لقاء إيلاف

الصائغ: لا أشبه أي شاعر من جيل الستينيات

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حوار مع صادق الصائغ (2/2)

صفاء ذياب من بغداد: له طريقة خاصة في الكتابة، بل رأيته في الحياة كذلك، يبحر عبر منافيه هو، منافيه التي ابتدعها وشكلها مثلما أراد، إذ لم يكن للمنفى الذي طال على الربع قرن له تأثير على شعره او ميوله تجاه منفاه الأبدي: العراق... ولمناسبة انتظارنا لإصدارات الصائغ الجديدة المتملثة بأعماله الشعرية عن دار المدى،، كان لإيلاف هذا الحوار معه، عن الشعر والمنفى وجيل الستينيات في العراق، انظر الجزء الأول:

* في الوقت الذي صرحت به (ان جيل الستينيين غير متجانس) قلت أيضاً بأني لا أشبه أي شاعر من هذا الجيل، ماذا تقصد بتصريحك هذا؟
- لقد جرى التعامل مع الجيل الستيني ككتلة وحدة. هذا التصنيف عددي اوجدته الاشاعة لا النقد. هو ليس كتلة، بل نوع، هو مكون من أفراد ومن تيارات فنية متقاطعة، صبت، صدفة، في زمن واحد، وكان بالإمكان لبعض من حسب عليه ان يظهرفي الخمسينيات من دون ان ينتبه احد الى وجود خطأ في الترتيب. لقد جاء اغلبهم- ويبدو هذا غريباً- من القرى او من الخارج ومن أماكن مختلفة، وتعرفوا على بعضهم من دون الاحتكاك بالخمسينيين الذين هم، على الأغلب، أفندية يسكنون المدن. وكما يبدو، فقد كان لهم- لبعضهم طبعاً- لقاحهم الخاص المتأثر بأفكار كونية وليس محلية. وقد تجمعت هذه الروافد في بغداد في هنيهة ممتازة- كان هناك فراغ سياسي، ويحدثنا التاريخ ان بعض المدهشات تحصل دفعة واحدة- وقد حصل هذا، حين كانت القرى البعيدة تتقدم نحو المركز، وهكذا احتل الصفحات الثقافية مثقفون من الناصرية وكركوك والنجف ومن كل فج عميق- تصور ان النجف المدينة المحافظة شعرت بأن لها، هي الاخرى، دوراً في المشاركة، فظهرت من مطابعها مجلة الكلمة غير الرسمية التي لعبت دوراً طليعياً في لحركة الثقافية العراقية، لكنها بعدئذ دجنت ثم اغلقتها السلطة بموافقة صاحبها الصديق حميد المطبعي، مستبدلة إياها بمجلة "شعر69" التي رأَس تحريرها فاضل العزاوي، من دون ان ينتبه، إلا بعد فوات الأوان، الى ان القصد هو القضاء عليها وعلى كل التيار الثقافي المناوئ للسطة، فبعد ان أمسك البعثيون بمقود سفينة "شعر69" تم إغراقها بكامل الطاقم. وهكذا اغلقت المجلة التي نشرت البيان الشعري ووقعه ثلاثة ليست لهم اية علاقة به، بعد صدور عددين منها.!
ان روافد الستينيين غير متجانسة. أنا مثلا اتيت سنة1967 من براغ ولم اكن على علم بالذي يدور في بغداد، لكنني كنت متأثراً بالتيارات الطليعية التي انضجت ربيع براغ التشيكوسلوفاكي. في السينما كنت متأثراً بمدهشات ميلوش فورمان ومنزل وخيتيلوفا. اما في الادب فكان اعجابي ممتداً الى ميلان كونديرا وميروسلاف هولوب وفلاديمير هولان والموجة الجديدة في فرنسا وشعراء البيتنغز في امريكا، بلإضافة الى شعراء هامشيين آخرين كفلاديميرا جيربكوفا التي كانت جارتي وتتعاطف مع العراقيين وتندهش من "عرقجين" الجواهري والتقت به، لتدرس سايكولوجية شاعر عربي يعيش في مغترب لا يعرف لغته، كما قالت لى!! في ذلك الحين كانت قصيدة الامريكي الن غنزبرغ الذي زار براغ والقى قصيدته الشهير "عويل"، في مسرح "فيولا" وكنت حاضراً تلك الامسية، قد هزتني هزاً وحفرت في روحي، مغيرة اتجاهي الادبي بشكل قاطع... لذا، عندما وصلت بغداد من براغ والتقيت بجيل يسمي نفسه جيل الستينيات، ادركت اننا ننتمي إلى اهداف متقاربة بشكل أو بآخر، من دون ان تفارق ذهني الاختلافات الاساسية، وفي المقاهي التي كانت تأوي المتمردين والمهمشين والصعاليك من كل الاطراف- مقهاي المفضلة هي مقهى المعقدين التي يتصدرها أهم مثقف شفاهي في ذلك الوقت، هو المرحوم منعم حسن- اقول في تلك المقاهي ومكان عملي في مجلة ألف باء التي كانت تجمع كل المتمردين من كل الاطراف تعرفت على مجموعة صغيرة على شبه بي، مجموعة تبحث عن دادا جديد وسريالية جديدة ووبوب آرت سردي وايقاع مختلف وتجريد ذهني وكل ما يحول هذ العناصر وغيرها، بضربة مكثفة واحدة، الى نسق ابداعي جديد، يخرج القصيدة من سجنها الخمسيني الى افق جديد. وهؤلاء كأفراد داخل كتلة طليعية واسعة، ابتنوا لأنفسهم اسلوباً فنياٌ يحمل المواصفات التي ذكرتها سابقاً، أي انهم اشتركوا في مجرى التيار، لكنهم لم يصنعوا مساره. يجب ان نعترف ان النصوص التي تميزت بأسلوبيتها الفنية لم تكن كثيرة، وان من السهل اظهار التشوش وربما بعض المضحكات في بعض هذه المحاولات، لكن أفضلها حفر في العمق، وأضحت حتى الآن وثيقة مؤسِّسَة واطاراً واساساً لكل الإضافات التي جاءت بها الاجيال اللاحقة، وهي للآن تحرك المخيلة الذكية وقادرة على اعطاء رعشة لذيذة، كلما استعيدت قراءة النصوص نفسها وجرت مراجعات نقدية جادة، بعيداً عن اجواء الاشاعة والتصور الذي احدثته في حينها الترويجات الصحفية والمقاصد السياسية.
اما انا، متجانسأ ام لا فيتوضح بما اسلفت سابقاً. الستينيون كانوا، بالنسبة لي كومونة صغيرة تمثل وجه الشعر الذي انقلب، عن طريق السمع واللمس والقراءة المستبطنة الى عقله الباطن، حيث من الصمت ينبجس الكلام وبالعكس، وكنت متجانساً، اجتماعبا، مع الموهوبين ممن لا مأوى له في الخارطة المعلنة، وانحاز، فنياً، الى السابحين في فضاءات مليئة بجيشان الذهن، بصرف النظر عن شهرتهم، لكن، إذا وُضعنا جميعاً في قلب العمل الادبي، جنباُ الى جنب احسست بالفروقات واشتراطات الموهبة العالية، مفضلاً الاحتفاظ بخصوصيتي، أكنت داخل السرب او خارجه.

* من من جيل السيتينات اقرب الى قلبك؟
- الاكثر قرباً وادهاشاً هم جان دمو وسركون بولص ومنعم حسن وعبد القادر الجنابي، وكل واحد لاسباب مختلفة عن الآخر.

* كيف؟
- جان دمو ظاهرة تفلت من التصنيف، قد لا يكون شاعراً مجيداٍ، لكنه أيضاً مخلوق سليقي آلى على نفسه الا يتقبل الحياة الا بواسطة الشعر. إنه شاعرالسلوك الانساني الاصيل الذي لا توجد في داخله حبة انانية. لا احد مثله مَثَّل سريالية الواقع العراقي كما مثلها هو، ولا احد مثله امتلك الشجاعة لمواجهة الحياة بالشعر وحده، حتى ليمكن ان يكون هو النزاهة الوحيدة التي لا تأكل ولا تعيش الا بالشعر. انه تكوين أثيري بريء يجعلك، أحيانا من فرط سرياليته، تتمرغ وتذوب في المضحك والمبكي معاً. هو الوحيد الذي تقبل منه ان يقيم الساسة بالشعر، فيقول لك بطريقته: هذا شنو لينين، طلع ميعرف يكتب!! أو: بابا باكونين عظيم، اصلا ماكو واحد مثله. دمَّرْ ماركس تدمير كامل!! واختصاراً فإن جان، كان اداة سعادة لا يستغنى عنها والاجيال اللاحقة، بالنسبة لجيل الستينات، ولا غرابة في ان يحظى بهذا الكم الهائل من الكتابات بعد موته وان يعده البعض قديساً كجان جينيه. ومما يؤسف له ان مجموعته اليتيمة "اسمال" شوهت، فقد اعترف لي صديق، بحسن نية- يا لها من حسن نية- انه اضاف من قصائده الى قصائد جان القليلة لجعلها تكفي لملء ديوان.
هل تطلب مني ان احكي عن سركون؟ سركون لا يحتاج الى تعريف او وصف. إنه اهم شاعر عراقي كتب قصيدة النثر. لقد طالبت بأن يمنح جائزة العويس، لكنه، كما يبدو منكر من قبل البعض وبعيد عن الذهنية العربية المحفظة.
اما عبدالقادر الجنابي فقد كان صغيراً وخجولاً يوم التقيته اول مرة، وكان مهتماً بالترجمة وتعليم الانكليزية نفسه بنفسه، ويختزن طاقة روحية هائلة، كما توضح لاحقاً، لمجلته الرائعة "فراديس" ولتحريك شعر الستينيات في المنفى، بشكل خاص. وقد لفتتني جرأته في سرقة الكتب الانكليزية من مكتبة مكنزي واورزدي باك وتوزيعها على اصدقائه، كأي روبن هود حقيقي، وكانت مثل هذه المغامرات البريئة تضفي ارتعاشة لذيذة على الشعر والسريالية وعلى اجواء ذلك الزمن، وفعل مثل هذا يمتلك غنائية اجتماعية فاخرة ويعد شهادة أخلاق بالشراكة والعيش المشترك، فالثقافة للجميع والكتب لمن يقرأها، وهو، على صغر سنه، كان يجلجل بالسريالية وتجلجل هي به، ويضمر لأعدائها لغة هجومية تمنعه من اكتساب اي تعاطف، لا في مجتمع محافظ، كالمجتمع البغدادي فحسب، بل وفي الخارج ايضاً.
وهناك بالطبع كثيرون احب كتاباتهم كفاضل لعزاوي ومؤيد الراوي ووليد جمعة وفاضل عباس هادي وجليل حيدر ويوسف الصائغ وعمران القيسي وعالية ممدوح وغيرهم .

* حاولت منذ مجموعتك الأولى وحتى آخر قصيدة نشرتها على موقع إيلاف (هنا بغداد) الاهتمام بالحياة اليومية، ومن ذلك أنك قمت بترتيب أيام الأسبوع إلى أناشيد شعرية، كما فعلت في قصيدتك "سيناريو الروح"، ماذا أضافت لك اللغة اليومية؟ وإلام كنت تريد الوصول في استخدام هذه اللغة؟
- لا أزعم بأني كنت أعي هذه المسألة، ولكن الآن أرى أنها جزء من حواري مع السينما والمسرح، متخذاً صيغة تشبه سيناريو العصر، فالتفكيك يبدأ بالنظر الى عمق الزمن عن طري حفريات تدخل إلى الذهن، محركة مستوياته الأعمق... الأيام في القصيدة التي ذكرت تتسوس ولا يبقى منها غير الموت والحرب:
هل هذي جثتك الملقاة أمامي؟
هل تخرج من فمها نصف المفتوح الحدأة؟
هل تخرج من فها الرايات المكسورة؟
هل يخرج من فمها الجيش القادم؟
اللغة هنا "تستشهد على حب دام مسحوق"، كما وصفها نجيب المانع في مقدمة الديوان. لغة حسية تحطم هدوء الجملة الخمسينية تحت سنديانة الهذيان وتجمع ما يخزنه العقل الباطن من كادرات متباعدة، في كيميائيتها تكون نسقها الذي تريد. القصيدة التي ذكرتها كانت عن أيام اسبوع مريض، اجزاؤه منفصلة عن بعضها، ومن هذه التفاصيل والضربات الصغيرة يتكون المستوى الأخير للتجريد وتتمظهرالبقعة اللغوية النقية التي تقع ما وراء الكتابة. وتشخيصك هذا هو من المواصفات الأسلوبية التي تبين واضحة في قصيدتي، انت ربطت بشكل جيد. الماضي والحاضر يشتركان في الوجود المسرحي داخل القصيدة.

* بين بغداد ولندن، هناك العديد من المحطات التي استقر فيها صادق الصائغ قليلاً، ومن بينها بيروت، كيف استطعت توظيف هذه التنقلات في حياتك اليومية، المتمثلة بالشعر بالدرجة الأولى؟ وما المحطة التي لها الأثر الأكبر في حياتك؟
- أرى أن التكوين الأول اصل لكل طيران، وقد وجدت القراءة هي الوسيط الذي ينقصني للوصول الى اي مكان في العالم. القراءة هي الرحيل الاول والانفصال الاول، والاقلاع الذهني الموصل الى فجر الاشياء،اما الرحيل الجسدي فهو إضافات تقل فيها الدهشة. وفي الحقيقة أنا لم اترك العراق الا قسراً، ولقد قطعت مسافات بعيدة في هذا العالم، مساقاً بعسف الانظمة، مرتضياً احتمالات العيش حراً أو الموت على ارصفة المنافي.
اما عن اجمل مكان وزمن عشتهما عشقا فكانا في براغ، ففيها انطلقت الى وجود مفتون على كل الصعد، وفيها انتهيت الى اعتناق الشعر كدين، وفي اجوائها تعجلت الحب ونداءات الصداقات الثقافية ولبيت متجانسا افكار ربيع براغ المطالبة بشعار "اشتراكية انسانية"، وعبرها التقيت من الكتاب والشعراء والفنانين بمن لم اكن احلم بلقائه وحلمت بتبديل العالم وتغيير الحياة، وقد ذكرت اسماء بعضهم في ما سلف، وهناك تزوجت وانجبت. وحلمت بتغيير الحياة وتبديل العالم.
لكن في نفس الوقت تعرفت على الاسباب التي فككت، فيما بعد، النظام البيروقراطي من الداخل، وتعرفت على الاوجه القبيحة الاخرى للنظام الكلاني الشاملي، وكيف تفقد الكلمات معانيها وينزع عنها كل مضمون انساني ويصبح الفساد والرشوة والوشاية وحتى العمل مع المخابرات اداءً يومياً وشكلاً ضرورياً للعلاقات الاجتماعية الناجحة. لقد شكل كل ذلك مقدمة لانهيار تلك الانظمة، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي. وما زال الأمل قائماً في ان تجد البشرية طريقاً آخر، تكون فيه العولمة "إنسانية" وليست متوحشة، حسب توصيف البعض.
بيروت التي لجأت اليها وجربت فيها عيش الانسان المطرود كانت هى الاخرى حضناً أليفاً يقدم مأوى لكل عابر سبيل، كانت تسمح بنوع من الارتباط الوجودي لكل مثقف هارب من عنف الدكتاتوريات في بلادهم ان يجد عوناً ودعماً. هناك اسسنا رابطة تضم قرابة الـ500 مثقفاٌ وفناناً وكاتباٌ عراقياً، بإسم رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين، واصدرنا، كمجموعة، مجلة بإسم "البديل"، سعدي يوسف كان رئيساٍ لتحريرها وانا سكرتير التحرير، وعلى صفحاتها عكسنا الوجه الديمقراطي للثقافة العراقية، وطبعا تعرض بعضنا للملاحقة والاغتيال، وانا نفسى تعرضت لمحاولتي اغتيال على يد النظام. بيروت كانت تذكر بما كتبه عن باكونين عن الفوضوية وبما قرأته عن الحرب الاسبانية. حياتها كانت تتوهج امام العين باشتعالات عاطفية عنيفة واصطدامات مدمرة، خالقة جمالاتها الى جانب مآسيها الخاصة، ونحن العراقيين عشنا تلك الأيام بكامل افراحها واتراحها ومآسيها، بعضنا دخل الخنادق وشكل احزاباً ومارس المسرح والغناء واصدر بيانات وشغل مساحة من الحياة بحيوية لا تنضب، حتى دورات عسكرية دخلنا، بحثاً عن مغامرة او شعر، قد يكمن في المعسكرات. اما بقية القصة فمعروفة، بدأ الاجتياح الاسرائيلي وانطفأ ذلك الحلم الجميل.

* زعم فاضل العزاوي، بأنه ممثل جيل الستينيات في العراق في كتابه (الروح الحية)، ومن ثم رد عليه سامي مهدي بكتاب آخر لتكذيب ما جاء على لسان العزاوي، وصرحت أنت حسب ما كتب الشاعر اللبناني عباس بيضون في مقالة عن مهرجان الربيع الذي اقامته مؤسسة المدى في اربيل بأنك وسركون بولص وجان دمو من يمثل جيل الستينيات في العراق، كيف توضع هذا الشيء؟
- هذا حكم طائش، لو كنت انا قائله، ولا أسمح لنفسي بمثل هذه المضاربات، واعتقد ان الصديق العزيز عباس بيضون تراكمت عليه كثافة الاحداث في مهرجان "المدى" فهربت بعض الاسماك من شباكه. وبالنسبة لى، فإن مديح الذات يشي بالتسلط والانانية.. وقبل قليل بينت رأيي بجان كشخص وشاعر، ولم اقل،على شدة حبي له، انه يمثل الستينيات، فكل يمثل نفسه والفرق في درجة النضوج الفني، ومثل هذا التقييم يصدر عن النقاد.
في المقال نفسه- مقال بيضون- ردد ان مؤيد الراوي، حسبما سمع، كان بريتون العراق: انا لم اسمع في العراق من ردد قولا كهذا، وواضح ان عباس اراد ان يضفي على كتابته بعض التشويق،عن طريق اضافة مسموعات طريفة. لقد قلت أن الفترة الستينية تحتاج إلى مراجعة نقدية أكاديمية، ولا اعتقد أن ثمة مراجعة من هذا النوع قد جرت حتى الآن، ولا اعرف كيف اختطف عباس بيضون من حديث عابر جملة لا يمكن أن تنسب لي أنا بالذات، لأنني أحس بأن المسألة بحاجة إلى موضوعية لا تتناسب مع هذا القول...

* هل يشكل الشعر لك امتيازاً؟ خسارة؟ تعويضاعن حياة، كما يقول بعض الشعراء؟
- لا شيء يشكل تعويضا عن الحياة غير الحياة نفسها، ولا شيء يعوض عن وعي الانسان بأزلية الحياة مقابل موته وفنائه، لكنه يشكل بعض تعويض عن الفشل الانساني، انه مُقاومة لعصر تكبر فيها التكنولوجيا ويتمزق فيه قلب الانسان..

* كتبت في المسرح، و"عرّقت" مسرحية "البيك والسائق" التي اخرجها ابراهيم جلال وحازت الجائزة الاولى في مهرجان دمشق المسرحي عام 1973، كيف وجدت نفسك في الانتقال من الشعر إلى المسرح؟ ولماذا توقفث عن الكتابة للمسرح؟
- لأني، منذ البداية، لم أكن أشعر بوجود حدود بين الاجناس الأدبية، وأتحرك تلقائيأ ودون حساب وضبط ومقاصد، ولأن القصيدة التي اكتبها مركبة ومطعمة بعناصر مكونة للفعل المسرحي، ولأن كتبت في النقد السينمائي والمسرحي قرابة العشر سنين، فلم تكن هناك غربة بين الشعر والمسرح والسينما والتشكيل، وفي أول عمل أنتجته للمسرح العراقي وهو (البيك والسايق) التي عربتها عن بريشت، وكان وراءها ابراهيم جلال.

* نستطيع أن نقول بأنك أخذت الفكرة الأساسية من بريشت ووظفتها لصالح المتلقي العراقي؟
- نعم. الهيكلية بقيت بريشتية بالدرجة الأساس، والتفاصيل الصغيرة أعتقد أنها لمساتي، وأولها الرغبة في تعشيق النص الغريب بلقاح عراقي له خصوصية محلية، وعلى عكس اللهجة العراقية التي تيبست عند حدود الاستعمال اليومي السائد، أدركت أني أستطيع ان اخرج باللهجة الشعبية إلى مستويات ما وراء اللغة، وللأسف، لم تكن الحرية متوفرة ولا كنت ممن يحبهم النظام، ولا كان ممكنا الاستمرار في الخارج، لأن المسرح يحتاج الى بنية تحتية، لذا اغلق الستار على هذا الجانب.

* مارست الخط العربي، وأقمت العديد من المعارض، هل دخلت إلى الفن التشكيلي من خلال الخط، أم كانت اللوحة تراودك عن نفسها فزوجتها بموهبتك الفنية الأولى التي تمثلت برسم الحرف العربية؟
- أعتقد ان فكرة دخولي الفن التشكيلي كانت فكرة ضياء العزاوي وبدفع منه، كان يلومني لعدم إعلان نفسي كخطاط، مع إني كنت أول خطاط في الصحافة العراقية، أدخل الحراك المتمرد الى الخط، بعد الكلاسيكي هاشم.. وفي مرسمه في لندن أعطانى الالوان، وقال: تفضل.. ارسم!! وقد شجعني ذلك الى ان أقيم أول معارضي التشكيلية في لندن وبلدان اخرى.

* أنا التراب، حجر يبكي، قصائد الحب، قصائد الوحدة، إضافة الى الدواوين السابقة، وهي"نشيد الكركدن" و"طن للروح" و"حيث هو القلب" ثمانية مجموعات ستصدر عن دار المدى تحت عنوان "الأعمال الشعرية"، لماذا هذا الجمع بين هذه المجموعات؟ وهل تعبر- كما نرى من عنواناتها- مراحل في حياة صادق الصائغ؟
- نعم، تعبّر عن مراحل في حياتي، وهي حلم كل شاعر، وكما تعلم فإن لكل خصائصها. وفي الدواوين الخمسة الأخيرة كتبت كلها في الخارج، وهي تحمل ثلثي عمري، وتقييمي الأخير كشاعر لن يأخذ صيغته الحقيقية إلا بعد ظهور هذه الأعمال، واحسب اني ولدت في كل مرحلة، والشاعر الحقيقي هو الذي يوبد عدة مرات، لا مرة واحدة. وسوف يظهر "قصائد الحب" مستقلاٍ... "قصائد الوحدة"،لأني اعتقد ان قصيدة الحب التي كتبتها فيه تمتلك مضموناً وأسلوباٍ آخر، وكلاهما يختلفان عن تلك التي عرفناها عند عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني مثلاً.

* كيف؟
- الحب عاطفة خارقة لا يطالها الشعر ولا النثر ولا الموسيقى. أنه نوع من الطموح المطلق. والسعادة فيه- في الحب- تتحقق، كما يبدو لي، في التنازل عن كل طموح. وفي ديوان "قصائد الحب" المسألة هكذا: حوار انساني صعب يمتاز بطابع الالم والحداد والكآبة:
ليلى
عيناك ماكنة مرعبة
تسحق الزمن
وتسخر من عماي
الحب هنا متعسف كالحباة ، اعني انه، على الأغلب، يتضمن المتناقضين: الالم ضاحكا والضحك بألم!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف