تجربة فريدة لإدارة مدنية في إدلب

تحررت إدلب، وابتعد عنها حكم النظام، فتوافقت الفصائل المنضوية تحت لواء جيش الفتح بإقامة إدارة مدنية، تدير شؤون الناس في المناطق المحررة، بإدارات مستقلة في القضاء وكل ما يتصل بتسيير أمور الناس.

علي الإبراهيم من إدلب: خفف السائق سرعته وأخذ يلتفت يمنة ويسرة. كانت الشوارع خالية إلا من المسلحين.

&وعند المساء، حالفنا الحظ بلقاء أحد الاهالي الذين ما زالوا في المدينة، لكنه رفض محادثتنا وطلب منا التوجه خارج الحي بأسرع وقت.

كان ذلك في اليوم الثاني لتحرير مدينة ادلب، حيث الدلائل تشير إلى أنك في منطقة تحت سيطرة المعارضة السورية: أعلام الثورة والفصائل المعارضة المسلحة تنتشر في كل مكان، سيارات لا تحمل أي رقم، صهاريج نقل النفط والمصافي البدائية على جوانب الطرق، انفلات أمني، وغياب شبه كامل للخدمات الاساسية.

&

نواة إدارة مدنية

لعقود عدة، ظلت المجالس المحلية في سوريا مجرد "ديكور" سياسي، إذ كان "البعث" يفرض وصايته عليها. اليوم وبعد خمسة اشهر من تحرير إدلب، توجهت "ايلاف" إلى المدينة للوقوف على وضعها في ظل الإدارة المدنية، التي شكلها مجلس شورى جيش الفتح تحت مسمى "اللجنة المدنية" واستقطبت الكوادر العاملة سابقًا في المحافظة وبعض الافراد ذوي الخبرة من الذين تمت تزكيتهم، لمتابعة عمل مؤسسات المدينة، بحسب أحد اعضاء مجلس شورى جيش الفتح.

&

المشهد تغير قليلًا. فتسيير حياة المواطنين اليومية افضل في ظل غياب الدولة، حيث اصبحت المدينة المحررة تشهد حركة شبه طبيعية بعد عودة اكثر من 70 في المئة من اهاليها إلى بيوتهم، مع المراحل الاخيرة من توصيل شبكة مياه الشرب وضخها للمدينة، اضافة لتشغيل شبكة الهواتف الارضية وشبكة الانترنت. وكانت ورش الكهرباء تضع مولدات تعمل على مادة الديزل لتزويد المنازل بالتيار الكهربائي، ولو مقننًا.

&

قال احد اعضاء اللجنة المدنية لـ "إيلاف": "شهدت المدينة انفلاتًا امنيًا وغيابًا للخدمة عقب تحريرها، واليوم وبعد تشكيل الإدارة المدنية تغير الحال وبدأنا العمل لخدمة الأهالي، والإدارة المحلية هذه ليست على صلة بالحكومة الموقتة، بل تتبع شورى جيش الفتح".

ولاقى تفعيل دور المؤسسات وتسليم المدينة لإدارة مدنية ارتياحًا شعبيًا، بحسب مصادر محلية.

صراع على القضاء

بعد تعهد المعارضة السورية بإدارة المناطق المحررة، بدأت تنتشر المحاكم "الشرعية" على نحو غير مسبوق، إذ شكّلت فصائل المعارضة المسلحة ومجموعات إسلامية مقاتلة هيئات شرعية في المناطق المحررة لادارة المناطق، حيث تتولى إدارة شؤون الناس وفق مبدأ العدالة التصالحية، وتقوم بحل النزاعات بين الناس وإصدار الأحكام ضدهم في بعض الاحيان. إلا أن هذه المحاكم لم تتفق على هيئة واحدة مستقلة تفصل في شؤون الناس، وتكون لها قوة لتنفيذ احكامها وتطبيقها على الجميع.

&

من بين المجموعات التي شكلت هذه الهيئات في مدينة ادلب "الهيئة الإسلامية" لإدارة المناطق المحررة، ولها مكتب قضائي تتبع له محاكم عدة، وتنبثق عنه محكمة استئناف أيضًا، اضافة لدور القضاء التي تتبع لبعض الفصائل، والمحكمة التابعة لجيش الفتح، وهي خاصة بالاسرى والغنائم.

عبد المنعم زين الدين، الذي عمل مفتشًا قضائيًا في مجلس القضاء الشرعي سابقًا والناطق باسم مبادرة "واعتصموا" لتوحيد الفصائل، يعزو لـ"إيلاف" عدم القدرة علي الفصل بالنزاعات وتولي ادارة المناطق المحررة عبر جسم قضائي موحد ومستقل إلى أن المحاكم الحالية لا تعيش حالتها المثالية، "ففي غياب الدولة لا هيبة كاملة لأي سلطة بديلة، وبالتالي فإن وجود الفصائل المتنافسة يجعل من محاسبة بعض المتسترين بالثورة أمرًا صعبًا في بعض الأحيان، كما أن انعدام الأدلة الملموسة يسبب الإفلات من العقوبة".

&

يتابع زين الدين: "حاول أهل العلم أن يجمعوا الفصائل على محكمة واحدة فلم ينجحوا لأسباب عدة، أهمها الخلافات بين الفصائل وتنوع أيديولوجيتها".

وختم: "لا شك في أن القضاء في ظل الثورة لا يعيش حالته المثالية لتأثره بتوجهات الفصائل، وعدم وجود الحصانة القضائية، وسياسة المحاصصة الفصائلية في القضاء، لكنه ليس سيئًا، فهناك محاكم تتمتع بدرجة لا بأس بها من الاستقلالية، كمحكمة جبل الزاوية وغيرها".

صحة حرة

يصل عشرات المصابين المدنيين يوميًا إلى المشافي الميدانية المنتشرة في ادلب وريفها، بسبب القصف النظامي المكثف. في المدينة ثلاث مستشفيات عاملة ومنظومة اسعاف، إضافة الى تشغيل مشفى ابن سينا بحسب مدير مشفى صحة ادلب الحرة الدكتور منذر خليل.

&

قال خليل لـ"إيلاف": "نحاول التنسيق مع الإدارة المدنية لاستلام مديرية الصحة والملف الطبي كاملًا، فكل المؤسسات الطبية في المحافظة متفقة على تولي المديرية مهمة الاشراف عليها، وقد استلمنا جزءًا من الملف وقمنا بتجهيز عدد من مشافي المدينة، لكننا لم نتسلم مبنى المديرية السابق والمشافي التابعة، ونحاول التوصل لاتفاق نهائي مع الإدارة المدنية"، علمًا أنه يتبع للمديرية 37 مستشفى و27 مركزًا صحيًا.

اضاف: "رغم الصعوبات، تقوم الكوادر الطبية بمهامها على أكمل وجه، فنحو 10 آلاف مصاب يراجعون مراكز المديرية في المحافظة، معظمهم مدنيّون، وأجري نحو 6 آلاف عملية جراحية في المستشفيات، بما فيها الباردة والاسعافية".

وقدر عدد الأطفال المستفيدين من حملات التلقيح بنحو 300 ألف طفل، في حملات خاصة بمدينة ادلب بعد تحريرها، موضحًا أن المديرية تعمل على إعادة بناء البرامج الصحية المتكاملة كبرامج الرصد الوبائي والتحسين الشامل، وتطوير المراكز التخصصية للارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة.

قبعات بيض

يصدح جهاز اللاسلكي: "مروحي في الاجواء، الرجاء اخذ الحيطة والحذر". ما أن تنتهي تلك الكلمات حتى يتجه ليث العبدلله (30 عامًا) من بلدة سراقب مع رفاقه بقبعاتهم البيض إلى المنطقة المستهدفة، يحملون أدوات بسيطة، كالمنشار الحديدي اليدوي وآلات الحفر اليدوية والكهربائية البسيطة، ومعهم سيارة اسعاف ومعدات ثقيلة لازالة الانقاض، في محاولة لاخراج الضحايا والعالقين تحت الركام.

&

استطاعت مجموعة من الشباب، وبمبادرة فردية، انشاء فريق للدفاع المدني في ادلب وريفها، رغم ضعف الإمكانات المتوفرة إلا أن الخدمات الإنسانية التي يقدمونها في المنطقة تعتبر مذهلة، في ظل قصف المدنيين المستمر بالصواريخ الفراغية والبراميل المتفجرة.

يعمل أكثر من عشرين شابًا منذ بداية الثورة في إنقاذ المدنيين والتخفيف من آثار الكوارث التي تخلفها قنابل طيران النظام، التي تقتل العشرات يوميًا.

يرفض ليث الاندماج تحت أي فصيل أو جسم سياسي، ويقول لـ"إيلاف" بعد عودته من مهمة انقاذ دامت ساعات: "ابتعدنا عن أي تشكيل او هيئة ادارية خاصة، فنحن جميعًا ولدنا بالداخل ونحن نمثل انفسنا وشكلنا ادارة مستقلة عن أي تشكيل، لا نرتبط بأحد، واستقلالنا اعطانا قوة وقدرة على العمل في كل الظروف وفي كل مكان، وللأسف كلنا نعلم أن الائتلاف وما شابه من تشكيلات ليست ذات ثقة ومصداقية في الداخل، وما يهمنا هو أهلنا".

يروي ليث أن اول غارة جوية على سراقب بالصواريخ الفراغية استهدفت بيتهم، فقتل اخوه، ما ولد لديه دافعا قويا للعمل على انقاذ الناس، وتشكيل فريق مهمته خدمة الناس. قال: "كان من اصعب المواقف في حياتي وانا ابحث بين انقاض بيتنا عن اخي، ولا انسى ذلك المشهد لطفلة في العاشرة من عمرها عالقة تحت سقف بيت مائل، حفرنا بالاصابع والايادي حتى استطعنا اخراجها، فلا يمكن لاي معدات أن تعمل ونحن تحت سقف يرتفع عنا 50 سم".

ويواجه هذا الفريق صعوبات عدة، منها انقطاع الدعم والرواتب كل فترة، إضافة إلى عدم توفر المصاريف التشغيلية، وعدم القدرة على التواصل مع فرق الدفاع المدني الأخرى بغياب منظومة اتصال خاصة.

تجربة باب الهوى

لم تكن تجربة ادلب في الادارة الاولى، إذ استبدلت إدارة معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا في وقت سابق وجهها العسكري بآخر مدني، عبر تسليم المعبر لمدنيين لهم الخبرة في إدارته، معلنة افتتاح "قسم الهجرة والجوازات" لتنظيم حركة الدخول والخروج من سوريا وإليها.

قال أبو الطيب، المسؤول الإعلامي في المعبر، لـ"إيلاف": "بعد شكاوى كثيرة من قِبل المسافرين على العناصر المسلحة في المعبر، قررت حركة أحرار الشام الإسلامية تسليمه لمدنيين لهم خبرة في إدارته، سواء كانوا يعملون في هذا المجال سابقًا وانشقوا عن النظام، أو من طلاب الجامعات، وأحرار الشام نظّمت العملية وحدها، ولا دور للحكومة السورية الموقتة في ذلك".

وتبدو حركة أحرار الشام الإسلامية القوة المرشحة لتلعب هذا الدور، كفصيل موثوق ومدعوم من قبل جميع الحلفاء لادارة المناطق، إذ تشكل الحركة القوة الأكبر في الشمال السوري، وتعتبر المكون الأساسي ضمن جيش الفتح، الجيش الاكبر في الشمال السوري.

وتعمل الحركة، منذ توقيعها ميثاق الشرف الثوري، على التحول إلى فصيل وطني. وقال المتحدث العام باسم حركة احرار الشام الاسلامية أحمد قره علي لـ"إيلاف": "قمنا بتشكيل إدارة مدنية في ادلب ودعونا كل الكفاءات التي كانت قائمة على رأس عملها سابقًا للالتحاق بهذه الإدارات، لكن واجهتنا مصاعب الوضع الأمني و قصف النظام، وبعد تحرير عدة مناطق قمنا بتشكيل الهيئة الإسلامية، وبعد اتساع المنطقة الجغرافية المحررة وتحرير ادلب فصلنا مؤسسة القضاء وفعلنا دور محكمة ادلب، وشكلنا إدارة مدنية لإدارة المناطق المحررة، ونسعي للعمل بشكل مؤسساتي على كل الاصعدة".

في المقابل، تبدو الحركة مستجيبة لكل المتطلبات التركية والغربية في موضوع تغيير سلوكها نحو الاعتدال، واستبدال قياداتها المتشددة بقيادات أكثر اعتدالًا، لتكون المرشح الأقوى لتولي ادارة البلاد بعد سقوط النظام. إلا أن قره علي نفى ذلك.
&