كتَّاب إيلاف

جيل عربي بلا آباء

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حين تتخلى السلطة والنخب عن الأبوة، ماذا يفعل الأبناء؟

لم يعد السؤال في العالم العربي لماذا يغضب الشباب، ولا لماذا يتمردون أو ينسحبون أو يسخرون من كل شيء. هذه أسئلة سطحية تريح من يطرحها أكثر مما تفسر الواقع. السؤال الحقيقي، والأكثر إزعاجًا، هو: ماذا يفعل الأبناء حين تتخلى السلطة والنخب عن دور الأبوة؟ لا أقصد الآباء البيولوجيين، بل الآباء بالمعنى الرمزي العميق؛ أولئك الذين كان يُفترض أن يمنحوا المعنى والقدوة والطمأنينة، فإذا بهم يغيبون، أو يحضرون كأعباء ثقيلة، أو يتحولون إلى سلطات تخنق بدل أن ترعى. نحن أمام جيل نشأ في فراغ الأبوة، لا يجد من يقوده بثقة، ولا من يطمئنه، ولا من يشعره أن هناك من يتحمل المسؤولية عنه وعن المستقبل.

في السياسة، لم يعرف هذا الجيل الأب الحامي، بل عرف الوصي الدائم. السلطة في معظم البلدان العربية لم تتعامل مع شعوبها كمواطنين بالغين، بل كقاصرين يحتاجون إلى إدارة لا إلى شراكة. الحاكم لا يخطئ، لا يعتذر، لا يراجع نفسه، ويبرر استمراره الدائم بالخوف: الخوف من الفوضى، من الخارج، من البدائل، بل من الناس أنفسهم. هذه ليست أبوة، بل وصاية طويلة الأمد تُبقي المجتمع في حالة طفولة سياسية مصطنعة، وتنتج إما أبناء خائفين يفضلون السلامة، أو أبناء غاضبين لا يرون في النظام إلا عائقًا. وحين يُمنع الجيل من النضج السياسي، فإنه لا يبحث عن مشروع وطني جامع، بل عن مخرج فردي: هجرة، انسحاب داخلي، أو احتجاج عابر بلا أفق.

وفي المجال الثقافي، فقد الجيل أباه الرمزي الثاني. كان المثقف يومًا صوتًا أخلاقيًا، لا يملك السلطة لكنه يملك الجرأة، ولا يخشى دفع ثمن رأيه. اليوم، بات كثير من المثقفين أسرى الحسابات الدقيقة، يوازنون بين ما يمكن قوله وما يجب كتمانه، بين رضا السلطة وتقلبات الجمهور، فينتهون إلى خطاب آمن لا يزعج أحدًا ولا يهدي أحدًا. المثقف الذي لا يخاطر لا يستطيع أن يكون مرجعًا، والمثقف الذي يتكيف أكثر مما يواجه يتحول إلى شاهد محايد على زمن مختل. وهكذا، تُرك الشباب ليتعلموا من المؤثرين لا من المفكرين، ومن الخوارزميات لا من الكتب، ومن الصدمة السريعة لا من المعنى المتراكم، لأن من يُفترض به أن يدلّهم على الطريق اختار الصمت أو المواربة.

وفي الدين، اتسعت الفجوة أكثر. في زمن القلق واللايقين، كان يُفترض بالمؤسسة الدينية أن تكون مساحة احتواء وطمأنينة، ومكانًا للأسئلة لا للمحاكمات. لكن خطاب التخويف، والتحريم المفرط، والإجابات الجاهزة عن أسئلة معقدة، جعلت كثيرًا من الشباب يشعرون أن الدين يُستخدم كسلطة إضافية لا كملاذ روحي. الأب الديني الذي يخاطب أبناءه بلغة الذنب وحدها، ويقدّم نفسه حارسًا للنظام أكثر مما هو مرشد للضمير، يدفعهم إما إلى القطيعة الكاملة، أو إلى تشدد هش يفتقد المعنى. وفي الحالتين، تغيب الأبوة المتوازنة التي تفهم العصر دون أن تفقد الجوهر.

حتى الأسرة، التي يُفترض أن تكون آخر حصون الأبوة، لم تسلم من هذا الفراغ. الأزمات الاقتصادية، وضغط العيش، وانكسار الأحلام، جعلت كثيرًا من الآباء منهكين، غائبين نفسيًا وإن كانوا حاضرين جسديًا. البيت لم يعد مساحة حوار، بل مساحة صمت ثقيل. والأب لم يعد مرجعًا يُحتذى، بل شخصًا يعتذر عن عجزه أكثر مما يوجّه. لا لوم هنا بقدر ما هو توصيف لواقع قاسٍ، لكن النتيجة واحدة: جيل يكبر بلا مرآة يرى فيها نفسه، وبلا صوت يقول له إن الطريق، بالرغم من صعوبته، يستحق.

وحين يفقد الجيل آباءه الرمزيين، تتبدل علاقته بكل شيء. لا يثق بالخطاب الرسمي لأنه خبر زيفه، ولا يحترم النخب لأنه رأى هشاشتها، ولا يأخذ الشعارات على محمل الجد لأنها تكررت بلا فعل. يضحك حين يُطلب منه الحماس، ويسخر حين يُطالب بالصبر، ويغضب حين يُتّهم بالفساد أو الانحلال. هذا الجيل ليس فاسدًا ولا كسولًا كما يُقال، بل جيل شديد الذكاء والحساسية، يرى التناقضات بوضوح، ويشعر أنه يُطلب منه دائمًا أن يدفع ثمن أخطاء لم يرتكبها، وأن يتحمل نتائج خيارات لم يشارك في صنعها.

المفارقة أن هذا الجيل لا يطلب المعجزات. لا يطلب زعيمًا ملهمًا، ولا مثقفًا بطوليًا، ولا رجل دين خارقًا. ما يطلبه بسيط ومؤلم في آن واحد: قدوة لا تكذب، وسلطة لا تهين، وصوتًا يقول الحقيقة حتى حين تكون مكلفة. لكنه لا يجد ذلك. ولذلك يصنع لغته الخاصة، المليئة بالسخرية والتمرد والانسحاب، لأنها اللغة الوحيدة التي يشعر أنها لا تخونه في عالم اعتاد خيانة المعاني.

إعادة الأبوة ليست مسألة شعارات ولا حملات علاقات عامة. إنها تحدّ عميق يبدأ حيث تنتهي كل التبريرات. إن كان هذا الجيل قد تخلى عن مسؤوليته، فذلك لأنه رأى الأب الرمزي يتخلى أولًا. وإن كان ساخرًا، فذلك لأنه اكتشف أن البطولة كذبة متكررة، وأن الجدية في هذا السياق نوع من الانتحار البطيء. وها هم اليوم يرون كل شيء بوضوح جارح: يرون الوصي يرتعد على عرش من كرتون، والمثقف يتاجر بضميره على منصات التواصل، ورجل الدين يحمي النظام أكثر مما يحمي الروح. لا عجب أن يختاروا اللاجدوى كملاذ أخير. السؤال لم يعد متى سينضجون، بل متى سيتوقف من يُفترض فيهم الأبوة عن كونهم الأطفال الكبار الحقيقيين في هذه المأساة المفتوحة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف