كتَّاب إيلاف

مأثرة التدوين وسقوط التخوين

رجل يرمي طفلاً في الهواء فرحاً بسقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه &- لا كحرفة أو هواية &- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة.

لقد كنتُ &- وما أزال &- من أولئك الذين يراهنون على الإنسان الضعيف، الجريح، المنكسر، يرافعون عنه، يذودون عنه، يقفون إلى جانبه بكل كيانهم، رغم كل ما دفعته وأدفعه، من ثمن، لا رغبة في تصفيقٍ زائف، بل انطلاقاً من إحساس داخلي بأنَّ هذا الضعف لا يجوز استثماره للبطش، بل ينبغي احتواؤه، تطبيبه، ومراكمته كاحتمالٍ للشفاء. أومن بأنَّ للضياع أسباباً، وأن الانحراف ليس قدراً محتوماً. أومن أنني، ككائن كُتِب عليه أن يكون شاهداً، مطالبٌ بالرأفة أكثر من القسوة، بالتفهّم أكثر من الإقصاء، بترميم الذات الهشّة لا بفضحها على قارعة الكلام.

لكن، وفي مفارقة لا تخفى، فإنَّ هذا التسامح لا ينسحب على أولي السلطان. إذ إنه، طوال عمري، لم يكن بيني وبين الجبروت سلام، أو مهادنة، البتة، وهو ما أفتخر به. لم أضع يدي يوماً في يد قاتل. لم أطأ سجادة حاكم. لم أغمس قلمي في حبرٍ مأجور، ولم أصعد منبراً لأسوِّغ جريمة، ولن أرتكب مثل هذه الرزايا والآثام، بل الجرائم. لطالما دفعت أثماناً باهظة لهذا الموقف، من خبز أولادي، من حليبهم، من دفء أخوتي، من طمأنينة أهلي، ومع ذلك لم أتراجع، لأنني كنت أعرف: ثمة أثمان لا يجوز أن تُدفع من كرامتنا، مهما كانت الفاتورة.

إقرأ أيضاً: ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة

وفي قلب هذه الرؤية &- التي تبدو فردية ظاهرياً &- تكمن مأساة جيلٍ كامل. جيل اعتاد بعضٌ منه أن يتعامل معه كأنه قطيع. كأن على الآخر أن يتبنى عداءك ذاته، ظلمك ذاته، جورك ذاته، كذبك ذاته، خصوماتك ذاتها، أحقادك ذاتها، حتى إن لم يقتنع بها. بل الأسوأ من ذلك أن تُفرض هذه العداوات على مستضعفين، بينما يتمُّ تحييد أولي السلطان، والتعامل معهم كأنهم آلهة لا تُمسّ، حتى وإن تواطأوا مع أعدائك ذاتهم، حتى وإن كان طغيانهم أصل كل كارثة.

هكذا تتهاوى المعايير، بعد أن تُزوَّر. تُزيَّف. تُجَيَّر. فمن يجب أن نخاصمه، لا نجرؤ حتى على النظر في وجهه. ومن يجوز التسامح معه، نُجرِّده من إنسانيته. نطالب الفرد بأن يكون سيفاً مسلولاً ضد خصوم مزعومين، لكننا نرتجف صمتاً أمام قصرٍ فيه القاتل، والناهب، والسجان.

أي سقوطٍ أخلاقي هذا؟ أي تشوّه في الموازين؟ كيف يصير من يفضح الظلم، خائناً؟ ويصير من يُجمِّل وجه الطغيان، مصلحاً؟ كيف صار التدوين فعلاً إجرامياً في عيون من احترفوا لغة التخوين؟

ليس المطلوب منّا أن نكون انعكاسات لمعارك غيرنا، بل أن نكون مرآة ضميرنا. ليس من شرف في تبنّي معارك لا تشبهنا. ومن الوقاحة أن يُطلب من الضحية أن تخوض حروباً لا تخصّها، بينما يُعفى الجلاد من أبسط الحساب. من الخبث واللؤم مطالبتك بأن تتخذ موقفاً من عدو عدوك، وهو نفسه يجسر نحوه، بل الآلم من كل ذلك أنه يجسر نحو أعدائك، معوِّلاً عليهم في الإجهاز عليك، وإعدام كل ما يتعلق بك من مزايا، والسعي لإبادة كل من حولك من أهلين.

إقرأ أيضاً: الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة

الكتابة هنا، إذن، ليست موقفاً سياسياً فحسب، بل أخلاقياً. إنها إعلان انفصال عن هذا السوق العفن حيث يتم تبادل الدماء مقابل مناصب، والولاءات مقابل القمع.

وأسأل: لماذا يُطلب مني وحدي أن أكون نبيّاً في زمن اللصوص؟ لماذا يُلقى على كتفيّ وحدي عبء البراءة، بينما يتمُّ التسامح مع القتلة، ويُصافَح السفاح؟

إنَّ أخطر ما يواجهنا اليوم، ليس فقط غياب الحقيقة، بل ترويج الباطل بصفته حقاً. ليس فقط ضياع الإنسان، بل تحويله إلى أداة في ماكينة الكذب الجماعي. وما التدوين &- في هذا السياق &- إلا لحظة استرداد. لحظة صفاء نادرة في بحر عكر، لحظة تجرّد من كل التحالفات، والانحياز لما هو أخلاقي فقط، حتى وإن كان مُكلفاً.

لقد سقط التخوين. سقط في اللحظة التي انهار فيها خطاب أصحابه، وتهاوت وجوههم تحت صقيع المصلحة. وحدها الكتابة بقيت، بوصفها طهراً لا يُشترى، وصوتاً لا يُقمع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
نكاية في الطهارة ينجسون أنفسهم ويدعون الطهر
بسام الشامي -

لم يعد هناك مخلوق على وجه الأرض يقتنع بهذا الكلام وخاصة في زمن الانترنت وبعد أن خلع الجميع أقنعتهم بعد قرون من الباطنية التي استغفلوا فيها البشر . نعم كلهم يقول أنها رؤية فردية ظاهرية والحقيقة أن في داخل كل منهم فرعون يقول أنا ربكم الأعلى عندما يتملك ويطأطئ عندما يضعف ويقول اني آمنت برب موسى وهارون ويصبح ملاك يندب حظه العاثر لأنه الوحيد الذي يتحلى بالصبر والفضيلة والأخلاق الحميدة . يدعون الايمان ويشتمون المؤمنين ويدعون الوطنية وهم انفصاليون ويدعون الشرف وهم خونة منذ الأزل والتاريخ يشهد على ذلك ولا داعي للإسهاب هنا فمقالاتك تشهد عليك وتدينك وهي موجودة تظهر بكتابة اسم كاتبها على العم جوجل رضي عنه وأرضاه.