كتَّاب إيلاف

من المستفيد من تفكيك الجغرافيا وكسر وعي العرب؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ليست الفوضى التي تضرب العالم العربي اليوم حدثًا طارئًا أو نتيجة أخطاء عشوائية، بل هي حصيلة مشروع طويل الأمد، صُمِّم بعناية، وتغذّى على هشاشة الداخل قبل أن يُغذّى بتدخل الخارج. فحين ننظر إلى الخريطة العربية خلال العقود الأخيرة، نكتشف أن ما جرى لم يكن مجرد صراعات متفرقة، بل مسارًا متكررًا لتفكيك الدول من الداخل، وتحويلها من كيانات سيادية إلى ساحات مفتوحة للتجاذب والتجريب.

السؤال الجوهري ليس: لماذا سقطت دول؟ بل: من المستفيد من أن تبقى الدول العربية ضعيفة، متنازعة، وممزقة بين الهويات الفرعية؟ من المستفيد من أن تتحول الدولة من كيان جامع إلى ساحة صراع دائم؟

في العراق، لم يكن الغزو العسكري نهاية القصة، بل بدايتها. بعد إسقاط النظام الجامع، بالرغم من كل أخطائه الكارثية، جرى تفكيك مؤسسات الدولة لا إعادة بنائها. حُلَّ الجيش، وتفكك الأمن، وفُتحت الأبواب أمام الهويات الطائفية لتملأ الفراغ. لم يكن الهدف فقط تغيير نظام، بل إعادة تشكيل وعي مجتمع كامل، بحيث يصبح الانقسام هو القاعدة، والوحدة استثناءً. وهكذا تحوّل العراق من دولة مركزية قوية إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، تُدار فيها المعارك بالوكالة.

في سوريا، لم يكن المشهد مختلفًا كثيرًا. بدأت الأزمة بمطالب سياسية واجتماعية، لكنها سرعان ما تحولت إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية. انقسم المجتمع، وتعددت الجبهات، وتحوّلت الأرض إلى ساحة اختبار لموازين القوى. لم تعد القضية فقط من يحكم، بل من يملك قرار الحرب والسلم، ومن يسيطر على الجغرافيا والموارد، وحتى بعد رحيل الطاغية وهزيمة مشروع إيران في سوريا، لا يزال هناك من يحاول خلق الفوضى والأزمات…!

أما ليبيا، فقد كانت نموذجًا صارخًا لتحويل الدولة إلى فراغ. سقط النظام، لكن الدولة لم تُبنَ. تعددت الحكومات، وتنازعت الميليشيات، وتحوّل النفط من نعمة إلى لعنة. كل طرف خارجي وجد موطئ قدم، وكل قوة رأت في الفوضى فرصة للنفوذ. النتيجة: بلد غني بالموارد، فقير بالسيادة.

وفي اليمن، تتجلى المأساة بأوضح صورها. بلد ذو تاريخ عميق وهوية متجذرة، تمزقه الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية بين انقلابي ومتمرد يضعف الشرعية اليمنية. هنا، لا تُستخدم الحرب فقط لإسقاط دولة، بل لإعادة تشكيل وعي شعب بأكمله، ودفعه إلى صراع طويل يُنهك الجميع، بينما تتقاسم القوى المتدخلة سلبًا النفوذ على حساب الدم اليمني.

في فلسطين، تُختبر ذاكرة الأمة يوميًا. هناك لا تُقصف الأرض وحدها، بل يُستهدف المعنى نفسه. تُحاصر الحقيقة، وتُشوَّه الرواية، ويُطلب من الضحية أن تبرر وجودها. فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل اختبار دائم لضمير العالم، ومقياس لمدى قابلية البشر لقبول الظلم حين يُقدَّم بلغة القانون والقوة.

وفي السودان، تتجلى الصورة بأكثر وجوهها قسوة. دولة ذات عمق تاريخي وإنساني هائل، تُستنزف من الداخل عبر صراعات تُغذّى وتُدار بعناية. لم يكن الانقسام صدفة، بل نتيجة تراكمات استُثمر فيها التنوع بدل أن يُحمى. هنا يتجلى التفكيك بوصفه أداة: كسر الدولة عبر إنهاك المجتمع، حتى يصبح الوطن ساحة صراع لا مشروع حياة، مع وجود طرف ميليشياوي انقلابي متمثل في حميدتي ومشروعه.

أما الصومال، فهو المثال الأوضح على ما يحدث حين يُترك بلد كامل خارج معادلة الاهتمام العالمي. أُنهك بالحروب، وتُرك للفوضى، ثم قُدِّم للعالم كنموذج للفشل، لا كضحية لتجارب دولية متعاقبة. ومع ذلك، ظل الصومالي متمسكًا بكرامته، يثبت أن الشعوب لا تموت حتى لو تآمر الجميع على نسيانها، واليوم نحن أمام مؤامرة صهيونية للتشطير.

حتى الدول التي لم تنزلق إلى الحرب المباشرة لم تكن بمنأى عن محاولات التفكيك الناعم. فالحروب اليوم لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالإعلام، والاقتصاد، وإعادة تشكيل الوعي. تُضخ سرديات تُفرغ الهوية من معناها، ويُعاد تعريف الوطنية بوصفها عبئًا، والانتماء بوصفه تهمة. يُصوَّر الاستقرار على أنه استبداد، والفوضى على أنها حرية.

المفارقة أنَّ كل هذا يحدث تحت شعارات براقة: الديمقراطية، حقوق الإنسان، حماية الأقليات، مكافحة الإرهاب. شعارات نبيلة في ظاهرها، لكنها تُستخدم أحيانًا كأدوات ضغط، لا كمبادئ إنسانية خالصة. وهنا تكمن خطورة المرحلة: حين تختلط القيم بالمصالح، ويصعب التمييز بين الإصلاح الحقيقي والتفكيك الممنهج.

من المستفيد إذًا؟ المستفيد هو كل من يرى في العالم العربي مجرد مساحة نفوذ، وسوق سلاح، وممر طاقة، وساحة تصفية حسابات. المستفيد هو من يخشى قيام دول عربية قوية، مستقلة القرار، قادرة على إنتاج المعرفة والثروة. وهو أيضًا من يجد في الانقسام الداخلي فرصة لتمديد نفوذه بأقل كلفة.

لكن بالرغم من هذا المشهد القاتم، يبقى الأمل قائمًا. فالتاريخ يثبت أن الشعوب التي تدرك مكامن الخطر قادرة على استعادة وعيها. المعركة الحقيقية اليوم ليست عسكرية فقط، بل معركة وعي وإدراك. حين يفهم المواطن أن الخطر لا يأتي دائمًا من الخارج، بل أحيانًا من الخطاب الذي يُزرع في داخله، تبدأ أولى خطوات الخلاص.

إن إعادة بناء الدولة تبدأ بإعادة بناء الإنسان، وباستعادة معنى الانتماء، وبفهم أن الخلاف السياسي لا يعني هدم الوطن. فالدول لا تُحطَّم بالقنابل وحدها، بل حين يفقد أبناؤها الإيمان بها.

في النهاية، تفكيك الجغرافيا لا ينجح إلا عندما يُكسَر الوعي. وحين يُستعاد الوعي، تسقط كل مشاريع التفتيت، مهما بدت قوية ومحصنة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف