دمشق وقامشلي: من الأولى بمبادرة احتضان الأخرى؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سوريا، البلد الذي كان يُنظر إليه يوماً كأرض الحضارات والفسيفساء الثقافية، أصبح اليوم نموذجاً للتدمير والخراب بسبب عقود طويلة من حكم آل الأسد (1970-2024)، الذين زرعوا بذور الاستبداد وأحاطوا أنفسهم بترسانة أمنية محولين بذلك الوطن إلى سجن كبير. كانت سنوات حكم حافظ الأسد حقبةً من التسلط المطلق، حيث قُتل الآلاف في المجازر الجماعية وقُمعت الحريات بأشكال لا يمكن وصفها. وجاء ابنه بشار ليواصل هذا الإرث الدموي، محولاً البلاد إلى مسرح للصراعات الدولية والإقليمية، حيث ذُبحت الكرامة الوطنية على مذبح المصالح الشخصية. مؤكد أن مبدأ المحاسبة - غدا الآن - ضرورة لا يمكن التغاضي عنها، ليس بدافع الانتقام أو الثأر البغيضين، بل لضمان أن من دمروا هذا الوطن لن يعودوا مجدداً إلى الساحة السياسية أو الاجتماعية. إذ يجب أن يشهد السوريون، بكل مكوناتهم، محاكمات عادلة تُجري في دمشق نفسها، حيث يقدم الأسد وأعوانه أمام العدالة. هذا "الفصل الجديد" من سوريا يجب أن يُبنى على أنقاض ماضٍ مظلم، يعترف فيه بحق الضحايا لتأسيس نظام يضمن أن الكرامة الإنسانية لن تُداس مرة أخرى.
على عاتق من المبادرة؟ أو من يدعو من؟
بعد هذه العقود الطويلة من القمع والخراب، تطرح المرحلة الراهنة سؤالاً حاسماً: من يدعو من إلى طاولة الحوار؟ هل تقع المبادرة على عاتق بقايا النظام، الذي لا يزال يواصل تحت الجمر؟ أم أن من أُوصلوا إلى سدة الحكم في دمشق هم من يجب أن يبادروا؟ وماذا عن الحوار في المناطق الكردية: من المطلوب أن يدعو إلى الحوار؟ العسكري أم السياسي؟ وهل نحن في حالة انقلاب؟ إن أي تأخر في الالتقاء الذي تأخر وكان يجب أن يتم منذ أول تصاعد لرائحة طبخة - تتصاعد منذ وقت طويل - بل منذ ثلاث عشرة سنة، من عمرالثورة المجهضة، ومن ثم الحرب اللعينة على السوريين. إذ ثمة من يمني نفسه بأن يكون هو من يجب أن يأخذ زمام المبادرة، إلا أنه - على أية حال - يجب أن يبين للحوار في قامشلي، حيث بدأت ملامح سوريا مختلفة تتشكل؟
المبادرة يجب أن تنطلق من القوى التي باتت تمثل الواقع الجديد في سوريا، لا من أولئك الذين ما زالوا أسرى خطابهم القديم. على من يتحكمون بزمام الأمور في دمشق أن يدركوا أن الحوار الحقيقي يبدأ من الاعتراف بحقائق الماضي والحاضر والتأسيس لمستقبل يخدم مصلحة كل السوريين، عبر اعتماد قانون عصري بعيد عن الماضويات، والاعتراف كذلك بأن السلطة المركزية المطلقة لم تعد قابلة للحياة في دولة تنشد المستقبل.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل دور المعارضة السورية التقليدية، التي تملك تاريخاً طويلاً من النضال ضد الاستبداد، لكنها أصبحت اليوم مفككة وضعيفة بسبب التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية. على المعارضة أن تستعيد ثقة السوريين من خلال طرح رؤية وطنية جامعة، بدلاً من الارتهان لأجندات خارجية لا تخدم إلا أصحابها.
تركيا وأذرعتها في المشهد السوري
من المستحيل الحديث عن الحوار السوري دون الإشارة إلى التأثير التركي العميق في المعادلة الحالية. تركيا، التي لم تكتفِ باحتلال أجزاء من سوريا كعفرين وسري كانيه وتل أبيض إلخ، بل سخّرت فصائل مسلحة تعمل تحت رايتها لارتكاب الجرائم وتغيير الطابع الديمغرافي لتلك المناطق، تواصل استخدام هذه الأدوات لتعميق الانقسام السوري. لكن السؤال الأكبر والمدوي، هنا هو: لماذا ظل النظام السوري، الذي صمد أمام كل أشكال الحصار والحرب لأكثر من عقد ونيف، عاجزاً عن مواجهة هذا التدخل التركي؟ هل هو بسبب ارتباطات خفية بين النظام وأنقرة؟ أم أن النظام بات رهينة لقوى خارجية تتلاعب بمستقبله؟ ثم لماذا لم ينفتح على جماهيره، قبل ان يلحق كل هذا الدمار بالبلد وإبادة مواطنيه: قتلاً وسجوناً وتهجيراً.
ما يحدث في ما يسمى "الشمال السوري" ليس مجرد صراع على النفوذ، بل هو جريمة مستمرة تستهدف هوية الشعب الكردي وتاريخ المنطقة بأكملها. إنها مسؤولية تركيا التي تسعى إلى تحويل هذه المناطق إلى مناطق نفوذ دائمة لها، يؤازرها في هذا من لا يفكرون إلا بإبادة الكرد، وهو ما يتطلب تحركاً دولياً جاداً لوقف هذا الانتهاك السافر. في المقابل، على السوريين أن يدركوا أن كل القوى الخارجية، سواء تركيا أو غيرها، لا تنظر إلى سوريا إلا من زاوية مصالحها. ما تفعله تركيا في "الشمال السوري" هو محو للهوية الثقافية والتاريخية لتلك المناطق، وهو تهديد وجودي ليس فقط للكرد، بل لكل السوريين. وهنا يصبح من الضروري أن يتحد السوريون، بكل مكوناتهم، لإدانة هذا الاحتلال والعمل بجدية على طرده، بعيداً عن المصالح الضيقة.
الكرد بين صراعات الداخل وتحديات الخارج
الكرد، الذين كانوا في طليعة المعركة ضد داعش، هم اليوم في مواجهة معقدة على جبهات عدة. لا يمكن إنكار أن القوى الكردية، سواء السياسية أو العسكرية، حققت إنجازات ملموسة في حماية مناطقها، لكنها في الوقت نفسه تعاني من انقسامات داخلية تجعلها أضعف مما يجب.
من هنا تأتي أهمية بل ضرورة الحوار بين السوريين، إذ يجب أن يكون مثل هذا الحوار المنتظر والقائم على أسس المسؤولية فرصة لتوحيد السوريين ومن بينهم: الصف الكردي. هذه الوحدة لا تعني الانصياع لأي قوة سياسية بعينها، بل تعني تشكيل جبهة كردية موحدة تكون قادرة على تمثيل تطلعات الشعب الكردي داخل سوريا المستقبل. إن غالبية الكرد، الذين يقفون خارج دائرة الحزبية، ينتظرون من قياداتهم أن تتجاوز المصالح الحزبية الضيقة وتعمل على صياغة رؤية شاملة تعبر عن جميعهم لا عن أيديولوجيا عابرة أية كانت، مالم تكن تشمل كل الكرد، بعيداً عن أي تعصب، وبعيداً عن أي تخندق ثبت لاجدواه، وثبتت إذيته.
ولهذا فإن على - القيادات - الكردية أن تدرك أن المرحلة المقبلة تتطلب إشراك خبراء ومستقلين من خارج الأحزاب. الكفايات الشابة، والعقول التي تملك رؤى جديدة، يجب أن تكون جزءاً أساسياً من أي عملية حوار أو مفاوضات. فالحوار الفعلي لا يقوم فقط على السياسيين أو العسكريين، بل يحتاج إلى مشاركة واسعة تشمل كل شرائح المجتمع.
من جهة أخرى، يجب أن يتضمن الحوار بين السوريين مسألة الحقوق القومية الكاملة للكرد، والتي طالما كانت قضية شائكة في تاريخ البلاد. إن الاعتراف بهذه الحقوق ليس مجرد خطوة نحو المصالحة الوطنية، بل هو شرط أساسي لتحقيق الاستقرار والتنمية في سوريا المستقبل.
العلاقة بين السياسي والعسكري: أدوار متكاملة لا متقاطعة
لقد أظهرت التجربة السورية أن تدخل العسكر في السياسة يؤدي غالباً إلى كارثة. الدور العسكري يجب أن يظل دائماً داعماً للعملية السياسية، لا قائداً لها. القادة العسكريون، مهما بلغت شجاعتهم وتضحياتهم، ليسوا مؤهلين لإدارة الحوار السياسي أو وضع السياسات المستقبلية. إن دورهم الأساسي يجب أن يتركز على حماية المكتسبات وتأمين المناخ اللازم للحوار.
في هذا السياق، فإن الجنرال مظلوم عبدي، كأحد أبرز القادة العسكريين الكرد، يجب أن يبادر إلى طرق أبواب السياسيين والمستقلين وأصحاب التجارب، لا أن ينتظر منهم أن يلجؤوا إليه. المبادرة يجب أن تأتي من القيادات العسكرية نفسها لإفساح المجال أمام القوى المدنية والسياسية لتولي زمام المبادرة في الحوار، وأن ياتمر العسكري في هذه اللحظة تحت أمرة شعب لا تحت أمرة حزب مجرد حزب أية كانت إنجازاته لطالما لايتبناه الكرد جميعاً، هذا من جهة. أجل....
ومن جهة أخرى، يجب أن يتم وضع إطار واضح للعلاقة بين السياسي والعسكري داخل أي مشروع مستقبلي لسوريا. هذا الإطار يجب أن يضمن عدم تكرار أخطاء الماضي، حيث كانت القوة العسكرية دائماً أداة للسيطرة على المدنيين بدلاً من حمايتهم. إن تحقيق هذا التوازن يتطلب تغييراً جذرياً في الثقافة السياسية السورية.
نحو رؤية جديدة لسوريا
سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون امتداداً لسوريا الأسدين. إن البلاد بحاجة إلى رؤية جديدة قائمة على التعددية والاعتراف الكامل بحقوق جميع مكوناتها، وخاصة الكرد الذين عانوا لعقود طويلة من الإقصاء والتهميش. يجب أن يكون الكرد جزءاً لا يتجزأ من أي خطة لإعادة بناء سوريا، بدءاً من منحهم تمثيلاً عادلاً في الحكومة وقيادتها وهككذا في كل المؤسسات العامة، وصولاً إلى ضمان حقوقهم القومية والثقافية والسياسية كاملة.
التمثيل العادل لا يعني فقط وجود نائب رئيس كردي أو وزراء كرد في الحكومة، بل يتطلب أيضاً إدماج الكرد في الجيش والإدارة العامة وكل مفاصل الدولة. سوريا الجديدة لن تكون تعددية أو ديمقراطية إلا إذا كانت تعكس التنوع الحقيقي لشعبها، وأرى - هنا - أن النظام الفيدرالي أعظم حل لاستيعاب السوريين، وأقوى درع لوحدة البلاد، لمن يتباكون على الوحدة التي غدت - في الأصل - على المحك!؟
وعلى صعيد آخر، يجب أن تتضمن الرؤية الجديدة حلولاً جذرية لمشاكل المناطق التي دمرتها الحرب. إعادة الإعمار لا تعني فقط بناء ما تهدم، بل تشمل أيضاً معالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي خلفتها الحرب. يجب أن يكون هناك استثمار حقيقي في التعليم والصحة والبنية التحتية لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
محاذير الحوار: قوة الحضور وهيبة المطالب
أيّ خطوة نحو الحوار يجب أن تكون مدروسة ومبنية على موقف قوي. الذهاب إلى دمشق دون امتلاك رؤية واضحة - مرنة ضمن حدود عدم إهدار أي حقوق - أو من دون امتلاك موقف موحد سيعني ببساطة التفريط بما تبقى من أوراق قوة. الحضور في الحوار يجب أن يكون مشروطاً باعتراف النظام، ومن خلفه المجتمع الدولي، بحقوق الكرد ومطالبهم العادلة.
على الكرد أن يتجنبوا الهرولة نحو أي تسوية شكلية قد تكون مجرد محاولة لإعادة إنتاج النظام القديم بصيغ جديدة. المطالب الكردية يجب أن تكون واضحة وغير قابلة للتنازل: سوريا تعددية وديمقراطية، تمثيل كردي حقيقي، إنهاء الاحتلال التركي، وضمان حقوق الكرد دستورياً. هذا ما سيضع سوريا على مسارها الصحيح، ويستعيد هيبتها لتكون لكل السوريين؟!
سوريا بين الممكن والمستحيل
إن سوريا التي لا يتم فيها احترام حقوق الكرد وكل المكونات الأخرى لن تكون سوى نسخة مشوهة من ماضيها المظلم. المستقبل الذي ينتظر سوريا هو مستقبل محفوف بالتحديات، لكنه أيضاً مليء بالفرص.
أمامنا فرصة لبناء وطن جديد ينهض من تحت الركام، وطن يتسع للجميع. لكن هذا الوطن لن يكون إلا إذا توافرت الإرادة الجماعية للتغيير، إرادة تتجاوز الحسابات الصغيرة والمصالح الضيقة.
سوريا الجديدة يجب أن تتضمن دستوراً حديثاً يضمن حقوق جميع المكونات بشكل عادل. كما يجب أن تكون هناك آليات لمراقبة تطبيق هذا الدستور وضمان عدم العودة إلى استبداد الماضي. هذه الآليات تشمل مؤسسات مستقلة وقضاء نزيهاً يحاسب الجميع دون استثناء.
بكل أسف: الحل ليس في دمشق، إنما في تركيا أو أميركا؟
من يتطلع إلى دمشق كحاضنة للحل السوري يتجاهل واقعاً مؤلماً رسمته عقود من الاستبداد. إذ علينا النظر إلى جانبين من المعادلة: لأن الحلول الحقيقية لن تأتي من داخل مؤثرين في مصير السوريين ينتمون إلى منظومة لا تزال عالقة في خطابها القديم، مهما كانت نوايا أدوات التغيير جادة، إذ يجب أن تكون طاولة الحوار، طاولة وحدة القرار، غير مراقبة وليست تحت تأثير جهات خارج البيت، عبر البحث عنها في مراكز القرار التي تحرك الخيوط على الأرض: تركيا أو أميركا وقطر. كما أن دمشق - الآن - يجب أن تستعيد قدرتها على اتخاذ القرار لمصلحة أهل الدار، في الوقت الذي نجد هرولات كثيرين إلى جهات متعددة بغية التقرب من تلك القوى المؤثرة، إيماناً منها أن مصير سوريا يُرسم هناك وليس هنا.
من واجبنا أن نكون واقعيين، وأن نفهم أن الصراع لم يعد محلياً، فحسب، بل تجاوز الحدود ليصبح شأناً إقليمياً ودولياً. لذلك، علينا أن نوجه بوصلتنا نحو القوى القادرة على فرض الحلول، لضبط الواقع، لا للتحكم بالريموند كونترول، والعمل معاً لمنع استفحال القتل والدمار، بدلاً من الارتكان إلى وعود لا تتجاوز حدود القاعات المغلقة في العاصمة.
ابتعدوا عن المكاسب الشخصية
لا يمكن أن يُكتب للحوار السوري النجاح إذا ظلّت المصالح الشخصية والحزبية هي المُحرّك الأساسي لأي طرف من أطرافه. لقد أثبت التاريخ القريب والبعيد أن التفاوض القائم على المساومات والمكاسب الفردية أو الفئوية لا يولّد سوى حلول مؤقتة تزيد من تعقيد الأوضاع بدلاً من حلها. سوريا بحاجة إلى قادة يضعون المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار آخر، قادة يتجرّدون من أجنداتهم الخاصة ليضعوا نصب أعينهم بناء وطن موحّد، قائم على العدالة والمساواة.
لذا، على جميع المشاركين في الحوار أن يدركوا أن الشعب السوري، الذي عانى الويلات لعقود، لن يغفر لمن يستغل معاناته لتحقيق مكاسب ضيقة. المصداقية تأتي من العمل لمصلحة الجميع، لا من استغلال نقاط الضعف لفرض شروط مجحفة. الابتعاد عن المكاسب الشخصية ليس فقط خياراً أخلاقياً، بل شرط أساسي لضمان مستقبل يليق بطموحات السوريين. إن الحوار السوري - السوري هو الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد. لكنه حوار يجب أن يكون قائماً على الاعتراف بالحقوق والمحاسبة العادلة، من دون القفز على العدالة الانتقالية، وليس عبر التلاعب بالضعف أو الاستسلام للضغوط الخارجية. الخارج الذي لا يكون عامل وحدة السوريين هو خارج مدمر، ولنا في كل هؤلاء كسوريين أمرّ التجارب. إن سوريا الجديدة، إن كُتب لها أن تكون، يجب أن تكون وطناً لكل أبنائها، على حد سواء!