الحمقى فقط من سيغيرون العالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
“يبدأ ضوء الفجر في تسليط شعاعه على جزيرة 'شيريا'، حيث تنبثق أرض الفياكينج بجمالها المذهل، ويكتشف أوديسيوس، المنهك جراء تحطم سفينته، هذا المشهد الطبيعي الخلاب. مصب النهر الذي تحيط به المساحات الخضراء، والمياه المتدفقة بغزارة وانسيابية، يمثل خلفية مكانية لظهور مجموعة من الفتيات بجانب عربة تجرها البغال، وهنّ يغسلن ملابسهن بفرح عارم. في هذا المشهد، حيث يلتقي أوديسيوس مع ناوسيكا، التي اختارتها الإلهة أثينا، تكمن العناصر الأساسية التي تحدد التجربة الجمالية التي نقلها الفن عبر العصور".
فالرسوم المنقوشة على "الأمفورا الحمراء" التي ترجع إلى حوالى عام 440 قبل الميلاد، والتي تم العثور عليها في منطقة "فولسي" وحفظت في متحف بميونيخ، تجسد بشكل رمزي هذه التجربة الجمالية، حيث يُستحضر الفعل الفني المتجسد في القصة التي يرويها الفن، فينشأ تفاعل مع المشاهد الذي يفتح آفاق الدهشة والتأمل.
التجربة الجمالية، في جوهرها، ليست مجرد رؤية عابرة أو استمتاع سطحي بالجمال، بل هي عملية اجتماعية عميقة، تنبع من تفاعل الذات الإنسانية مع العالم والآخرين. إن هذه التجربة تنفتح على غموض الأشياء، وتكسر رتابة العادات التي غالباً ما تخفي الأعماق المخبأة في تفاصيل حياتنا والعالم المحيط بنا.
ومن هنا، يمكن فهم العلاقة بين الفنان والمجنون، وبين الفن والجنون، فكل منهما يمتلك القدرة على دفع الإنسان ليشعر ويتفاعل مع العالم بطريقة غير مألوفة، ليكشف عن أجزاء من الذات البشرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تلك التجارب الاستثنائية.
الدهشة، التي لا تقتصر على كشف أمر جديد، بل تكشف عن أبعاد لم تكن في حساباتنا من قبل، هي المحرك الذي يكسر القيود التي يفرضها العقل في العادة. هنا، يكمن الرابط العميق بين الفن والجنون، وبين الإبداع والخروج عن المألوف.
القدرة على رؤية العالم من زوايا غير تقليدية، هي التي تفتح الأبواب أمام إمكانيات لا محدودة للفهم والتحول. على هذا النحو، يمكن للفن، بكل تنوعاته، أن يكون المصدر الذي يعيد تشكيل الإنسان، ليجعله أكثر وعياً بحساسياته، وأكثر استعداداً للانفتاح على عوالم جديدة من الفهم والاكتشاف.
عندما يتحدث “جوزيف برودسكي” في خطابه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل عن ارتباط الجمال بالأخلاق، فإنه يشير إلى العلاقة الجوهرية بين الفنون والفهم الأخلاقي، حيث يرى أن الجمال في أساسه هو مرشد للخير والشر، وأن التجربة الجمالية تسبق المفاهيم الأخلاقية بل تتفاعل معها وتوجهها.
إقرأ أيضاً: هل يمكننا الاستغناء عن الدراسات الأحادية؟
لا يختلف لامبرتو مافي في رؤيته، حيث يربط بين الفن والجنون بشكل يبرز القدرة على تجاوز القيود التقليدية التي تُصنف الناس والمفاهيم. هذه الرؤية تستدعي التفكير في أولئك الذين يستطيعون "تغيير العالم" رغم أنهم لا يسيرون في المسارات المألوفة، فإذا كان الجمال ليس هو السبيل الوحيد للإنقاذ، فإنه بالقطع يمكن أن يكون دافعاً للتغيير عبر أولئك الذين يجرؤون على الخروج عن المألوف، حتى لو كانوا "مجانين" أو مختلفين عن المعايير الاجتماعية السائدة.
منذ العصور القديمة، كان الفكر الإبداعي مرتبطاً بمفهوم الجنون. يقدم سقراط، الذي دفع حياته ثمنًا لإبداعه الفكري، مثالاً على هذا الارتباط بين الجنون والإبداع، وهو ما يتكرر في أعمال الأدباء والفنانين الذين يعبرون عن هذه الفكرة بشكل لا لبس فيه.
يقال إنَّ الجنون ليس مجرد حالة عقلية غير مستقرة، بل هو حالة إنسانية معقدة، تتسم بالتغير المستمر في حدودها وتعريفاتها عبر التاريخ. كما أكد كل من فوكو وباساليا على أنَّ الجنون ليس مجرد اضطراب نفسي، بل هو سمة إنسانية تطورت عبر الزمن، وتستمر في التأثير على كيفية فهمنا لأنفسنا.
إقرأ أيضاً: كتاب الموتى الرقمي والحق في النسيان
من خلال تأمل علاقة الفن بالجنون، يبدو أن هذه العلاقة تتجاوز حدود الفهم العقلاني المألوف، لتفتح أفقًا لإدراك أعمق لما يعنيه أن تكون إنسانًا.
الفن لا يتعلق فقط بالتمثيل الواقعي، بل بإعادة تشكيل الواقع نفسه، والتفاعل معه بطرق مبتكرة. فالجنون يمكن أن يكون مصدرًا للإبداع والتغيير، بعيدًا عن الحتمية العصبية أو الجينية التي قد تحدد مسار الإنسان.
فكما أنَّ الحياة قد تكون محدودة بنظامها الاجتماعي أو البيولوجي، إلا أن هناك دائمًا مساحة للتغيير والانفصال عن القيود، سواء من خلال الفن أو من خلال الجنون.
إقرأ أيضاً: الحب الحقيقي والحب المشروط
الأفق الذي يفتحه الجنون والإبداع لا يمكن تفسيره بأدوات العقلانية التقليدية، بل يتطلب فكرًا حرًا قادرًا على النظر إلى ما وراء الظواهر المألوفة.
ليظل الجنون بمثابة مسار غير مألوف للحقيقة، يمكّن الإنسان من إعادة تشكيل نفسه والواقع من حوله. ولكن هذا يتطلب قدرة على الخروج عن المعتاد، والتخلي عن الراحة التي توفرها العادات والأفكار التقليدية.
قد يكون العالم في حاجة إلى أولئك الذين يجرؤون على “الجنون” ليغيروه، كما في قول لامبرتو مافي: "الحمقى فقط من سيغيرون العالم".