صحيحٌ أننا في شهر رمضان، إلاَّ أن السمات الدالة علينا ليست متعلقة بفرط الإيمان أو بفرائض الشهر المبارك، إنما لمعة القلق في أعيننا، والاهتزاز الذي لا يفارق حبالنا الصوتية حين الإفصاح عما ألم بنا، هي أبرز ما يلاحظه كل مَن يجالس السوريين في دول الجوار، إذ بُعيد لحظاتٍ من التلاقي والحكي سرعان ما يكتشف الغريب أو القريب حالة اللااستقرار الظاهرة على ملامحنا وملامح مَن في حكمنا، وكحال بندول ساعة الحائط المستمر في تأرجحه منذ سنين، ما يزال الكثير من السوريين محرومين مِن نعمة السكينة، وذلك بالرغم من مضي 13 سنة على إقلاع مواكب الاحتجاجات الشعبية في البلد، وبالرغم من أنهم يعيشون في بلدانٍ آمنة بعيداً عن جبهات الحروب والمعارك.
حيث أن الطائفة الكبيرة من أبناء ذلك البلد المنهك، خاصةً الفئة التي اختارت دول الجوار السوري على أمل تغيير الأوضاع في البقعة التي فروا منها، وعقب إحراز التغيير المنشود يباشر واحدهم بحزم الأمتعة والتهيؤ للرجوع إليها، لديهم مخاوف مشتركة تنتاب الكثير منهم في حال أنهم كانوا بخلاف أقرانهم مِمَن قرَّروا متابعة الدرب نحو المغتربات، فعزموا على الانتظار في الأماكن التي استقروا بها بشكلٍ مؤقت في الدول المحيطة ببلدهم لحين قرع أجراس العودة.
إذ إبان الحديث معهم يقر عدد كبير منهم بأنهم ليسوا مغرمين بفضاءات الغرب اجتماعياً وثقافياً، وبيئياً لا يعجبهم تداخل الفصول في تلك البلاد، ولا حتى ملذات تلك المرابع تحثهم على المضي نحو تلك المضارب بعد أن تجرعوا المرارة على أصولها في الوطن وكذلك الأمر في البلد الذي مكثوا فيه على مدار السنوات السابقة، ولكن الخوف من الآتي هو ما يدفع جماعات كبيرة منهم للتزحلق صوب تلك التضاريس على مضض.
إقرأ أيضاً: عفن النظام السوري خارج مناطق سيطرته
علماً أن الخوف لدى تلك الكتلة البشرية أو هذا الشخص البسيط الذي لا يملك غير بدنه الذي من خلاله يؤمن قوت يومه في عراء الغربة، هو نفس الخوف الذي يدفع ساسة المعارضات على غرار بعض قادة النظام لتأمين موطئ قدم لهم في المنافي ذاتها، ألا وهو الخوف من الجوع في الغد، الخوف من اليوم الذي لن يقدر الفرد منهم على إعالة أسرته، الخشية من اليوم الذي سيصرفه رب العمل لأن سنه لم يعد يسمح له بأن يكون منتجاً وفاعلاً ومفيداً لرب العمل ودولته، الذُعر من أن يأتي يوم ولا يجد معيل الأسرة في جيبه فلساً، وما من جهةٍ حينها بمقدور ذلك الأب أن يقصدها أو يستجر عطفها حتى تؤمن له عملاً يعوضه عن الحاجة للناس، الجزع من أن يُجبره الظرف لاحقاً على الاستعطاء يوماً وهو الذي كره التعكز والتطفل والاتكاء طوال عمره.
فموضوع الرهبة من المستقبل يستدعي الوقوف أمامه لساعات، ويستدعي ذلك الموضوع الجالب للتوتُّر التفكير العميق بما وراءه وإيجاد الحلول له، أو على الأقل طرح التساؤلات بخصوصه، وذكر البدائل المتعلقة به، هذا إن كان هنالك بدائل أصلاً، لذا يطرح الفرد المرتاب نيابة عن آلاف الأفراد تساؤله قائلاً: هل فكَّر أيّ سياسي ممن ساهم بإشعال البركان في المضارب في وضع خطة أو رسم خريطة مستقبلية للملايين من أبناء الوطن، أو فكّر في إيجاد حلول اقتصادية حقيقية للبلد المنهك مع ناسه، بدلاً من التفكير المتواصل بمن سيصبح رئيس القاووش ومَن هم وزراؤه ونواب حظيرته.
إقرأ أيضاً: غطرسة الوضيع
عموماً، فالمخاوف المستقبلية لا تخص المقيم في دول الجوار وحده، ولا تقتصر على مَن يخشى مِن الاضمحلال وفقدان الذات والتلاشي في المغتربات، إنما هو هاجس دائم لدى كل من في نيته العودة إلى البلد أيضاً، وخاصةً من انتقدوا مؤسسات النظام طويلاً عبر مواد الرأي، أو من خلال مدوناتهم اليومية عن ممارسات قوات النظام وجلاوزته منذ سنوات في وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف منصاتها.
وفي إطار الإرتعاب ذاته، ثمة من يقول إنه عند انتهاء طبول الحرب في سورية قد يعود كغيره إلى البلد كما خرج منه ورأسه غير مطأطأ، متصوراً بأنه إن لم يفد أحداً طوال الفترة السابقة فعلى الأقل لم يلحق الضرر بأي نفر أو أي جهة، كما لم يؤذي أيّ كائن بشري أو حيواني طوال وجوده في البلد وحتى عندما صار خارجه، نعم انتقد كثيراً وما يزال، ولكنه لم يهدر دم أي نفر من أي ملة أو طائفة، ولا هم يوماً بشتم أو إهانة طائفة رأس النظام، ولكنه مع ذلك يتوجس من شيء واحد فقط، ألا وهو أن ترفع التقارير به في المستقبل عند العودة إلى البلد ليس مِن قبل مَن بقي يُدافع ويقاتل مع النظام حتى آخر رمق، وليس من قبل شبيحة النظام وكتَّاب التقارير لديه، إنما مِن قِبل مَن كان يشتم الأسد والطائفة العلوية ليل نهار، ومن كان يريد إبادة صغيرهم وكبيرهم عن بكرة أبيهم، ولكنه في غمضة عين غيَّر بوصلة الولاء وانتقل من جبهة الضد إلى خندق النظير.
إقرأ أيضاً: الفُرجة على مباريات الذيول
ففي حال لم ينتصر طلاب الحرية، ولم يُحققوا شيئاً من الذي خرجوا من أجله، وفي حال فشل مشروع إسقاط النظام، وتم الاتفاق بين الدول التي تتلاعب وما تزال بمصير الشعب السوري على إجراء تعديلاتٍ بسيطة في جسم النظام الحالي مع الإبقاء على الأمن والعسكر كما هما، فمن المتوقع جداً حينها أن تعود الفئات المنافقة إلى ما كانت عليه قبل 2010، وذلك باعتبار أن مَن كانوا مِن "محبكجية" رأس النظام بشار الأسد، ومن ثم صاروا من "محبكجية" رئيس دولةٍ مجاورة، قادرون بلمح البصر على أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، أي أن يرجعوا إلى التمجيد والدبك للأسد كما كانوا مِن قبل، طالما أن الجينات النفاقية تمثل جزءاً من تربيتهم الاجتماعية وتكوينهم الثقافي، وأكبر مثال حي وبارز من ذلك النموذج البشري هو الموالي بشدة، ومن ثم المعارض بقوة 12 حصان، ثم الموالي من جديدٍ وبقوةٍ مضاعفة الشيخ عمر رحمون.
التعليقات