الشيخ ناصر صباح الأحمد.. رجل الدولة المستنير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في العشرين من ديسمبر عام 2020م، نعى الديوان الأميري في دولة الكويت الشقيقة معالي الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح، الابن الأكبر لأمير البلاد الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، رحمهما الله، والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأسبق، عن عمرٍ ناهز 73 عامًا بعد صراع مع المرض. خمس سنوات تمضي على رحيل (بوعبدالله)، ولمّا يزل أثره ومآثره يأخذان مكانهما الرحب في المشهد السياسي الكويتي والخليجي. ولقد لفت انتباهي، وأنا أقلّب صفحات سيرته العطرة، أنه ورغم عدم تقلّده منصبًا رسميًا حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان، رحمه الله، مهتمًا دائمًا بالحوكمة ودور الحكومة الفاعل في تحسين جودة الحياة لمواطني الكويت والمقيمين على أرضها الطيبة، رغم صعوبات التحديات.
ففي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كان المشهد السياسي في الكويت يموج بالحراك السياسي، وانعكس ذلك سلبًا على بعض قرارات الدولة الرئيسة. ومع وقوع كارثة الغزو العراقي في الساعات الأولى من صباح الثاني من أغسطس عام 1990م، تعرّضت الكويت لأعظم هزّة في تاريخها، وكانت دستورية البلاد تترنح على حافة الهاوية، لكن بفضل من الله، ثم تماسك الشعب الكويتي بقيادته الشرعية آل الصباح الكرام، صمد الداخل الكويتي وشرع في المقاومة الشرسة للغازي الغاصب، وبقيت ممثليات الدولة في المنظمات الدولية تمارس دورها باحترافية عالية كما لو كانت دولة غير محتلة.
ومع انكشاف الغمّة وانبلاج فجر التحرير في السادس والعشرين من فبراير عام 1991م، قام الشيخ ناصر، ومعه بعض أبناء عمومته من الأسرة الحاكمة، وتحديدًا في صيف عام 1992م، بصياغة عريضة التماس تم الاصطلاح على تسميتها لاحقًا بـ(وثيقة أبناء الأسرة)، دعوا فيها إلى إصلاح واسع للحفاظ على نمو البلاد وازدهارها، مع مراجعة عامة، وربما إعادة هيكلة، آليات عمل المؤسسات الحكومية كافة وصياغتها، بما في ذلك الوظائف القضائية والتنفيذية.
لم يكن اهتمام الشيخ ناصر بالسياسة طارئًا، فإضافة إلى كونه نشأ في بيت أحد أعظم وزراء الخارجية في العالم، فقد كانت السياسة والشؤون الخارجية في دائرة اهتمامه على نحو خاص، بالنظر إلى كونه صاحب رؤية ثاقبة لمستقبل بلده، مؤمنًا بوجوب ممارسة الحكومة دورًا رئيسًا في هذا الاتجاه، ولم يتردد يومًا في النقد الصريح للأمور التي كان يؤمن بضرورة تغييرها.
وقد لفت الشيخ ناصر، بتفكيره الساعي دومًا إلى التقدم والتطوير، عناية وانتباه صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، أمير دولة الكويت خلال الفترة من 1978م حتى مطلع عام 2006م، حيث أصدر سموه مرسومًا، يوم السابع من ديسمبر عام 1999م، بتعيينه في أول منصب له في الدولة كمستشار خاص لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، رحمه الله، والذي أصبح لاحقًا أميرًا للبلاد لفترة وجيزة في يناير 2006م.
وقد نشرت صحيفة القبس الرسالة التي وجّهها الشيخ ناصر لسمو الشيخ سعد بعد تعيينه مباشرة، وكان مما جاء في تلك الرسالة، بعد أن ابتدأها الشيخ ناصر بنداء سمو ولي العهد بقوله: (سيدي الوالد سمو الشيخ سعد العبدالله)، في إشارة إلى نهج اجتماعي قويم تربّى عليه أبناء أسرة الصباح الكرام، وجسّده الشيخ ناصر بتقديم الاحترام والتقدير قبل الحديث في أي شأن سياسي، ثم قال في خطابه إن مسؤوليته كمستشار خاص تقتضي منه المصارحة في الرأي والإخلاص في النصيحة، وهذا مما يزيد من عظم المسؤولية وجسامة الواجب، مؤكدًا أن ما يخفف عليه هو ثقته الكبيرة بسعة صدر سمو الشيخ سعد وحرصه الأكيد على تحرّي طريق الحق مهما صعب مناله. ثم أسهب الشيخ ناصر في عرض أفكاره ومدى حاجة الكويت إلى نقلة نوعية جديدة في طريق الإصلاح، والتوافق على مشروع تنموي وطني يحقق للكويت التقدم والنهوض.
بعد ذلك، تتابعت تعيينات الشيخ ناصر في مناصب حكومية عديدة أخرى، من بينها منصب وزير شؤون الديوان الأميري في الحادي عشر من فبراير عام 2006م، حيث قدّم أثناء توليه هذا المنصب مبادرة المراكز الثقافية، والتي نُفّذت لاحقًا، وهي (مركز الشيخ عبدالله السالم الثقافي) و(مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي ودار الأوبرا). كما قدّم رؤية الكويت 2035م التي سُلّمت إلى الحكومة في مارس عام 2010م. ثم عُيّن الشيخ ناصر عضوًا في المجلس الأعلى للتخطيط خلال الفترة من عام 2013م حتى عام 2017م، وقدّم خلال عضويته في المجلس مبادرة إصلاح التعليم، ومبادرة الإدارة الحكومية التنموية، ومشروع الجزر الخمس. وفي الحادي عشر من ديسمبر عام 2017م، عُيّن الشيخ ناصر في منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للدفاع، وكان في جميع المناصب التي تقلّدها يتناول التحديات والقضايا من منظور الدولة الاستراتيجي، ويربط الحلول مع مختلف الكيانات التنفيذية والتشريعية داخل الكويت للخروج بوصفة من شأنها ضمان المكانة اللائقة للكويت بين الدول الرائدة في العالم.
لقد أثبت التفكير الاستراتيجي للشيخ ناصر، وتحفيزه للآخرين على تنفيذ الخطط الصحيحة بشكل سليم، نجاحه الكبير في أعماله التجارية، ولذلك قام بنقل تلك الممارسات الفذّة إلى مناصبه الحكومية. وقد ساعده ذلك أيضًا بشكل جيد في التعامل مع رؤساء ومسؤولي الدول الإقليمية، سواء أكان ذلك لتحديد فرص التعاون في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، أو لوضع أسس الشراكة لمعالجة القضايا على الصعيد الدولي.
ومع شغفه الكبير بتقديم أفضل ما لديه في سبيل خدمة بلاده، فقد نظر الشيخ ناصر إلى ما هو أبعد من المهام الآنية المطروحة، واثقًا من أنه، مع بعض التوجيه والإرشاد، سيتم تنفيذ العمل وإنجازه بشكل جيد وسليم. لذلك، ركّز على ما وصفه بأنه تحدٍ أكبر، وهو الإصلاح، فوضع الأمور في نصابها، وبتسليط الضوء على برامج إيجاد حلول لمشكلات الدولة، ومراجعة العقود، والتحقق من سلامة الاتفاقات الرسمية وغير الرسمية، تصرّف خارج أطر العمل الاعتيادية، وهذا &- بطبيعة الحال &- أثار حفيظة العديد من القائمين على العمل في الحكومة، لكنه في الوقت نفسه نال إعجاب الكثيرين ممن هم داخل وخارج نطاق العمل الحكومي.
كان المغزى العام لخدمة الشيخ ناصر لبلاده متمثلًا في سخطه الواضح وعدم رضاه المطلق عن الفساد، فقد كان رجلًا لا يستطيع قبول وضع يُسمح فيه بتفاقم الأعمال غير الأخلاقية وغير القانونية، معتقدًا أن السلوك الفاسد والمحسوبية كانا من العوامل الرئيسة في تقييد نمو دولة الكويت وتقدمها بوصفها قوة رئيسة على الصعيد الدولي. لقد أدرك الشيخ ناصر أن المواقف الاجتماعية تجاه الفساد داخل بلاده الكويت يجب أن تتغير لكي تستعيد الكويت ازدهارها وتحتل مكانتها الصحيحة في العالم، ومن خلال تحقيقاته التي أجراها تمكّن من تحديد أنشطة الفساد، وبدأ بشجاعة وبسالة في فضح من أساءوا إلى مناصبهم وحنثوا في قسمهم، غير مكترث بالعواقب، وغير آبه حتى بمصير مستقبله السياسي، لأنه آمن بأن الوجود عابر، وأن الكويت هي الوجود الثابت.
رحم الله ناصر الكويت، وأسكنه فسيح جناته، وبارك في ذريته الذين هم امتداد لسيرته العطرة، وخُلُقه الرفيع، وحبه الغامر للكويت وأهلها.