تصريحات باراك ...قراءة تحليلية في دلالاتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في مطلع ديسمبر 2025 أدلى السفير الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، بتصريح لافت خلال مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية، قال فيه إن "إسرائيل لن تستطيع مواجهة ملياري مسلم ولا كبح معاداة السامية المنتشرة في العالم"، ورغم أن التصريح بدا في لحظته مجرد تعليق سياسي، فإنه يحمل - في تقديري - تحولاً بالغ الحساسية في طريقة قراءة الصراع في الشرق الأوسط، إذ يبتعد عن مقاربات السياسة والجغرافيا والأمن، ويتجه نحو توصيف ديني واسع يجعل الصراع يبدو وكأنه مواجهة عقائدية بين ديانتين. وهذا النوع من الطرح، إذا ترسّخ، ينقل النزاع من إطار الخلاف القابل للتسوية إلى فضاء الحروب الدينية التي لا تعترف بحدود أو تفاهمات.
والمعضلة الأساسية أن هذا الخطاب يعيد تشكيل الصراع خارج سياقه السياسي. فعندما تُوضع إسرائيل - بحجمها وحدودها المعروفة - في مواجهة ملياري مسلم، يصبح المشهد أقرب إلى استدعاء القديم من السرديات الدينية، لا إلى نقاش معاصر حول دولة وحدود وسيادة، وهنا تكمن خطورة التصريح؛ لأنه يوقظ الذاكرة التاريخية العميقة للصراعات العقائدية التي شهدتها المنطقة عبر قرون، ويضخ فيها روحاً جديدة تجعل أي فرصة للتفاهم أكثر هشاشة.
ويتوازى ذلك مع الدور الذي تلعبه قوى إقليمية عدة؛ والتي وجدت في البعد الديني والأيديولوجي أداة فعّالة لتوسيع نفوذها في الهلال الخصيب، فقد أعادت هذه القوى تفسير الصراع الفلسطيني&-الإسرائيلي عبر سرديات عقائدية تمنحها قدرة أكبر على التعبئة وتبرير التدخل. وكلما ظهرت بوادر التهدئة، تتحرك تلك القوى أو وكلاؤها لرفع مستوى التوتر، لأن استمرار الصراع يخدم مشاريع النفوذ الإقليمي أكثر مما يخدم الفلسطينيين أنفسهم، وفي ظل هذا التداخل بين السياسة والدين، يصبح أي خطاب يضخّ بعداً عقائدياً في الصراع مكسباً لهذه القوى، وخسارة لفرص الاستقرار.
وما يزيد الصورة تعقيداً أن آثار هذا النوع من الخطاب لا تبقى محصورة في المنطقة؛ فالغرب نفسه يمتلك ذاكرة جمعية طويلة تجاه الشرق الأوسط، تشكّلت عبر الحروب الصليبية والروايات اللاهوتية المتوارثة، ولذلك، فإن أي خطاب يصوّر الصراع كحرب دينية يعيد تلقائياً تحريك هذه الذاكرة، ويفتح الباب أمام دخول الغرب طرفاً فاعلاً، سواء من خلال الرأي العام أو عبر صنّاع القرار أو التيارات المتطرفة التي ترى في الشرق الأوسط ساحة لاختبار أفكارها، وفي هذا السياق، تنشط سرديات اليمين المتطرف واليسار الراديكالي على حد سواء؛ فكلٌّ منهما ينظر إلى الصراع من زاوية دينية أو فلسفية تسهّل إعادة إنتاج "نحن" و"هم" في صور أكثر حدّة.
ويتأكد هذا البعد العالمي بصورة أوضح حين نضع تصريح باراك جنباً إلى جنب مع الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قبل أيام في جامعة يشيفا بنيويورك، حيث حذّر من موجة متصاعدة من الكراهية تستهدف اليهود في الغرب، فقد أشار هرتسوغ إلى أن معاداة المؤسسات للسامية، ومحاولات قلب حقائق الهولوكوست وتشويه دلالاته، وانتشار نظريات المؤامرة من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي، وتنامي الكراهية ضد اليهود عبر منصات التواصل الاجتماعي، وظهور أشكال من الإفلاس الأخلاقي تتخفّى وراء شعارات العدالة الاجتماعية — كلها تشهد ارتفاعاً مقلقاً في الآونة الأخيرة.
وأضاف هرتسوغ أن "اليهود هم دائماً أول من يُشيطَن ويُستهدف ويُعامل كـآخر"، محذراً من أن موجات الكراهية تتغير في شعاراتها لكنها تحافظ على جوهرها التاريخي. وهذا الربط بين القديم والجديد يكشف أن المشكلة لا تنحصر في أحداث الشرق الأوسط، بل تمتد إلى بيئة عالمية تعيد إنتاج أنماط كراهية متجذّرة، وتحوّل أي خطاب ديني متصاعد إلى وقود إضافي في دوائر الاستقطاب داخل الغرب نفسه.
ومن خلال هذا الربط بين خطاب باراك وهرتسوغ، تتضح الصورة؛ فالمسألة لا تتعلق بإسرائيل وحدها، بل بمنظومة عالمية من التوترات العقائدية التي تتغذى على أي خطاب يُعيد رسم الصراع في الشرق الأوسط بصيغة مواجهة دينية شاملة.
وعلى الجانب الآخر، يبقى وجود دولة إسرائيل - بما تمثله من مؤسسات مستقرة في محيط شديد الاضطراب - عنصراً مهماً في معادلة التوازن الإقليمي. فإسرائيل، رغم اختلاف المواقف تجاهها، تبقى دولة قائمة على بنية سياسية واضحة وقدرة على اتخاذ قرارات مستقرة، في منطقة تآكلت فيها الكثير من الدول تحت وطأة الصراعات أو الانقسامات الداخلية، ولكن الخطاب الذي يصوّرها في مواجهة دينية مع العالم الإسلامي لا يخدم استقرارها ولا استقرار المنطقة، لأنه ينقلها من سياق الدولة إلى سياق الرمز العقائدي، وهو سياق تاريخياً أكثر عرضة للتأويل والتعبئة من أي مساحة سياسية أخرى.
ومن المهم الإشارة إلى أن مثل هذه تصريحات السفير توماس باراك لا تُقرأ فقط في وسائل الإعلام، بل تُناقش داخل غرف القرار بوصفها مؤشرات على توجهات التفكير، وربما كأساس لتطوير سياسات لاحقة. وهذا ما يجعل خطابات كهذه بالغة الخطورة؛ لأنها قد تتحول إلى عدسة جديدة لفهم الصراع، وتعيد تشكيله في ذهن الجمهور وصناع القرار كحرب دينية وليست نزاعاً سياسياً. وإذا حدث هذا التحول، فإن المنطقة قد تدخل مرحلة مختلفة تماماً، تتصاعد فيها لغة العقيدة على حساب لغة المصالح، وتتراجع فيها فرص التسوية لصالح روايات تاريخية تتجاوز حدود الدول.
وفي ضوء كل ما سبق، يصبح السؤال الحقيقي: هل يخدم هذا النمط من الخطاب مستقبل المنطقة واستقرارها؟ من وجهة نظري، أن منع الصراع من الانزلاق إلى حرب دينية هو التحدي الأكبر أمام الشرق الأوسط اليوم؛ لأن بقاء النزاع ضمن حدوده السياسية القابلة للإدارة هو وحده ما يسمح ببناء مسارات تفاهم واقعية، أما إذا تُرك ليُعاد صياغته كصراع بين ديانتين أو أكثر، فإن المنطقة والعالم قد يدخلان في دورة جديدة من المواجهات التي لا يمكن التنبؤ بكلفتها ولا بحدودها.