مسرور بارزاني في القاهرة: السياسة حين تستعيد ذاكرتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ليست العلاقة بين الكورد ومصر تفصيلاً عابرًا في تاريخ المنطقة، بل مسارًا طويلًا من التفاعل الهادئ، ظلّ بعيدًا عن الأضواء لكنه حاضر في اللحظات المفصلية. فوفق مصادر تاريخية وسياسية، كانت القاهرة واحدة من أوائل العواصم العربية التي تعاملت مع القضية الكوردية بوصفها مسألة سياسية وإنسانية، لا مشكلة أمنية عابرة. ومن هنا، تكتسب زيارة رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، إلى مصر معناها الأعمق، بوصفها استعادةً لذاكرة سياسية مشتركة أكثر من كونها حدثًا آنيًا.
تاريخيًا، لم تكن مصر بعيدة عن الكورد. ففي أربعينيات القرن الماضي، احتضنت القاهرة طباعة أول صحيفة كوردية حديثة، &"صوت الحق&"، التي صدرت لتكون منبرًا ثقافيًا وسياسيًا يعبّر عن الهوية الكوردية وحقوقها، في زمن كانت فيه هذه الأصوات محاصَرة داخل الجغرافيا العراقية وخارجها. لم يكن ذلك فعلًا إعلاميًا فقط، بل موقفًا سياسيًا مبكرًا يعكس إدراك مصر لعدالة القضية الكوردية، وإيمانها بدور الكلمة في حماية الهويات المهدَّدة.
هذا الانفتاح لم يتوقف عند الصحافة. فالعلاقات التي ربطت الزعيم الكوردي الملا مصطفى بارزاني بمصر شكّلت أحد أهم فصول هذا التاريخ الصامت. ووفق مصادر متعددة، حافظت القاهرة على تواصل سياسي مع بارزاني، بوصفه قائدًا لحركة تحرّر قومية تسعى لحقوقها داخل الدولة العراقية، لا مشروعًا انفصاليًا يهدّد استقرار المنطقة. وفي مرحلة كان فيها الموقف العربي من الكورد ملتبسًا أو خاضعًا للحسابات الأمنية، تبنّت مصر رؤية أكثر توازنًا، ترى في إنصاف الكورد جزءًا من استقرار العراق، لا نقيضًا له.
من هذا السياق التاريخي، يمكن فهم زيارة مسرور بارزاني إلى القاهرة اليوم بوصفها امتدادًا لا قطيعة. فالزيارة تعيد استدعاء ذاكرة سياسية قديمة، لكنها تُدار بلغة جديدة، أقل عاطفية وأكثر واقعية. ووفق قراءات دبلوماسية، جاء توقيت الزيارة في لحظة إقليمية دقيقة: عراق يواجه انسدادًا سياسيًا واقتصاديًا مزمنًا، ومنطقة تعيد رسم توازناتها، وإقليم كوردستان يقف اليوم عند مفترق مختلف تمامًا عمّا كان عليه قبل عقود.
فبعد ما يقرب من مئة عام من النضال السياسي والعسكري والحقوقي، لم يعد إقليم كوردستان مجرّد قضية تبحث عن اعتراف، بل كيان دستوري يتمتع بمؤسسات، وأمن نسبي، وتجربة حكم تراكمية. تحوّل الإقليم من ساحة صراع إلى مساحة إعمار وبناء، ومن خطاب المظلومية وحده إلى لغة الاستثمار والتنمية. وهذا التحوّل هو ما يمنح زيارة مسرور بارزاني معناها الحقيقي: الحديث باسم كوردستان القوية، لا كوردستان الجريحة.
اللقاء الذي جمع مسرور بارزاني بالرئيس عبد الفتاح السيسي لم يكن بروتوكوليًا بقدر ما كان لقاء حسابات هادئة. فمصر، التي تنطلق في سياساتها من مفهوم الدولة والاستقرار، تنظر إلى إقليم كوردستان اليوم كجزء فاعل من المعادلة العراقية، لا يمكن تجاهله في أي تصور لمستقبل البلاد. أمّا أربيل، فقد سعت من خلال هذا اللقاء إلى تأكيد أنها منفتحة على عمقها العربي، وأن قوتها السياسية والاقتصادية ليست موجّهة ضد بغداد، بل يمكن أن تكون رافعةً لاستقرار العراق ككل.
تحليل هذا اللقاء يكشف أن القاهرة أرادت تثبيت موقفها التقليدي: دعم وحدة العراق، مع الاعتراف بخصوصية إقليم كوردستان وتجربته. في المقابل، حملت الزيارة رسالة واضحة من الإقليم مفادها أن كوردستان اليوم لا تبحث عن تعاطف تاريخي، بل عن شراكات اقتصادية واستثمارية تعكس موقعها الجديد بعد عقود من الصراع.
اقتصاديًا، ووفق مصادر مطّلعة، طُرحت ملفات الاستثمار والإعمار والطاقة بعيدًا عن المبالغات. فمصر، بما تمتلكه من خبرة واسعة في البنى التحتية والطاقة والإسكان، تمثّل شريكًا عمليًا لإقليم يسعى إلى تحويل الاستقرار الأمني إلى نمو اقتصادي مستدام. وهنا، تتحوّل الزيارة من استدعاء للتاريخ إلى رهان على المستقبل، حيث تُربط السياسة بالاقتصاد، لا بالشعارات، وهنا لا يمكن فصل زيارة مسرور بارزاني إلى القاهرة عن مسار طويل بدأ من صفحات &"صوت الحق&"، ومرّ بعلاقات الملا مصطفى بارزاني مع مصر، ليصل اليوم إلى إقليم كوردستان الذي يقف بعد قرن من النضال في موقع مختلف: أكثر قوة، وأكثر حضورًا، وأكثر قدرة على بناء شراكات لا تُدار بمنطق الضحية، بل بمنطق الشريك. إنها زيارة تُذكّر بأن السياسة، حين تستعيد ذاكرتها وتتحرّر من انفعالاتها، يمكن أن تكون أداة استقرار وبناء، ليس لكوردستان وحدها، بل للعراق بأسره.