إبان العِراك أو المشاجرات أو الصدامات الجسدية في شوارع أي بلدٍ من بلدان الشرق الأوسط، عادةً ما يتدخل الجمهور لفض الاِشتباك أو لتقليل الأذى قدر المستطاع؛ وفي الحالة العادية، إذا ما تعرضتَ كفرد بدون مبرِّر، وبدون وجه حق، للاعتداء من قبل شخص أو مجموعة أشخاص، قد تجد في الحال مَن يحاول منع المعتدي أو إيقافه أو الوقوف بجانبك أو على الأقل التضامن معك كضحية، وحتى في البلدان الغربية التي لا وجود لموضوع المروءة أو الحمية أو التعاطف فيها، فإذا ما تعرضتَ لهجومٍ ما، فحتى إن لم يأت أحدهم ويقف بوجه المعتدي أو يقف بجانبك أو يُحاول تخليصك من بين مخالب المنقضِّ عليك، فعلى الأقل لن يكون المعتدي مدعوماً من الحشدِ أو ممثلاً عن جماعةٍ بكاملها أو حزبٍ بتمامه أو عددٍ كبيرٍ من أبناء الملة!
بينما في تركيا، وكمراقِبٍ لما يجري أو كفردٍ مهيَّأ ليكون الضحية التالية في يومٍ من الأيام، تشعر بأن المتطاوِل عليكَ وعلى كل مَن هم في حكمكَ لا يُمثل نفسه فقط، إنما يعِّبر عن الضمير العام، ويُخال إليك وكأنّ هناك توافق ضمني وتأييّد للمهاجِم مِن قبل المتفرجين على الهجوم، وكأن لسان حال صمتهم يقول لكَ: نحن معه في التطاول عليك، في إزعاجك، في الاِستخفاف بك، في طردك، في ضربك وإهانتك، إذ أنَّ متعة الفرجة على الاعتداءات لديهم تذكّرك بالكولسيوم الروماني، وكيف كان الأباطرة يقيمون مباريات دموية لإلهاء الشعب بها، حيث المباراة تحقَّق أكثر من فائدة للسلطة الحاكمة، فهي في المقام الأوَّل كانت تلهي الشعب عما يعاني منه، وثاني شيء أنَّ الفرجة على الهجمات الدموية تقوم مقام الفعل بالنسبة لكل المتفرجين عليها، بما أنها تفرّغ طاقة المجتمع العدوانية في تلك المباريات من خلال التفاعل مع ما يشاهدونه، كما أن القاتِل ينوب عن المشاهدين في التكفل بعملية التصفية للضحية المقترحة، إذ بدلاً من المشاركة في الصراع الدموي الذي يتوقون لخوضه يقوم السيَّاف بالفعل نيابةً عنهم.
والأمر الذي يحدث في تركيا منذ سنوات قريب من حال المشاهدين في الكولسيوم، إذ في كل اعتداء على أيّ سوري أو على أيِّ أجنبي يشعر الغريب عن هذه الديار بأن مَن يُشاهدون عمليات الضرب أو القتل أو الاعتداءات الهمجية لا يُحركونَ أيَّ ساكنٍ يشير إلى أنهم ضد العدوان على الآمنين، لذا ينتاب الأجنبي إحساس متكرّر، وهو أنَّ الفاعل ليس لوحده، إنما لعلّهُ يُعبِّر عن هوى جماعي من خلال إعادة نفس الأفعال من حينٍ لآخر، وأن الفاعل يرتقي لدى الكثير من المتفرجين إلى مستوى المناضل الذي يقوم بالأعمال النضالية ضد الأجانب عوضاً عنهم، وبالتالي يشعر المعتدي بأن ما يقوم به هو محط شكرٍ وارتياحٍ ضمني لدى الآلاف من البشر الذين ينظرون إليه بعين الامتنان.
وحيال أحداث الفترة الأخيرة في مدينة قيصري التركية، لعل الضغوط اليومية على مدار السنوات المنصرمة في شوارع البلد الذي رحّب بدايةً بكل فارٍ من بلده لم تؤثر على نفسية ومواقف العامة فحسب، إنما تركت أثرها البالغ حتى في نفسية النخبة العلمية والدينية والثقافية للذين قصدوا هذه الديار يوماً خوفاً من بطش الأجهزة الأمنية في بلادهم، وإلاَّ لما وصلت الحالة مع شخصٍ من نخبة المجتمع السوري بأن يبكي على الهواء مباشرةً عقب الهجمات العدوانية على السوريين وممتلكاتهم في ولاية قيصري، بالرغم من أنه معروفٌ عن الرجال، وخاصةً الشرقيين، أنهم نادراً ما يعبّرون عما يجيش بصدورهم من خلال البكاء.
حقيقةً إن تلك الدموع لم تنهمر على الهواء إلاَّ نتيجة حرقةٍ عظيمةٍ كامنة، وهي اختزلت بحق حالة الاختناق العام ومعاني العسف والإكراه التي يستشعر طعمهما كل سوري لديه شيء من الحس والوعي والوجدان، وبتصورنا أن الرجل لو لم يبلغ معه التضييق والخسف حالة الانفجار لما عبّر بتلك الطريقة التي تدل على الفقدان العظيم، إذ أن الضيم الذي بلغ الذروة يُشير إلى أن حال المقهور بات يوازي ما قيل في هذا الخصوص سابقاً، أي :"ﺇﺫﺍ ﺑﻜﺖ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ فاعلم ﺃﻧﻬـﺎ فقدت شيئاً ما أو أنها ﺗﺮﻳﺪ كل ﺷﻲﺀ، ﻭﻟﻜﻦ ﺇﺫﺍ ﺑﻜﻰ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻓﺎﻋﻠﻢ أﻧﻪ ﻓﻘﺪ ﻛﻞ ﺷﻲء"، إذ أن انسكاب المشاعر الجياشة من غير تحفُّظ، وتدفق عبرات المتحدث باسم المجلس الإسلامي السوري "مطيع البطين" في مقابلةٍ على تلفزيون سوريا بتاريخ الثالث من تموز (يوليو) 2024، كانت إشارة واضحة إلى أن ذلك التصريح جاء عقب شهورٍ طويلة من الضغط النفسي والقهر والكتمان، والبطين عبّر لاشعورياً في تلك اللحظة عن وجع مئات الآلاف من السوريين، ونطق بكامل الصراحة عما كان يُراد منه الاحتفاظ به، أو ابتلاعه، وعدم الإفصاح عنه، خاصةً عندما تحدّث عن إستلاب الإرادة، ومصادرة القرار، والتحكم به، واستخدام أصحاب القضية في مسائل لا تمت لقضيتهم بصلة، بقوله: "لا توجد معارضات، توجد منصات وكل دولة أنشأت معارضة على هواها الذي يختلف عن قضية السوريين".
إقرأ أيضاً: فعاليتكَ تُغيظ المتكلسين
إذ أنَّ لسان حاله وحال كل من عايش مشاعره في اللحظات المؤلمة راح يقول: لا نريد إطلاق مصطلحات مثل المهاجرين والأنصار على وسائل الإعلام، أو إطلاق تصريحات تأتي في ذات الإطار، مثل: "شرف لنا أن نكون أنصاراً لإخواننا السوريين الذين لجؤوا إلينا، من لجأ إلينا وطلب حمايتنا لن نسمح لأي كان أن يتعرض له"، فلا نريد أن (يأكلوا بعقلنا حلاوة) كل مرة، إنما نريد أن نُعامل كأوادم، وألا نُضرب في الشوارع بلا أي سبب، حيث سُلبت منا كل وسائل الصون الذاتي وسط قطعانٍ مهاجمة، فلا قدرة لنا على الدفاع عن أنفسنا بما أننا منزوعي القدرات الدفاعية، وليس لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا وعن نسائنا وعن أطفالنا بخلاف المهاجرين أو الزوار أو السواح أو اللاجئين في كل دول العالم التي لا يُحرم الإنسان فيها من حق الدفاع عن الذات إذا ما تعرّض لعدوانٍ أو هجومٍ أو اعتداءٍ غاشم من قِبل العصابات أو القطعان الهوجاء.
إقرأ أيضاً: اللاجئ ومخاوفه المستقبلية
بينما في تركيا، فإن ضربكَ أحدهم أو هجم عليكَ بعضهم، فما عليك سوى الإمتثال لأوامر المُعتدي، والقبول بحُكمه الجائر وأنت صاغر، والخضوع أمامه بما أن الدولة جعلت الفرد السوري رهينة وملطشة لكل المنفلتين من أوباش البلد، إذ كأن ما جرى كان بمثابة رسالة للكل وينبغي أن يفهمها الأجنبي عامةً والسوري بوجهٍ خاص، مفادها: بأن من حق أي مواطن تركي العبث معه كونه غريب، ومن حق ابن البلد إفراغ سمومه العنصرية في وجه المغاير، والاعتداء عليه خاصةً ذلك الكائن السوري المستهدف راهناً بالدرجة الأولى طالما كان وجوده برمته غير قانوني، وليس له أي حق ككائن بشري، وفحوى الرسالة الموجهة للسوري أنه إذا ما تجرأ وقاوم ودافع عن كرامته حين التعرض للاعتداء أو الهجوم من قِبل الهمج من الحشود العنصرية فبدلاً من أن يأتي مَن يُخلصه من بين أنيابهم ستأتي المؤازرة من المجتمع التركي للمهاجم، والتضامن سيكون مع المعتدي وليس مع الضحية، ومن ثم عليه أن يفهم بأنه حتى إن لم يتضامن الجمهور مع المعتدي سيشاهدون الحادثة وكأنهم في ميدان مصارعة الثيران، وسيأخذون دور المزهرية ويستمتعون بالفُرجة على المشهد العدواني الآثم، وذلك باعتبار أن ذهنية الجماهير المحقونة بخطاب الكراهية عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع باتت تشرعّن الاعتداء على الغرباء عامةً وعلى السوريين بوجهٍ خاص، عموماً إذا كان هذا هو الحال في الوقت الراهن بتركيا بسبب إيديولوجية حزبٍ أو حزبين معارضين للسلطة الحالية إضافةً إلى مؤيديهم الموجودين في معظم دوائر الدولة، فكيف سيكون الحال إذا ما تسلّمت تلك الأحزاب السلطة كاملةً يوماً ما في هذا البلد؟
إقرأ أيضاً: كونوا رحماء كالسيّاف
ختاماً، السوري في هذا البلد كائن أعزل ومكشوف الظهر ولا سند له، وهو ليس محمياً من أيَّ طرفٍ كان، بالرغم من حمله بطاقة "الحماية المؤقتة" التي ينبغي أن يتمتع بموجبها بمختلف الحقوق التي يتمتع بها طالبو اللجوء في دول العالم وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والسوري لا يُعامل معاملة اللاجئ طالما أنه غير مصان، بالرغم من أنَّ الدولة التي تستضيف اللاجئين عليها أن تضمن حمايتهم وفق اتفاقية اللاجئين ومعاهدات حقوق الإنسان، إنما يُعامل السوري كضيف، أي كشخص طارئ، عابر، ومصطلح الضيف فضفاض، هلامي، ولا يخضع لأي قانون، مثله مثل مصطلح المهاجرين والأنصار، ويبقى إصدار قانون يمنع العنصرية ويحاسب عليها كل مَن يقترفها سواءً أكان مواطناً أم سائحاً أم زائراً مع أيّ فردٍ من أفراد ملةٍ من الملل هو الحل الأنجع لإنقاذ البلد من الوباء السرطاني (فيروس العنصرية) الذي قد يفتك يوماً بالشعب التركي نفسه إن لم يجد المصابون بعدواه في طريقهم سورياً أو أفغانياً أو عربياً ينفثون سمومهم فيه.
التعليقات