كتَّاب إيلاف

الأخلاقيات ليست لعبة محاكاة:

قراءة في حدود الأخلاق الخوارزمية

الروائي إسحاق أسيموف
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

منذ خمسينيات القرن الماضي، حين اقترح آلان تورينغ ما عُرف لاحقاً باختبار تورينغ لتمييز قدرة الآلة على التفكير، بدأت مرحلة جديدة في العلاقة بين الإنسان والآلة. فقد فتح هذا الاختبار الباب أمام ولادة ما أصبحنا نسميه اليوم الذكاء الاصطناعي بكل ما يحمله من طموحات معرفية وتحديات تقنية وتساؤلات أخلاقية لا تكفّ عن التنامي مع كل تقدّم جديد.

لقد أصبحت أخلاقيات الذكاء الاصطناعي حقلاً بحثياً قائماً بذاته، لا يُعنى فقط بالأسئلة النظرية، بل أيضاً بكيفية تعليم الآلة اتخاذ قرارات تحمل أبعاداً أخلاقية ضمن سياقات حساسة مثل القيادة الذاتية، الرعاية الصحية، أو حتى أنظمة العدالة.

وقد كان الروائي إسحاق أسيموف من أوائل من تخيّلوا إمكانية إخضاع الروبوتات لقواعد أخلاقية صريحة عبر قوانينه الثلاثة الشهيرة التي اقترحها في الأربعينيات. شكّلت هذه القوانين محاولة مبكرة لما يمكن تسميته اليوم بالأخلاق المبرمجة، أي إدخال مدونة سلوك واضحة داخل البرمجيات. وترتكز هذه الرؤية على فكرة مفادها أن الأخلاق يمكن ترجمتها إلى تعليمات متسلسلة: افعل هذا، لا تفعل ذاك، وإذا حدث A فافعل B وإذا لم يحدث فانتقل إلى C.

غير أن هذا النموذج البرمجي الكلاسيكي، مهما بدا منطقياً، يواجه مشكلة أساسية، وهي أن الأخلاق لا يمكن اختزالها إلى معادلات إجرائية أو تعليمات ثابتة، لأن السلوك الإنساني بطبيعته مرن ومتعدد السياقات ويستند إلى عقل نقدي لا يمكن تقليده بخطوات جاهزة.

ومع تطور تقنيات التعلّم الآلي، ظهر اتجاه جديد يجعل الآلة تتعلم الأخلاق من البشر، لا من خلال القواعد الصريحة، بل عبر تحليل ملايين القرارات البشرية. وتُعد تجربة &"الآلة الأخلاقية&" التي طوّرها معهد MIT مثالاً بارزاً على هذا النهج، حيث يُطلب من المشاركين اتخاذ قرارات أخلاقية افتراضية كما في معضلة السيارة ذاتية القيادة: من يجب أن يُنقذ؟ الراكب أم المار؟ الطفل أم الشيخ؟ الطبيب أم الشخص المجهول؟

بعد جمع ملايين الإجابات، تتعلم الخوارزمية أنماطاً من القرارات، ثم تُستخرج منها &"قواعد&" سلوكية ضمنية. إلا أن هذا الأسلوب يثير إشكالات عميقة، أبرزها أن الخوارزمية قد تصل إلى نتيجة صحيحة لكنها لا تستطيع تفسير السبب، وغياب التبرير في الأخلاق يمثل عيباً جوهرياً لأن القرار الأخلاقي ليس مجرد نتيجة بل مسار عقلاني.

يُضاف إلى ذلك مشكلة التحيزات البشرية؛ فإذا كانت البيانات متحيزة ضد فئة معينة، فإن الخوارزمية ستعيد إنتاج هذا التحيز، ما يطرح سؤالاً فلسفياً قديماً: هل الأخلاق هي ما تقرره الأغلبية؟ أم أن هناك قيماً تتجاوز الأهواء الجماعية؟

يُضاف إلى ذلك سؤال آخر: من يسمح له بأن يشارك في تعليم الأخلاق للآلة؟ هل يؤخذ رأي الجميع؟ هل يُستبعد أصحاب الآراء المتطرفة؟ وكيف نحدد ما هو &"طبيعي&" أخلاقياً؟ فكل عملية اختيار للعينة تحمل حكماً أخلاقياً مسبقاً، حتى قبل البدء في التجربة، وكأن الإنسان يفترض مسبقاً معرفته بالخير والشر قبل أن يسأل الآخرين عنهما. وهذا يقود إلى خلاصة مهمة، وهي أن الآلة لا يمكن أن تتعلم الأخلاق إذا لم يتفق البشر أنفسهم على معايير هذه الأخلاق.

إن جوهر الأخلاق، كما اتفق عليه الفلاسفة من اليونان إلى مفكري الحداثة، يكمن في القدرة على التفكير النقدي، وعدم الاتباع الأعمى للجموع، والتمييز بين الصواب والخطأ عبر العقل لا عبر التقليد. ولهذا فإن تحويل الأخلاق إلى مجرد تقليد للأغلبية يشكل خطراً كبيراً، سواء في التربية الإنسانية أو في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي. فالأخلاق ليست في اتباع مدونة جامدة مثل قوانين أسيموف، ولا في تكرار السلوك الشائع بين الناس، بل تكمن قيمتها الحقيقية في معقولية الفعل.

في النهاية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أخلاقياً بمجرد تقليد البشر، ولا بتطبيق قواعد جاهزة؛ فالأخلاق ليست لعبة تقليد، بل ملكة بشرية مركبة تتطلب وعياً ونقداً وضميراً. وإذا أردنا أن نعلّم الآلة أخلاقاً، فعلى الإنسان أولاً أن يحدد بدقة معنى الخير الذي يتوقع من الآلة أن تتبناه. إن مستقبل الأخلاق الرقمية لن يُبنى على الخوارزميات فقط، بل على الفلسفة والقانون والتعليم والإنسان نفسه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف