تزخر منطقة الشرق الأوسط بتاريخ طويل من عمليات الاغتيال التي أثرت على مساراتها السياسية ودوائر قراراتها. فمنها ما هدف إلى تغذية صراعات وحروب، ومنها ما كان سببًا في نهايتها. ولعل اغتيال بطرس غالي في مصر عام 1910، وتوفيق الخالدي في شباط (فبراير) 1924 في العراق، يُعتبران من أوائل عمليات الاغتيال السياسي في المنطقة، وهو ما فتح الباب أمام هذا النهج لتحقيق مآرب سياسية، تعالج احتقانات داخلية في بلدان عربية شهدت انقسامات بين مكونات سياسية وعسكرية.

سار الإخوان المسلمون على هذا النهج في أربعينيات القرن الماضي باستهداف أحمد ماهر، وأحمد الخازندار، ومحمود النقرشي، في تبنٍ واضح لثقافة الاغتيال المباشر والتصفية الجسدية لتحقيق مكتسبات سياسية من مصر الملكية، وتفريغها من منافسين سياسيين لفكر الجماعة الناشئة في تلك الفترة. ثم جاء انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 لينقل هذا النهج إلى عصر الجمهورية، حيث تعرض الرئيس جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال على يد الجماعة أثناء إلقائه إحدى خطبه. انتقلت هذه الثقافة إلى جميع الجماعات الدينية التي انبثقت من الجماعة الأم، واستخدمت العنف لنشر أفكارها والتخلص من خصومها.

لم تتبنَ الجماعات الإسلامية وحدها هذا النهج، بل شاركتها قوى وحركات يسارية راديكالية في تأجيج الصراعات وتغذيتها، كما ذكر في بداية المقال. وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط العديد من عمليات الاغتيال السياسية والعسكرية، نتيجة لتصاعد النزاعات بين أنظمة عربية. استخدمته قوى وأحزاب وجماعات وحركات مسلحة لضبط التوازنات السياسية، كضرورة لإنهاء حقبة سيطرة بعض القيادات، وتأسيس قيادات جديدة تضفي نوعًا من التغيير المطلوب للخروج من حالات الانسداد السياسي أو حلحلة ملفات المنطقة المعقدة والمتشابكة. فغابت وطمست حقائق، وظهرت وقائع ودُسّت معطيات تخدم الرواية التي كانت لها أكثر من قراءة وتحليل.

ملوك ورؤساء ورؤساء وزراء وشخصيات سياسية وقيادات حزبية وفكرية ودينية وصحافيون وقادة ميليشيات وحركات مسلحة، جميعهم شكلوا أهدافًا لعمليات اغتيال شهدتها معظم دول الشرق الأوسط. في معظم هذه الحالات، يبقى الفاعل مجهولاً، بل يكون هناك أكثر من طرف مستفيد، مثل اغتيال عبدالله عزام، أحد قادة ومنظري تنظيم القاعدة، حيث تقاطعت في قتله أكثر من جهة لإزاحته من المشهد "الجهادي" آنذاك.

إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، ندرك أن سمة "تقاطع مصالح الأطراف" في عمليات الاغتيال هي نهج متبع للهروب من تحمل المسؤولية وتداعياتها.

مراجعة تاريخ عمليات الاغتيال التي جرت على الساحة اللبنانية إبان حقبة الحرب الأهلية وما قبلها، تكشف أنَّ هناك أكثر من جهة مستفيدة، بل هناك جهات لها مصلحة من هذه الاغتيالات، وهو ما يفتح باب التكهنات بوجود تنسيق بين أجهزة ودول وحركات لاتخاذ قرار الاغتيال. يظهر هذا في اغتيال شخصيات مثل كمال جنبلاط، وبشير الجميل، ورشيد كرامي، ورينيه معوض، وداني شمعون، وباقي القيادات الحزبية والميليشياوية اللبنانية. فالحقيقة هي الضحية الأولى، وأطراف عديدة فاعلة على الساحة السياسية اللبنانية تستفيد بشكل ما، من خلال علمها المسبق، وتوظيف عمليات الاغتيال في سياق مصالحها وأجنداتها.

في حديث لرئيس الاستخبارات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل، لبرنامج الصندوق الأسود الذي أنتجته "القبس" الكويتية، أكد أن اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن من قبل جماعة صبري البنا (أبو نضال)، أعطى المبرر لأرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، لاجتياح بيروت. اغتيال كهذا – بحسب وجهة نظر المقال – لم يكن ليتم دون علم جهات داخل عراق صدام أو ليبيا القذافي، الداعمتين لهذا "المرتزق" وعملياته. في المقابل، لا ينفي ذلك مصلحة نظام حافظ الأسد في إضعاف الساحة اللبنانية بعد فشل محاولات اغتيال قادة لبنان – التي قام بها النظام – في بسط نفوذه على بيروت. فكان لا بد من قوة عسكرية كبيرة تضعف الجميع وتخرج الفلسطينيين من المعادلة، وهو ما تحقق في ما بعد، حسب تسلسل الأحداث التاريخية التي تؤكد أن نظام الأسد هو المستفيد من كل ما جرى.

إذا كانت المصلحة سورية في الاغتيال، والأوامر ليبية أو عراقية، فإن التوظيف من قبل جماعة "أبو نضال" دفع إسرائيل إلى اجتياح لبنان. لكن العكس حدث في اغتيال صلاح خلف، حيث تقاطعت مصالح بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل في اغتيال قيادات فلسطينية. هذا ما يؤكده الصحافي والسياسي الكويتي محمد الصقر في استنتاجه حول الجهة التي اغتالت رسام الكاريكاتير ناجي العلي، حيث أكد في برنامج "السطر الأوسط" أنَّ إسرائيل تقف وراء عملية الاغتيال عبر عميل فلسطيني مزدوج، مستغلة الخلاف بين ناجي العلي وياسر عرفات، وفقًا للتحقيقات البريطانية.

في برنامج "الصندوق الأسود"، يسرد الصحافي الكويتي فؤاد الهاشم تفاصيل حادث اغتيال عماد مغنية، الذي كان في اجتماع مع قاسم سليماني في العاصمة دمشق. حيث ذكر طريقة دخول عناصر مجموعة الاغتيال عبر الحدود السورية، وزرعهم المادة المتفجرة في سيارة مغنية، وانتظارهم رحيل سليماني بسيارته عن سيارة مغنية ليقوموا بالتفجير، حيث أكد أن عناصر المجموعة كانت لديهم تعليمات بعدم استهداف سليماني، حسبما ذكرت مصادره في حينه.

هذا دليل على علم إيراني وموافقة على عملية اغتيال مغنية، وتسهيل من نظام الأسد الابن لإزاحته من المشهد السياسي والعسكري داخل حزب الله، وتعزيز سيطرة وسلطة الأمين العام للحزب حسن نصرالله.

إقرأ أيضاً: تهديد إيراني عبر الحوثي باستهداف السعودية

تمامًا كما قامت إسرائيل باغتيال عدد من قيادات حماس، لتمهيد الطريق أمام قادة آخرين متواطئين مع أجهزتها الاستخباراتية، ليحققوا مصالحها في ضرب وإنهاء المشروع السياسي الفلسطيني، بتنفيذ انقلاب دموي أدى إلى فصل غزة عن الضفة الغربية، والدخول في حروب أسهمت في تطوير تكنولوجيا السلاح العسكري الإسرائيلي.

ما سبق يؤكد مقاربة المقال بأن الاغتيالات في الشرق الأوسط لها أكثر من أب وأم واحدة. فهناك جهات لها مصالح متقاطعة، وهناك جهة منفذة، ولا يمكن فصل الاغتيال عما يسبقه من تنسيق وتعاون وعلم مسبق لهذه الجهات. بالنظر إلى الاغتيالات التي تمت في العراق بعد سقوط نظام صدام، نرى أنها خدمت تغول وتكريس النفوذ الإيراني، برضى أميركي، رأت فيه استقرارًا مطلوبًا لتحقيق مصالحها، بإزاحة بعض الوجوه عن المشهد داخل العراق.

كما استخدم نظاما البعث في العراق وسوريا الاغتيال في سبيل استقرارهما وترهيب معارضيهما، وتمدد نفوذهما وتقويته خارج بلديهما، ساقت إيران عبر أدواتها الاغتيال لتحقيق أجنداتها في المنطقة.

إقرأ أيضاً: نتنياهو الراقص على حبال الحرب والسياسة

اليوم، تقف المنطقة وشعوبها أمام فرضيات اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، حيث يتبنى هذا المقال فرضية بأن أوساطًا وأجهزة داخل إيران سهلت عملية اغتيال هنية لتحقيق مصالح ومسارات سياسية، كان أولها الدفع لاختيار يحيى السنوار رئيسًا للحركة، وحصر إدارة الحرب وورقتها التفاوضية بيده فقط ليكون بوقًا إيرانيًا ينفذ أجنداتها.

وإلى حين ظهور الحقيقة والإجابة عن الأسئلة: من هي الجهة التي تقف خلف التنفيذ وطريقته؟ تبقى مصلحة إسرائيل في الاغتيال قائمة، إذ لن تقدم خدمات مجانية باغتيال هنية، بل ترى فيه فرصة لتقريب نصر لها، أصبح قاب قوسين أو أدنى، بما يدفع نحو سياسات حكومتها اليمينية المتطرفة لتحديد نفوذ طهران في المنطقة وإنهاء مشروع سلاحها النووي.