سقط الأسد: أي مصير ينتظره؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سوريا، أو الجمهورية السورية، لا الجمهورية الإسلامية أو العربية التي حملت على عاتقها تاريخًا طويلًا من الحضارة والتنوع، منذ قرن زمني كامتداد لحضارات سابقة في أمكنتها وليس في مكانها، تحوَّلت خلال ما يقارب العقد ونصف العقد الأخير إلى ساحةٍ للصراعات والانقسامات، بسبب تعنت الرئيس بشار الأسد قيد الخلع. وكان ذلك نتيجةً مباشرةً لنظامٍ قاده بعنفٍ واستبداد، حيث استولى حزب البعث بقيادة الأسد على مقدرات البلاد، محوِّلًا إياها إلى مزرعةٍ عائلية تُدار بالحديد والنار.
منذ أن فُرض الأسد على الشعب، بدأ بتفصيل البلاد على مقاس حكمه. استهل مسيرته بخطواتٍ استبدادية، بدءًا من خرق الدستور لتأمين استمرارية سلطته، حيث عدَّل مواد الدستور لتتناسب مع سنِّه عند توليه مهمة الرئاسة، في سابقةٍ خطيرة. أرسى نظامًا قوامه القمع والترهيب، واستغل موارد الدولة لخدمة مصالح عائلته والمقربين منه. لقد جعل من سوريا مسرحًا للفساد المنظَّم، حيث سيطرت أسرته على القطاعات الاقتصادية الحيوية، من النفط إلى الاتصالات، مما أدى إلى تهميش الشعب وإفقاره.
كانت الأسرة الحاكمة، بكل أفرادها، رمزًا للفساد والاستبداد. إذ حوَّل الأسد البلاد إلى مسرحٍ لإثراء عائلته، حيث تضخمت ثروات المقربين بينما عانى المواطنون من البطالة والفقر المدقع. هذا النهج الفاسد، الذي امتد لعقود، ساهم في تفكيك المجتمع السوري وإضعاف بنيانه الاقتصادي والاجتماعي.
هذا النظام كان مسؤولًا عن تدهور سوريا في جميع المجالات. فبدلًا من أن تكون الدولة نموذجًا للاستقرار والتقدُّم، انزلقت إلى مستنقعٍ من الفوضى. لقد أدخل الأسد، منذ بداية حكمه، البلاد في صراعاتٍ داخلية وإقليمية خطيرة. كان مسؤولًا بشكلٍ مباشر عن استدعاء قوى أجنبية لتثبيت حكمه؛ فتح الأبواب أمام إيران وميليشياتها، وحزب الله بمخططاته التوسعية، وتركيا التي تسعى إلى استعادة أحلامها العثمانية، وروسيا التي جعلت من سوريا قاعدةً لتحقيق طموحاتها الجيوسياسية.
لم يكتفِ النظام بتوريط البلاد في حروبٍ داخلية، بل أطلق يد الفساد والمحسوبيات لتدمير ما تبقَّى من المؤسسات. أُفقرت البلاد، وتشرَّد الملايين، وقُمع الشعب بكل الوسائل الوحشية الممكنة. العائلة الحاكمة كانت رمزًا لتجسيد روح البعث التسلطي؛ حزبٌ استولى على السلطة تحت شعارات الوحدة والحرية، ليقمع كل صوتٍ معارضٍ ويحرم السوريين من أبسط حقوقهم.
لقد شكَّل البعث، تحت قيادة الأسد، نموذجًا صارخًا للطغيان، حيث تم تجريد المجتمع من إمكاناته الطبيعية للتقدُّم. كان من الممكن أن تحقق سوريا الكثير، لولا تسلُّط هذا الحزب وتحويله البلاد إلى سجنٍ كبيرٍ لشعبها.
مع سقوط الأسد، تواجه سوريا سؤالًا وجوديًا: كيف يمكنها أن تُعيد بناء نفسها بعد كل هذا الخراب؟ المصير الذي ينتظره النظام، بعد سنواتٍ من الفساد والدمار، يرتبط بقدرة السوريين على تجاوز إرث البعث والاستبداد. لن تكون هذه المهمة سهلة، في ظل وجود قوى داخلية وخارجية تسعى لاستغلال الوضع لصالحها.
وداعًا للأسد: احتمالات كثيرة
سوريا ما بعد الأسد ستقف على مفترق طرق. الاحتمالات متعددة ومتشابكة، لكنها تحمل في طيّاتها فرصًا لبناء مستقبل جديد. على ألا يكون لتركيا أي حضور في سوريا ما بعد الأسد، لئلا تسير البلاد نحو "الأخونة"، وهو خطر يهدد التنوع والتعايش فيها. أما إذا كان ما يجري وفق مخطط دولي كما يُقال، ويتحفظ العارفون بالأمر عن الكشف عن تفاصيله التي لم تنكشف بعد - إن لم يكن في الأصل تنجيماً قد يصدق - فإنَّ هناك إمكانية لإعادة رسم خريطة سوريا من جديد. وأتصور أن دخول تركيا - على الخط - ليس إلا بسبب شمها رائحة تغيير ما في الشرق الأوسط، كي تعيد مؤامرة 1932 مرة أخرى، على حساب الكرد وكردستانهم، وأرجو ألا توفق في محاولتها هذه!
لكن في ظل الظروف الراهنة، فإنه من الصعب أن يتخلى المقاتلون، الذين يعتمد عليهم النظام الدولي جزئيًا، عن قبضة القيادة إلى أجل غير مسمى، إذا ما كانت التطورات قد تمت بالاعتماد عليهم وحدهم، وهذا ليس إلا لأجل التخلص من هؤلاء. ضرب جميعهم ببعضهم بعضاً، من دون أن تخسر إلا حبر مخططها، وضمان عدم التعرض الجوي لهم ودعمهم الميداني. وعلى أي حال، فإنه لا يمكن تحقيق انتقال مستقر دون إشراف دولي يضمن تسيير الأمور بطريقة تمنع حدوث مجازر جديدة، وتفتح المجال للسوريين للتوافق على مستقبلهم.
من بين كل هذه الاحتمالات، تبرز حقوق الكرد كمسألة جوهرية، كما تنص على ذلك الدساتير الدولية في حق تقرير المصير، أو الانضمام ضمن سوريا فيدرالية ترتعد المعارضة المأجورة من ذكرها، كل هذا وذاك بحسب الإجماع الكردي بما يخدم مصلحة ثاني قومية في سوريا تعيش فوق ترابها. لكن قبل كل شيء، لا بد للكرد أن يتفقوا بعيدًا عن التأثير الميداني لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي أضر بالقضية الكردية وأساء إلى العلاقة مع المكونات الأخرى، التي أظهرت مواقف أكثر عنصرية على امتداد حوالى عقد ونصف مضى، كامتداد وترجمة لعنصرية البعث، من لدن هذه المعارضة التركية - القطرية، وبدا ذلك على نحو خاص خلال المؤتمرات التي عُقدت من قبل المعارضة المسيرة لا المخيرة. إبعاد هذا التأثير عن مسار الكرد السياسي والاجتماعي يمكن أن يُعيد ترتيب الأولويات لتحقيق شراكة حقيقية مع باقي السوريين في بناء الدولة الجديدة. إذ على حزب العمال الكردستاني (PKK) وكل جهة كردستانية أن تكون عاملًا مساعدًا للكرد دون أي تدخل مباشر، بعد فشل تجربة PKK في مكانها وفي الأجزاء الأخرى. وأيّ علاقة بفكر وسياسات حزب العمال الكردستاني تُعد أمرًا مدمرًا للكرد في سوريا، كما هو الحال في كل جزء كردستاني آخر.
سوريا ما بعد الأسد تقف على مفترق طرق، وإن كانت سوريا أصلاً من دون أسد منذ أول صيحة في شوارع مدن سوريا نادت بإسقاطه، فها هو يعيش حتى الآن بسند كفالة دولي يتم إنهاؤه، كما يبدو. الاحتمالات متعددة ومتشابكة، لكنها تحمل في طيّاتها فرصًا لبناء مستقبل جديد. فمن أولويات المرحلة المقبلة العمل على إنهاء التدخلات الخارجية التي عرقلت تطور البلاد، خاصةً الدور التركي الذي سعى إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب استقرار سوريا. إبعاد تركيا عن سوريا المستقبل سيمثل إنجازًا كبيرًا في مسار إعادة الإعمار واستعادة السيادة الوطنية، طالما أن إيران وعبر يدها الضاربة - حزب الله - أو عبر تدخلها المباشر باتت تجر أذيال الهزيمة.
الأمل الوحيد يكمن في إرادة الشعب السوري لإعادة بناء بلاده، وإبعادها عن جميع أشكال التسلُّط. سوريا التي كانت تنبض بالحياة لا تزال تمتلك من الإمكانيات ما يُعيدها إلى مكانتها الطبيعية، بشرط التخلص من إرث الظلم الذي خلَّفه النظام.