كتَّاب إيلاف

آخر مسمار في نعش محور المقاومة

مدنيون يحملون أمتعتهم أمام محطة كهرباء خلال فرارهم من القتال بين معارضين والجيش السوري في الجزء الشرقي من محافظة حلب
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تباينت مواقف الدول من العملية في شمال سوريا التي أتت بعد يوم واحد من وقف إطلاق النار في جنوب لبنان. بخلاف الحرب الماضية، اصطفَّ معظم الحكومات العربية مع دمشق، وكذلك بكين وموسكو، عدا أنقرة وواشنطن، اللتين طالبتا دمشق بالتفاوض لحسم القضايا العالقة. لم يشفع لدمشق وقوفها على الحياد في حربي حزب الله وحماس مع إسرائيل، ولم يشفع لها أيضًا خروجها من تصنيفها حليفًا لإيران. أظهرت بوادر خلاف مع الإيرانيين، لكن تلك الخطوة لم تقنع العالم، بل إيران طلبت تكاليف حمايتها للنظام بنحو 40 مليار دولار. رغم ذلك، يود العالم خروجًا نهائيًا للمليشيات الإيرانية التي تموضعت ما بعد الحرب مع حزب الله بعد هروبها من الضربات الإسرائيلية، والتوجه إلى حلب بشكل خاص.

رغم أن إيران فقدت قيادات رفيعة في سوريا من الحرس الثوري، إلا أنها تتمسك بسوريا كما تفعل روسيا. لكن صراع روسيا مع أميركا وحصولها على المياه الدافئة، يقابله سعي إيران لتحقيق معبر إلى البحر الأبيض المتوسط. خصوصًا أنَّ إيران شعرت أنَّ وجودها في سوريا حولها إلى لاعب إقليمي، وحققت طهران نتيجة لذلك أن جلس الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما معها على طاولة المفاوضات عام 2015 للتوصل إلى اتفاق نووي مقابل الإفراج عن 120 مليار دولار من الأموال المجمدة منذ زمن الشاه. فيما تضررت دمشق نتيجة تحالفها مع طهران بعقوبات قانون قيصر، ما يعني أن دمشق دفعت أثمانًا باهظة. أقنعت السعودية والإمارات بشار الأسد أن سوريا ستحصل على فوائد استراتيجية إذا تخلت عن نظام طهران، وسيساعدها العالم في ذلك ولن تكون بمفردها، بسبب أن التواجد الإيراني متجذر في سوريا في كافة المناطق من دير الزور والبوكمال وحلب وحمص وحماة ودمشق وريفها.

استبقت تركيا قيام إسرائيل بعمليات داخل سوريا بعدما هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسد بأنه يلعب بالنار عندما رفض إخراج إيران من سوريا التي تعتبرها إسرائيل تهديدًا لأمنها. وفي نفس الوقت، حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مطالبة الأسد بالجلوس على طاولة المفاوضات من أجل التطبيع مع تركيا للتخلص من عبء اللاجئين السوريين، الذين يبلغ عددهم ثلاثة ملايين سوري. لكن الأسد رفض حتى تحقق تركيا شرطين: الانسحاب من الأراضي السورية ووقف دعم هيئة تحرير الشام. فيما أكد وزير خارجية تركيا أن الانسحاب سيتم إذا تأمنت حدود تركيا.

بالطبع، استثمرت هيئة تحرير الشام انهيار حزب الله ومرور إيران بأضعف مراحلها، وانشغال روسيا في أوكرانيا، وسحب معظم طائراتها من قاعدة حميميم التي كان يبلغ عددها نحو 30 طائرة. فهي بيئة جاهزة لهذا الهجوم الذي استخدم فيه نظام المسيرات لتأمين استعادة المناطق التي كانت تسيطر عليها في عام 2019، واستعادها النظام السوري عبر طائرات الجيش الروسي.

هناك ترابط عميق بين النزاعات الإقليمية والدولية يعيد تشكيل التحالفات ويقود إلى تغيير رسم الخرائط، وسط تغيرات جيوسياسية سريعة تضرب المنطقة. ويبرز تفاهم دولي يختلف في التفاصيل التي كانت سببًا في فشل التوصل إلى تسويات سياسية في سوريا من قبل المجتمع الدولي وفق القرار 2254. ولا ينفصل ذلك أيضًا عن مطلب فصل الوجود الإيراني عن المنطقة، خصوصًا أنَّ النظرية السياسية الواقعية فشلت في استيعاب ما يحدث على الأرض السورية، التي تعتمد على فهم توازن القوى والمصالح. مما يضطرها إلى التوجه نحو نظرية اللعبة التي تقدم إطارًا أفضل لفهم القرارات الاستراتيجية للقوى المتصارعة.

