بنائه طيلة العقود الماضية، ولاسيما مايتعلق بالثقل والنفوذ الاقليميين، حيث يمكن أن تنتهي للأبد استراتيجية الحرب بالوكالة بالقضاء على الأذرع الإرهابية الميلشياوية الإيرانية في لبنان واليمن والعراق والأراضي الفلسطينية، وإلزام إيران مجدداً بالبقاء داخل حدودها الاقليمية وانهاء سياستها التوسعية إقليمياً.
علينا أن نتذكر الآن أن المرشد الأعلى علي خامنئي يستحضر الآن كل خبراته وذاكرته التاريخية والسياسية ونهجه البراجماتي الشديد قبل اعتماد أي قرار بشأن حدود الرد على عملية اغتيال هنية، وسيوازن بدقة شديدة بين مصير النظام داخلياً، وبين تداعيات أي عملية عسكرية مفترضة في هذا الشأن، ومن ثم لن يخجل مطلقاً من تبني نهج توخي الحذر والعودة لخطاب الرد المناسب في المكان والتوقيت المناسب طالما أن ذلك سيضمن بقاء النظام بمعزل عن خطر السقوط، حتى وإن واجه اتهامات الضعف وموجات السخرية والاستخفاف داخلياً وخارجياً، فهو يعرف جيداً ملابسات الظروف الراهنة دولياً، وأنه لا قدرة لإيران على مواجهة رئيس أمريكي في نهاية ولايته ولا يخشى تأثير أي حرب على صناديق الانتخابات، بل يريد أن يكتب لنفسه تاريخاً جديداً في دعم ومساندة دولة إسرائيل، ناهيك عن ترجيح كفة المرشحة الديمقراطية في مواجهة المنافس الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب الذي أعرب عن دعم غير محدود لإسرائيل.
الواقع يقول أن قرار خوض حرب شاملة ضد دولة إسرائيل وسط هذه الظروف الدولية هو مخاطرة كبيرة أو بالأصح انتحار للنظام الإيراني، ولذلك فهو خيار استراتيجي خطير ومستبعد بدرجة كبيرة، ودولة إسرائيل كذلك لن تقبل بالتعرض لرد إيراني يقوض ـ ولو جزئياً ـ ما حققته من مكاسب استراتيجية كبرى بعمليات الاستهداف الاستخباراتية الأخيرة وأبزرها اغتيال أهم قيادات أعدائها "هنية" و "فؤاد شكر" القائد بحزب الله، بكل ما يعنيه ذلك من استعادة زمام المبادرة والقدرة على الاستجابة للتحديات، واثبات دولة إسرائيل يدها الطولي، وفي جميع الأحوال فإن قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين إيران وحلفائها من ناحية، وإسرائيل من ناحية ثانية، قد تغيرت أو في طريقها للتغير، وأن جميع السيناريوهات تبقى مفتوحة على جميع الاحتمالات سواء على المدى القريب أو البعيد.