اليمن رهينة الخداع: انقلاب يهاجم وشراكة تطعن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
واحدة من أعظم الخدع في التاريخ العسكري: ماذا تفعل عندما يكون 200,000 جندي من الأعداء عند بواباتك؟ بالنسبة للحاكم الصيني القديم تشوغي ليانغ، كانت الإجابة بسيطة: افتح أبواب المدينة… واعزف بهدوء.
في عام 228 ميلاديًا، وخلال عصر الممالك الثلاث، وجد تشوغي ليانغ نفسه محاصرًا في مدينة صغيرة لا يملك فيها سوى 2500 جندي، بينما تتقدّم نحوه قوة كاسحة يتجاوز عددها 200 ألف مقاتل بقيادة خصمه سيما يي. لا وقت للتحصين، ولا أمل في معركة مباشرة، ولا طريق للهروب.
اختار تشوغي ليانغ سلاحًا واحدًا: الخداع النفسي. أخفى جنوده، فتح الأبواب، جعل الشوارع تبدو هادئة، ثم جلس على سور المدينة يعزف على آلة موسيقية أمام الجيش الزاحف. سيما يي، المعروف بحذره، لم يرَ مدينة ضعيفة، بل رأى فخًا. انسحب، وهكذا انتصر تشوغي ليانغ دون طلقة واحدة.
هذه القصة ليست حكاية تاريخية للتسلية. إنها مفتاح لفهم ما جرى في اليمن… وكيف تم خداعه مرتين.
الخدعة الأولى كانت انقلاب مليشيات الحوثي على الشرعية. لم تدخل صنعاء كقوة تعلن الحرب بوضوح، بل كطرف “مظلوم” يرفع شعارات الشراكة، ومحاربة الفساد، وإسقاط الجرعة، وحماية الدولة. فُتحت لها الأبواب باسم الحوار، وسُلّمت المعسكرات باسم التهدئة، وجُمّدت المواجهة باسم السياسة. تمامًا كما فُتحت أبواب المدينة في الصين، فُتحت مؤسسات الدولة اليمنية دون قتال حاسم، لا لأن الخصم قوي عسكريًا، بل لأن الشرعية افترضت أن ما يجري مسرح سياسي لا انقلاب عسكري كامل. كانت تلك أولى لحظات الخداع.
لم تكن مليشيات الحوثي تملك تفوقًا شاملًا في تلك اللحظة، لكنها امتلكت عنصرًا أخطر: القدرة على زرع الشك داخل معسكر خصومها. شك في نواياها، شك في قدرتها، شك في كلفة مواجهتها. فاختار كثيرون الانسحاب خطوة، ثم خطوة، حتى استيقظ اليمن على دولة مختطفة.
ثم جاءت الخدعة الثانية… الأكثر تعقيدًا…!
المجلس الانتقالي لم يأتِ من خارج معسكر “الشرعية”، بل خرج من رحمها…!
لم يرفع شعار إسقاط الدولة، بل شعار تصحيح المسار، ولم يواجه الحوثي مباشرة، بل فتح جبهة داخل المعسكر نفسه.
مرة أخرى، لم يكن السلاح هو الخدعة الأساسية، بل اللغة السياسية: تمثيل الجنوب، مظلومية تاريخية، شراكة مؤقتة، مواجهة مشتركة للانقلاب. وفي الوقت الذي كان فيه الحوثي يرسّخ سلطته شمالًا، كانت الشرعية تُستنزف جنوبًا، وتُسحب منها الأرض والنفوذ والقرار، باسم التكامل لا الانقلاب.
هكذا خُدع اليمن مرتين:
مرة حين ظن أن الحوثي طرف يمكن احتواؤه سياسيًا، ومرة حين ظن أن تفكيك معسكره من الداخل خلاف إداري لا مشروعًا سياسيًا موازيًا.
المفارقة القاسية أن الخدعتين اعتمدتا على السلاح نفسه الذي استخدمه تشوغي ليانغ: إرباك الآخرين نفسيًا لا كسرهم عسكريًا.
الشرعية، ومعها جزء من الرأي العام، ظلت تتعامل مع كل صدمة على أنها حالة مؤقتة، وكل خسارة على أنها تكتيك عابر، وكل انقسام على أنه اختلاف في وجهات النظر. والنتيجة؟ انسحابات متتالية دون قرار انسحاب، وهزيمة تتشكّل دون معركة فاصلة.
اليمن لم يُهزم لأنه ضعيف، بل لأنه واجه خصومًا من أبناء جلدته، اعتمدوا على ضرب الثقة وتفكيك المعسكر من داخله.
وما لم يُكسر هذا النمط من الخداع، بوضوح سياسي، وحسم في تعريف العدو، وإنهاء وهم “الشراكات الرمادية”، فإن اليمن سيبقى ساحة مفتوحة لخدعة ثالثة… قد تكون الأخيرة.
تشوغي ليانغ انتصر لأنه عرف خصمه جيدًا، أما في اليمن، فالمأساة أن الخصم تغيّر… بينما بقيت طريقة التفكير كما هي.