فبعدما كانت تركيا ترفض طلب أبو محمد الجولاني باقتحام شمال سوريا واستعادة الأراضي التي استعادها النظام من الفصائل التي كانت تسيطر عليها عام 2019، بسبب الخاصرة الرخوة لتركيا في وجود ثلاثة ملايين لاجئ سوري، غضت تركيا الطرف عن هجوم هيئة تحرير الشام شمال سوريا المعد مسبقًا. بعدما تم إعادة تأهيل تلك الجماعة وتغيير خطابها الممنهج الذي مارسته في السنوات الماضية واعتبار المقاتلين جنودًا. وطمأن الجولاني الجميع، وبشكل خاص الأقليات، عندما قال إنهم لا يستهدفون سوى إيران ومليشياتها وحزب الله. وهذا يفسر الانسحاب السوري دون مواجهة مع هيئة تحرير الشام، على غرار انسحاب الجيش العراقي في الموصل عام 2014، وترك أسلحة قوات الجيش لداعش. لكن الفرق أن هيئة تحرير الشام لا تعلن إقامة الخلافة وهدفها وطني منحصر في سوريا.

إقرأ أيضاً: تأثير توترات الشرق الأوسط على الانتخابات الأميركية

هذا التقدم الأول منذ آذار (مارس) 2020 عندما اتفقت روسيا التي تدعم نظام بشار الأسد وتركيا التي تدعم الفصائل السورية على وقف إطلاق النار، ووقف المواجهات في آخر معقل كبير للمعارضة في شمال غرب سوريا. وعقدت نحو 20 جولة في أستانا الكازاخستانية التي بدأت عام 2017 باجتماع الدول الضامنة: روسيا وتركيا وإيران. وهناك تنافس روسي إيراني في سوريا، لكن روسيا تستفيد من إيران لتقلق أميركا في سوريا. والتنافس لا يعني القطيعة في إطار التخادم في المصالح والتقاسم. اليوم انقلبت الآية، وأصبحت أميركا تتكئ على تركيا، التي بدورها تتبرأ ظاهريًا مما يدور في سوريا، وتحمل هيئة تحرير الشام المسؤولية، وتود إخراج المليشيات الإيرانية من القرى السبع في شرق الفرات في دير الزور، وهي قرى استراتيجية منها الحسينية، مظلوم، حطلة، الصالحية، ومراط. وقد فشلت سوريا الديمقراطية (قسد) في تحرير هذه القرى السبع.

ما جعل التحالف يقوم بضربات على المليشيات الإيرانية المتمركزة في تلك القرى الاستراتيجية. فعملية حلب قلبت الوضع الميداني لصالح أنقرة المدعومة أميركيًا في مواجهة موسكو وطهران. وهيئة تحرير الشام تلامس حماة، وبوتين يطالب أردوغان بنهاية سريعة، وطهران مستعدة لإرسال قوات إذا طلبت دمشق، ولن تطلب دمشق مقابل توقف المليشيات عند حماة دون مواصلة السير نحو دمشق بدعم الدول العربية. ليعيد تشكيل خريطة السيطرة العسكرية بعدما كانت القوات الحكومية تمكنت بدعم رئيسي من حلفائها في 2015، وأسهم ذلك تدريجيًا في قلب ميزان القوى على الأرض بغطاء جوي روسي ونحو 63 ألف جندي روسي في العمليات العسكرية في سوريا، ودعم عسكري إيراني ومن حزب الله اللبناني من ترجيح الكفة لصالحها في الميدان على جبهات عدة. هذه القوى غير موجودة الآن سوى ضربات روسية محدودة. بذلك تخسر دمشق السيطرة على حقل الورد والتيم والشولة والنيشان النفطية في دير الزور، وحقل الثورة في الرقة، وحقل جزل في حمص، وحقل الشاعر أكبر حقول الغاز.

إقرأ أيضاً: السعودية ومصر ركيزة الاستقرار العربي

ولا زالت روسيا تعمل على استعادة دورها في سوريا، رغم انشغالها في حرب أوكرانيا، ونقل جنودها وأغلب طائراتها. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حقق حلمًا لم يحققه الأباطرة والقياصرة الروس تاريخيًا في الوصول إلى المياه الدافئة. فلن يتنازل بوتين عن وجود قاعدة في حميميم وطرطوس في اللاذقية، مما يجنب السفن الروسية العودة إلى قواعدها في البحر الأسود عبر المضائق التركية. لذلك أعلنت الخارجية الروسية أنها تعمل على قدم وساق في إطار عقد اجتماع بشأن سوريا بصيغة أستانا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف