استذكار لحديث معه قبيل أزمة الصواريخ الكوبية
على حافة حرب نووية: مقابلة مع فيدل كاسترو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في عام 1961، تحدث الزعيم الثوري الكوبي فيدل كاسترو إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن إصلاحه الزراعي - الذي تم إقراره عام 1959 - وكيف أنه يريد السلام. لكنها كانت بداية الوضع المتصاعد بين الولايات المتحدة وكوبا، والذي من شأنه أن يدفع العالم إلى حافة الكارثة.
في 26 حزيران (يونيو) 1961، في مزرعة خارج هافانا، جلس "روبن داي" من برنامج بانوراما بي بي سي مع فيدل كاسترو، البالغ من العمر 34 عاما، للحديث عن التغييرات التي حدثت في الجزيرة منذ أن قاد الثورة للإطاحة بالديكتاتور الكوبي، فولجنسيو باتيستا.
كان كاسترو شخصا لطيفا، وإن كان مراوغا في بعض الأحيان، حيث كان حريصا على إقناع صحفي بي بي سي بكيفية تحسين سياسة الإصلاح الزراعي - التي وقع عليها منذ ما يزيد قليلا على عامين - لحياة الكوبيين، وكذلك رغبته في تحقيق علاقة سلمية مع الولايات المتحدة.
لم يشر سوى القليل مما ورد في المقابلة - التي بدت لطيفة - إلى مدى خطورة الوضع بين كوبا والولايات المتحدة.
وكان "داي" واحدا من بين عدد من المراسلين المدعوين، وكان الزعيم الثوري في حالة مزاجية متفائلة أثناء قيامهم بجولة عبر قرى كوبا.
وقال داي: "إنه خطيب بالفطرة ولديه تدفق لا نهاية له من الكلمات"، معترفا بأن كاسترو قد خلق انطباعا جيدا عندما أخبر المجموعة بحماس عن رؤيته للبلاد.
وقال داي: "لا ينبغي اعتباره مجنونا أو مهرجا. لقد أثار إعجاب حتى مراسل نيويورك تايمز بوصفه ذكيا ومثقفا وماهرا. إنه محط إعجاب أينما ذهب".
أراد كاسترو أن يظهر لهم الدعم الذي يحظى به بين الشعب الكوبي، وقد اصطحبهم في وقت سابق إلى مزرعة حكومية جديدة، حيث احتشد عمال المزرعة للتحدث إليه، وشجع الصحفيين على استجوابهم.
بالنسبة للزعيم الكوبي، كان تمكين فقراء الجزيرة وتحسين ظروفهم المعيشية هدفا رئيسيا للثورة. وقد تجسد هذا الطموح في قانون الإصلاح الزراعي الذي وقعه كاسترو ليصبح قانونا في أيار (مايو) عام 1959، ما أدى إلى إلغاء أنماط الاستغلال التي استمرت قرونا في كوبا.
قبل الثورة، كانت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الكوبية تقع في أيدي عدد قليل من العائلات الثرية، والشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، مثل كوكا كولا ويونايتد فروت.
عمل معظم الكوبيين الريفيين كعمال لديهم، غالبا في ظل ظروف قمعية، أو ناضلوا من أجل البقاء كمزارعين على قطع أراضٍ ضئيلة يمتلكونها، معرضين لعمليات الإخلاء غير القانوني.
"لماذا تفكر بالحرب؟ أعتقد أن أفضل شيء للسلام هو التفكير بالسلام. أنا مع السلام" - فيدل كاسترو
وقد أدى هذا التفاوت الصارخ إلى ترسيخ الفقر في الجزيرة، ووفر أرضا خصبة لترسيخ المثل العليا التي كانت وراء ثورة كاسترو. يحظر قانون الإصلاح الزراعي ملكية الأجانب للأراضي وتمت مصادرة الممتلكات التي تزيد مساحتها عن 1000 فدان.
وقد أعيد توزيع هذه الأراضي، وتحول بعضها إلى مجتمعات ريفية تديرها الدولة، ومنح بعضها الآخر لنحو 200 ألف مزارع ريفي حصلوا على سندات ملكية الأراضي. ويبدو أن كاسترو قد أثار غضب والدته بمصادرة بعض ممتلكات عائلته في "فينكا لاس ماناكاس".
أراد كاسترو أن يوضح خلال الرحلة الصحفية كيف أن هذا القانون، الذي لا يزال حتى اليوم أساس النموذج الزراعي في كوبا، كان يغير حياة الكوبيين العاديين نحو الأفضل.
قال كاسترو ذلك للصحفي "داي": "لقد سافرت عبر كوبا، ماذا رأيت أثناء سفرك؟ الجميع يعملون، الجميع سعداء. هل رأيت صعوبات اقتصادية؟"
ولكن تحت المظهر اللطيف الذي اتسمت به الجولة، لم يكن الوضع أكثر توتراً من هذا الحد.
وكان القانون قد وضع حكومة كاسترو في خلاف مع واشنطن، وتم تنظيم الرحلة الصحفية كجزء من حملة لمحاولة عكس الوضع المتدهور بسرعة بين البلدين.
وكان لصعود كاسترو المفاجئ إلى السلطة تداعيات عميقة على المستوى الدولي، بالنسبة لهذه الجزيرة الكاريبية الصغيرة. وكانت حكومة الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تعارض بشدة التجربة الاشتراكية الناشئة في كوبا. كانت دكتاتورية باتيستا العسكرية، على الرغم من كونها فاسدة وقمعية ولا تحظى بشعبية كبيرة لدى الكوبيين، مؤيدة للولايات المتحدة بشكل واضح، وكان يُنظر إلى النظام على أنه حليف للشركات الأمريكية التي تمتلك جزءاً كبيراً من الصناعة في البلاد.
وقال الدبلوماسي والباحث الكوبي "كارلوس ألزوغاراي" لبرنامج "شاهد التاريخ" علي بي بي سي في عام 2016: "كان باتيستا يعتبر أفضل رجل لأمريكا في كوبا، والذي قام بالفعل بإنفاذ القانون لصالح الشركات الأمريكية".
"على سبيل المثال، كان هو وحكومته يتلقون 2000 دولار شهريا من المافيا، للسماح لهم بالقيام بكل ما يريدون القيام به في كوبا، فيما يتعلق بالكازينوهات والدعارة".
وعندما تولت الحكومة الثورية الجديدة السلطة، قامت بتأميم هذه الشركات الأمريكية دون تعويض، مما أدى إلى إزالة قبضتها الخانقة على الاقتصاد. وردا على ذلك، فرضت الولايات المتحدة في عام 1960 حظرا تجاريا ــ وهو الحظر الذي لا يزال ساريا حتى اليوم ــ على أمل أن يؤدي العجز الاقتصادي والجوع إلى زعزعة استقرار النظام الجديد.
ولكن مع قيام الولايات المتحدة بإغلاق تجارتها مع كوبا، عوضت حكومة كاسترو ذلك بالتحول إلى شريك تجاري جديد، متمثلا في القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي. ثم في بداية عام 1961، قبل ستة أشهر من المقابلة التي أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية مع كاسترو، قطعت الولايات المتحدة جميع علاقاتها الدبلوماسية مع هافانا.
وعندما فشلت هذه الإجراءات في الإطاحة بالحكومة الاشتراكية الجديدة، وضعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية موضع التنفيذ خطة كانت تعمل عليها منذ أوائل عام 1960.
وبموافقة الرئيس الأمريكي آنذاك، أيزنهاور، قامت وكالة المخابرات المركزية سرا بتدريب وتمويل حوالي 1400 كوبي، كانوا قد فروا من منازلهم عندما استولى كاسترو على السلطة. لقد خططوا لإنزال قوة الغزو هذه في خليج الخنازير، على بعد 161 كم جنوب شرقي هافانا، معتقدين أن ذلك سيشعل انتفاضة شعبية ضد كاسترو. وقد أعطى الرئيس الأمريكي الجديد "جون إف كينيدي" الضوء الأخضر للخطة بحذر
ثبت أن هذا كان خطأ فادحا في التقدير، وكان الهجوم فشلا ذريعا، واستسلم الغزاة بعد أقل من 72 ساعة، وتم أسر أكثر من 1000 منهم.
وبعد ما يزيد قليلاً عن شهرين، كان كاسترو جالساً يتحدث إلى مجموعة من الصحفيين، كان من بينهم أمريكيون، مدركاً بوضوح أن حكومتهم كانت تحاول بنشاط الإطاحة به.
ولم يكن الأمر سهلا بالنسبة لهؤلاء الصحفيين الأمريكيين، إذ كان كاسترو قد أخضعهم لمؤتمر صحفي في منتصف الليل استمر حتى الساعة 3:15 صباحا، قبل أن يبدأ الجولة في الساعة 6 صباحا. وتضمنت الجولة عمدا مشاهد الهجوم الكارثي في خليج الخنازير - بما في ذلك حطام طائرة B26 التي أسقطتها الولايات المتحدة للغزاة، والمنزل المدمر الذي دمرته قنبلة من القوة المهاجمة، والذي تعهد كاسترو بالحفاظ عليه كما هو كنصب تذكاري.
لكن كاسترو كان حريصا في المقابلة على تهدئة الوضع المضطرب بشكل متزايد مع الولايات المتحدة، وإقامة علاقات أكثر طبيعية. وعندما سئل عما إذا كان محايدا في الحرب الباردة أو إذا كان متحالفا مع القوى الشيوعية، أجاب: "لماذا تفكر في الحرب؟ أعتقد أن أفضل شيء للسلام هو التفكير في السلام. أنا مع السلام".
وعندما سأله "داي" عن الموعد الذي ستجري فيه كوبا انتخابات ديمقراطية، رد قائلا: "لقد سألنا الشعب ويقول الناس إننا لا نريد السياسة الآن لأننا نعمل".
وكان قد صرح سابقا لبي بي سي نيوز، في مقابلة أجريت معه في كانون الثاني (يناير) 1959، أنه يعتقد أن الانتخابات ستجرى "في غضون 18 شهرا، على وشك إجراء انتخابات حرة &- خلال أقل من عام واحد".
والآن أعاد صياغة مفهوم الديمقراطية بعيدا عن مجرد حق التصويت في الانتخابات الحكومية، وأقرب إلى العمال الذين يتمتعون بالسيطرة الفعلية على حياتهم اليومية وعملهم.
"خلال الستينيات، أصبح كاسترو قمعيا بشكل متزايد وغير متسامح مع أي انتقادات ملموسة"
وقال كاسترو: "هل تعتقد أنه لا توجد ديمقراطية هنا؟ أؤكد لك أن هنا ديمقراطية أكثر مما هي عليه في الولايات المتحدة". "لأنه هنا، من كان عاملا، ومن كان فلاحا، كان يُحارَب من سلطة أصحاب الأراضي. والآن هم ينظمون عملهم، وينظمون تعاونياتهم. إن الرجل الأكثر حرية الذي يمكن أن تجده في كلا الأمريكتين هو الرجل الكوبي".
ولكن على الرغم من وعود كاسترو، فإن إجراء انتخابات حرة ونزيهة لم يتحقق أبداً في كوبا.
في ذلك الوقت، كان كاسترو قد فرض بالفعل نظام الحزب الواحد، وأرسل مئات الأشخاص إلى السجن كسجناء سياسيين. خلال الستينيات، أصبح قمعيا وغير متسامح بشكل متزايد مع أي انتقادات ملموسة، مع القضاء على الصحافة الحرة، ومع إرسال الآلاف من المثليين جنسياً والمعارضين وغيرهم ممن يعتبرون "غير مرغوب فيهم" إلى معسكرات العمل القسري.
إن التقدم الذي أحرزه كاسترو في توفير التعليم المجاني والرعاية الصحية لجميع الكوبيين، قد تم تقليصه في نفس الوقت من خلال القمع المنهجي لحرياتهم الأساسية.
وقالت إريكا غيفارا روساس، مديرة منطقة الأمريكتين في منظمة العفو الدولية، عقب وفاة كاسترو في عام 2016: "لقد تحسنت القدرة على الوصول إلى الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم للكوبيين بشكل كبير بفضل الثورة الكوبية، ولهذا السبب، يجب الإشادة بقيادته. ومع ذلك، على الرغم من هذه الإنجازات في مجالات السياسة الاجتماعية، اتسم عهد فيدل كاسترو الذي دام 49 عاما بالقمع الوحشي لحرية التعبير".
في نهاية المطاف، لن تفعل الرحلة الصحفية الكثير لتغيير المسار الذي يبدو أن البلدين يسيران فيه.
بعد فشل عملية خليج الخنازير، بعد خمسة أشهر من مقابلة بي بي سي، وافق الرئيس كينيدي على "العملية مانغوس"، وهي حملة سرية نفذ فيها عملاء وكالة المخابرات المركزية والمنفيون الكوبيون سلسلة من أعمال التخريب، استهدفت الصناعة والأراضي الزراعية في الجزيرة بالإضافة إلى محاولات اغتيال كاسترو وبعض المسؤولين الحكوميين.
وقد أقنع هذا الزعيم الكوبي بأنه في حاجة إلى الدعم السوفييتي، ومع اعتقاده بأن الولايات المتحدة ستحاول غزو بلاده مرة أخرى، وافق على السماح للاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ نووية في الجزيرة - على بعد 145 كيلومتراً فقط من فلوريدا.
ومن شأن هذا القرار أن يؤدي إلى مواجهة بشأن كوبا بين القوتين العظميين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وقد وصف مراسل بي بي سي السابق في موسكو "ألان ليتل" ذلك الوضع في عام 2002 قائلا: "في غضون أيام، جعل العالم أقرب إلى حرب نووية عن أي وقت قبله أو بعده".