كتَّاب إيلاف

المنصات الاجتماعية كأنظمة سلوكية

المنصات تُعيد تعريف مفاهيم تقليدية كالقيمة والنجاح والتأثير
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حين تفتح تطبيقًا مثل تيك توك أو إنستغرام، تفاعلك لا يقتصر على متابعة محتوى أو تضييع الوقت، هناك شيء أعمق، أنت تدخل إلى نظام كامل من الإيقاع، واللغة، والانتباه، والاختيارات، حيث يتشكل وعي الإنسان من الداخل، ليس من المشاهدة فقط، بل عبر الطريقة التي يُطلب منك أن ترى بها.

المنصات الاجتماعية اليوم ليست مجرد أدوات ترفيهية أو تواصلية، بل يمكن النظر إليها كأنظمة ثقافية قائمة بذاتها، تعمل على تشكيل الحياة اليومية بما يشبه الأنماط السلوكية الجاهزة، فهي تؤثر على كيفية شعورنا بالوقت، وعلى ما نعرّفه بوصفه نجاحًا، وما ننتبه له، وما ننساه، وما نقول، وما نتوقف عن قوله. لا يتعلق الأمر فقط بالمحتوى، بل بالمنظومة التي تسمح لهذا المحتوى أن يظهر وأن يُتداول، وبالشروط غير المرئية التي تصنعه.

المنصة بهذا المعنى ليست إطارًا محايدًا تُعرض عليه الأشياء، بل هي عامل مشارك في صناعة الرؤية والسلوك معًا، ومن الواضح أن كل منصة تملك ما يشبه منطقها الداخلي. في تيك توك مثلًا، تهيمن الفيديوهات القصيرة عالية الإيقاع التي تعتمد على مؤثرات صوتية مألوفة، وإعادة تدوير لحركات وأفكار بعينها، وهذا يخلق نوعًا من "الإجبار الإيقاعي" للمشاركة: إذا لم يتوافق المحتوى مع نمط المنصة، فلن يحظى بأي ظهور.

أما إنستغرام، فقد قدّم نمطًا مختلفًا يُكمل الصورة: "الجمال البصري" المثالي، الصور المنتقاة، والرغبة في تقديم الذات بأبهى شكل. هنا المستخدم ليس متلقيًا فقط، بل صانع عرض دائم لنفسه، وقد تغيّرت بذلك مفاهيم مثل الخصوصية والعفوية، لصالح الإخراج والتمثيل، فصرنا نعيش على ما يشبه المسرح المفتوح، لا لعرض الحقيقة، بل لعرض ما قد يلقى قبولًا.

تؤثر هذه المنصات كذلك على إدراكنا للزمن، فلم نعد نعيش الزمن كامتداد متصل، بل كسلسلة من القفزات السريعة المتكررة، كل منها لا يزيد على دقيقة. إنه زمن مجزأ، يعيد تشكيل التركيز والانتباه، ويصنع ما يمكن أن نسميه "الانتباه القلق"، ذاك الذي ينتقل بلا توقف، ولا يثبت في شيء، ويطلب ما هو أسرع وأبسط وأكثر تأثيرًا.

الجدير بالذكر أن هذه السرعة لا تُنتج شعورًا بالإنجاز، بل بالتشتت. هذه المنصات، عبر هندسة تصميمها الداخلي، تمنحنا شعورًا دائمًا بالإنجاز بينما لا نُحرز شيئًا يُذكر، نمر على مئات الوجوه والمقاطع والنصوص من دون أن نتمكن من التذكر أو الفهم الكامل، فيتحول الوعي إلى تيار متقطع، مفرغ من التراكم، مستهلك من الداخل.

المثير أن المنصات تخلق أنماطًا جديدة من التعبير اللغوي، هناك ما يشبه اللغة الداخلية لكل تطبيق. في تيك توك، مثلًا، هناك مجموعة من الإشارات الصوتية والمرئية التي تُستخدم بشكل تكراري حتى تصبح مفهومة ضمنيًا للمجتمع الرقمي، وهي ليست لغة رسمية، لكنها تولد دلالات اجتماعية متداولة تكاد تكون مستقلة عن اللغة الأم، ولهذا تُصبح المنصة بيئة لغوية خاصة، يكتسب فيها "المشترك" قدرة على التعبير ضمن قوانينها وحدها، وقد يغدو عاجزًا عن التعبير خارجها.

وإذا نظرنا إلى أثر هذه الأنظمة على فكرة "الذات"، نجد أن المنصة تدفع المستخدم إلى بناء صورة معينة عن نفسه، صورة تُصمم كي تُرى وتُحاكى وتُقاس بردود الفعل، فتتحول الذات إلى مشروع عرض دائم، يُنقح ويُعدل ويُراقب. وهكذا تُصبح القيمة الشخصية مرتبطة بعدد المشاهدات أو التفاعلات، لا بمضمون ما يُقال أو يُقدم. في هذه البيئة تصبح المشاهدة هي الحقيقة، والانتشار هو المعيار.

وهنا يمكن القول إن المنصات تُعيد تعريف مفاهيم تقليدية كالقيمة والنجاح والتأثير، إذ لم تعد هذه المفاهيم ترتبط بالعمق أو بالاستمرارية، بل بالفورية والانطباع السريع وقابلية التداول، وكلما كان المحتوى قابلًا للنسخ والتمثيل، ازدادت "قيمته" داخل النظام، أي أننا ننتقل من ثقافة الإنتاج إلى ثقافة القابلية للتكرار.

وهذا التحول ليس سطحيًا، فهو يعيد تشكيل تفضيلات الجمهور وذوقه وطريقة تعليمه واستجابته للعالم. وإذا كانت المنصة تُعيد تشكيل المتلقي، فهي تُعيد تشكيل المرسل أيضًا، فالمستخدم يكون مدفوعًا بمنطق الانتشار، يبدأ بإنتاج ما يُريد النظام رؤيته، لا ما يُريد هو قوله. تتحول حرية التعبير إلى حرية ضمن القالب، ضمن ما يُسمح له بأن يُنتج، وهكذا تصبح المنصة جهازًا ضخمًا لإعادة تدوير الخطاب الاجتماعي.

من هذا المنظور، تبدو المفارقة عميقة: فالمستخدم يظن أنه يختار، لكنه في الحقيقة يتحرك داخل منظومة خيارات تم تحديدها مسبقًا. المنصة لا تملي عليه ما يقول مباشرة، لكنها تبني شروط القبول، وأشكال النجاح، واللغات التي يُفهم بها. وفي نهاية الأمر، ما لا يُشبه النظام، لا يظهر.

ولا يخفى أن هذا النمط من الاستخدام يُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية ذاتها، فالعلاقة بين الأفراد تتوسطها الآن سلسلة من التفاعلات الرقمية، تُقاس بالإعجاب والمشاركة، وتُختزل أحيانًا إلى رموز سريعة، تُصبح الصداقة أو القرب أو التأييد قابلة للقياس وللإعلان وللإلغاء، والعجيب أن هذه التفاعلات، رغم كثافتها، قد تؤدي إلى نوع من العزلة الداخلية، حيث يتضاءل الحضور الحقيقي خلف ستار من الحضور الرقمي الكثيف.

ومع كل هذا، لا يمكن إنكار الجاذبية الساحقة لهذه المنصات، فهي سهلة ومرحة ومجانية، وتمنح المستخدم وهم السيطرة، لكنها في الوقت نفسه تبني إدمانًا صامتًا، يربط المستخدم بإيقاع زمني شديد التسارع، ويُعيد تشكيل دماغه ليبحث عن المكافأة الفورية، لا المعنى الطويل.

أمام هذه الظواهر، لا يكفي أن ننتقد المنصات بوصفها مجرد أدوات تسلية أو تبديد للوقت، بل ينبغي أن نراها كنظم ثقافية تُنتج سلوكًا، وتعيد تشكيل الإدراك، وتُحدد ما هو مهم وما هو غير مرئي. إنها أنظمة تتحكم في المعرفة كما تتحكم في التفاعل، وتحول المستخدم من فاعل حر إلى وحدة في سلسلة من التفاعلات التي تُعيد إنتاج النظام نفسه.

وإذا كانت اللغة تُشكل الفكر، فإن لغات هذه المنصات تُعيد تشكيل تفكيرنا نفسه، فهي لا تنقل فقط ما نراه، بل تُخبرنا كيف نراه، وكم ثانية يستحق، ومتى يجب أن نمر عليه، ومتى يجب أن نكرره. هكذا تتسلل المنصة إلى أعماق التلقي، وتعيد تشكيل الوعي دون أن نشعر.

إن المنصات الاجتماعية ليست مجرد "أنظمة رقمية"، بل أصبحت تُشبه بيئة وجودية متكاملة، لا يمكننا الهروب منها، لكن يمكننا أن ندرك حدودها وآليات تأثيرها، وأن نفهم أننا لسنا مجرد متلقين سلبيين، بل فاعلون ضمن نظام ذكي يجيد التأثير النفسي. ومع هذا الوعي، قد نستعيد شيئًا من حريتنا، ونبدأ في استثمار الأداة بدل أن نكون تحت سيطرتها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف