"إيلاف" تنجز ملفًا بمناسبة ربع قرن على توليه مقاليد الحكم
الملك محمد السادس.. صانع التحديث ومهندس التحولات بالمغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من الرباط: تبدأ "إيلاف" اليوم بنشر ملف عن اليوبيل الفضي لتولي العاهل المغربي الملك محمد السادس مقاليد الحكم.
وسيخلد المغرب في الثلاثين من الشهر الجاري، ذكرى عيد العرش (عيد الجلوس) الذي يصادف هذا العام، انصرام خمس وعشرين سنة على اعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، خلفا لوالده الملك الراحل الحسن الثاني، الذي توفي في الثالث والعشرين من تموز (يوليو) 1999.
لهذا العيد في المغرب أجواء وخصوصيات بقيت متوارثة وثابتة وراسخة على امتداد الاعوام والأجيال، حيث يلقي الملك خطاب العرش، وهو خطاب شامل، يقوم من خلاله بتقييم حصيلة العمل المنجز. ويرسم في الوقت ذاته، ملامح التوجهات المستقبلية التي ستؤطر عمل الدولة، على المدى القريب والمتوسط، سواء في ما يتعلق بالوضع الداخلي أو بالشأن الخارجي.
ولهذا العيد أيضا طقوس خاصة، تميز احتفال الدولة والشعب بها، حيث يقيم الملك حفلا كبيرا، يدعى إليه كبار رجال الدولة، مدنيين وعسكريين، وسفراء الدول الأجنبية المعتمدون لدى المملكة، وشخصيات سياسة وفعاليات أكاديمية وثقافية وإعلامية وفنية ورياضية بارزة، من داخل وخارج المغرب.
وخلافا لوالده الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يترأس الاحتفال بهذه الذكرى في عاصمة البلاد الرباط ومرات قليلة في فاس ومراكش، درج الملك محمد السادس على إقامة احتفالية عيد العرش في قصر "مرشان" بمدينة طنجة، المطلة على جبل طارق في أقصى شمال المغرب. وجرت اقامته في الرباط والدار البيضاء لمرات قليلة. بينما أقيم الاحتفال العام الماضي في مدينة المضيق .ولم يحدد حتى الان أين سيقام هذا العام هل في المضيق أم في تطوان أم في طنجة.
حفل الولاء
في ظهيرة اليوم الموالي، وغير بعيد عن طنجة، عادة ما يترأس الملك في مدينة تطوان حفل أداء القسم من طرف فوج الضباط الجدد المتخرجين من مختلف الكليات والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، ويلقي فيهم خطابا ويطلق اسما على فوجهم. كما يقوم شخصيا خلال مجريات ذات الحفل، بتوشيح كبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية برتبهم العسكرية الجديدة إثر ترقيتهم.
وعشية نفس اليوم، يجري تنظيم حفل كبير ومبهج، يبرز عراقة التقاليد المغربية، يعرف باسم "حفل الولاء"، يتلقى فيه الملك مرة في السنة تأكيد وتجديد الولاء والبيعة، من ولاة وعمال (محافظون) الاقاليم ومساعدوهم، ومن الباشاوات والقواد المكلفون مهام السلطة العمومية في المدن والمراكز القروية، وكبار موظفي الادارة بالاقاليم، ومن رؤساء وأعضاء المجالس المحلية المنتخبة في آخر اقتراع عام .كما يشارك في حفل الولاء، أعضاء يمثلون غرفتي البرلمان، ورؤساء وأعضاء مجالس الغرف التجارية والفلاحية وغرف الصيد البحري، والغرف الصناعية بصنفيها العصري والحرفي، وممثلي كل القبائل المغربية، إضافة إلى هيئات تمثيلية عدة.
ويزدان مشهد هذه الاحتفالية بخروج الملك في زيه المغربي الاصيل، ممتطيا جوادا عربيا أصيلا، وعلى يمينه يسير مشيا على الأقدام، ابنه وولي عهده الأمير مولاي الحسن، وشقيقه الامير مولاي رشيد ثم يليهم في الترتيب على اليسار، مساعدو الملك المقربون وفي مقدمتهم أبرز مستشاريه، علاوة على كبار الشخصيات العاملة بالدواوين الملكية.
وجرت العادة أن يحيط بالملك وهو فوق حصانه، أعوان القصر وهم يرفعون مظلة مخملية عالية، تحجب أشعة الشمس عن محيا الملك، حريصين على مسايرة الخطوات الثابتة للجواد الملكي، بكل تؤدة وانضباط.
وقد يحدث اسثتناء، أن يغير الملك صيغة خروجه خلال"حفل الولاء"، فيستعيض عن امتطاء الحصان، بركوب سيارة مدنية مكشوفة، ذات اللون الأبيض الناصع. وفي هذه الحالة، وحفاظا على رمزية التقاليد المتوارثة، يظل الحصان الملكي المطواع، يتبع السيارة الملكية بهدوء وهي تتقدم نحو صفوف الوفود التي تكون قد اصطفت في نظام بديع وبزي مغربي موحد كله باللون الابيض، مرددة عبارات الولاء والإخلاص للجالس على عرش البلاد، في مشهد يحيل على مفهوم البيعة في الإسلام.
وتتخلل صفوف المبايعين ، تشكيلات من أعوان القصر بلباسهم الجذاب، وهم يرددون عبارات التبجيل في الذات الملكية. وفي ذات الوقت يتلفظون بعبارات أخرى، تنقل إلى وفود المبايعين، رضا الملك عنهم، ودعواته لهم بالسداد والصلاح في مهامهم ومسارهم.
تحولات عميقة
ويرى محللون متابعون للشأن المغربي، أن فترة حكم الملك محمد السادس، شهدت تحولات عميقة طالت جميع مجالات الحياة في المغرب.
فالملك الذي لا تخفى على أحد رؤيته التحديثية، وضع بصمته على هذه التحولات التي قادها بنفسه، ورسم لها المعالم الكبرى. بل إنه ظل شخصيا يتابع مراحل إنجاز المشاريع المهيكلة، التي خطط لها وأطلقها، وصنع بها وجها جديدا للمغرب، لا يمكن أن تخطئه عين الزائر الذي يفد على البلاد.
فمنذ الشهور الأولى لعهده، اتجهت عناية العاهل المغربي إلى التركيز على المشاريع الكبرى الكفيلة بتحقيق التحول في صورة البلاد، بما يتيح رفع مؤشرات التنمية في شتى القطاعات. الامر الذي جعل كثيرا من المشروعات العملاقة التي أطلقها، تجر وراءها وبكيفية تلقائية، مشاريع أخرى رديفة.
منشآت مينائية وطرق سيارة سريعة
هكذا تعززت المنشآت المينائية البحرية، وتوسعت شبكة الطرق السيارة السريعة، جنبا إلى جنب مع تطوير شبكة الطرق الرئيسية والثانوية، لتصبح في العديد من المناطق على شاكلة "الطرق المزدوجة"، وكذا تحسين حالة الطرق في البوادي والمناطق القروية النائية.
ويمكن القول بأن الطرق السريعة بالمواصفات العالمية، باتت شبه معممة على كل جهات البلاد، بحيث يكتشف القادم إلى المغرب بحرا، من ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني، بنية طرقية متطورة تمتد من شمال المغرب إلى جنوبه.
الطريق السريع تزنيت - الداخلة
ومن علامات التطور الذي تشهده البنية الطرقية في المغرب، يتوقع أن يتم الإعلان قريبا عن استكمال الطريق السريع، الذي يتعدى ألف كيلومتر، ويربط بين مدينة تزنيت الواقعة جنوب أكادير ومدينة الداخلة الواقعة في أقصى جنوب الصحراء المغربية. وهي غير بعيدة عن الحدود مع موريتانيا.
وكانت شبكة الطرق السريعة حتى عام 2021، قد بلغت 1800 كيلومتر، بينما تجاوزت حاليا هذا الرقم، بعد إضافة مقاطع جديدة إلى خريطة الطرق السريعة في البلاد.
البراق
بدوره، شهد قطاع السكك الحديدية طفرة نوعية. وكان من مظاهرها البارزة، إحداث قطار "البراق"، وهو قطار فائق السرعة يربط بين مدينة طنجة في أقصى الشمال، وبين العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء في حوالى ساعتين. وهو أول قطار من نوعه في أفريقيا والعالم العربي.
ميناء طنجة المتوسطي
وكان تحقيق المشروع الضخم، المتمثل في الميناء المتوسطي بضواحي طنجة، من أولى الانجازات الكبرى للعهد الجديد. وقد جرت توسعة قدرته الاستعابية لتصل في العام الحالي إلى ما يقارب تسعة ملايين حاوية، من سعة عشرين قدما، مسجلا زيادة بلغت 13 بالمئة، مقارنة مع سنة 2022. وهكذا بات ميناء طنجة المتوسطي، ميناءا منافسا بقوة، ليس فقط على صعيد موانىء البحر الأبيض المتوسط التي تفوق عليها جميعها، وإنما على صعيد كبريات الموانئ العالمية، حيث يصنف حاليا كأكبر ميناء أفريقي، يربط المحيط الأطلسي ببقية البحار شرقا وغربا وجنوبا.
التحول الاقتصادي
وبخصوص التحول الاقتصادي الذي يحققه المغرب في ظل حكم الملك محمد السادس، يتعين الإشارة إلى أن السياسات والخطط المطبقة طيلة السنوات الماضية، قد اتجهت نحو تنويع مرتكزات الاقتصاد المغربي، الذي كان يعتمد في السابق على قطاعات الفلاحة والسياحة والصناعات التحويلية، وقطاع العقار، والصناعات الحرفية، والصيد البحري، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج.
وبذلك تمكن المغرب من إنجاز انعطافة مهمة، نحو أنشطة صناعية جديدة، تأتي في مقدمتها صناعة السيارات وصناعة قطع غيار الطائرات.
كما توسعت صناعة النسيج بكل أشكالها وأنواعها.
ومقارنة مع دول الجوار ، حقق المغرب طفرة كبيرة في مختلف الأنشطة الصناعية الجديدة التي أصبح يباشرها، وذلك بفضل انفتاحه الكبير على الاستثمارات الأجنبية، واعتماده أنظمة وإجراءات تحفيزية وتشجيعية للمستثمرين المغاربة والأجانب.
في هذا السياق ، تحتل المراهنة على الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة وإنتاج الكهرباء، أولوية رئيسية في توجهات السياسات العمومية في المغرب.
وعلى مستوى التوسع العمراني، أدى التطور الهائل في قطاع العقار إلى توفير عرض عقاري واسع ومتنوع ، وهو ما نتج عنه ظهور مئات الآلاف من التجمعات السكنية الجديدة في العديد من مدن المغرب ، علاوة على إحداث مجموعة ضخمة من المنتجعات الصيفية .كما انتقلت مناطق عدة من وضعية المراكز القروية الصغيرة، لتصبح بمثابة مدن صغيرة.
وشهد قطاع السياحة بدوره تطورا هائلا ، حيث جرى تعزيز وتنويع العرض السياحي، ومضاعفة الطاقة الاستيعابية، بإحداث مئات الفنادق والمنشآت السياحية الجديدة بمختلف مناطق البلاد. وهو ما أدى إلى تجاوز عشرة مليون وافد على المغرب بغاية السياحة.
النهوض بالاوضاع الاجتماعية والمرأة والطفولة
وعلى مستوى الأوضاع الاجتماعية، جرى توسيع نظام التغطية الصحية والحماية الاجتماعية، ليشمل كافة المواطنين، ممن يمارسون أنشطة حرفية أو مهنا غير منظمة.
وتنزيلا لرؤية الملك محمد السادس بشأن الدولة الاجتماعية، تم إحداث نظام للمساعدة الاجتماعية لفائدة الأسر المعوزة، والارامل اللواتي يواجهن صعوبات في العيش. مع تخصيص مساعدات موجهة لدعم تمدرس التلاميذ المنحدرين من أسر ضعيفة.
وكان العاهل المغربي قد أعطى منذ بداية عهده، إشارات قوية للنهوض بأوضاع المرأة والطفولة.
وكانت النتيجة أن جرى إقرار مدونة قانونية جديدة ومتطورة، أعادت البناء القانوني للحياة الأسرية، وعالجت العديد من الاختلالات والنواقص التي كانت تعاني منها المرأة سواء خلال الزواج أو بعد الطلاق. كما جرى في هذا الاطار، تعزيز حقوق الأطفال، وحماية سلامتهم الجسدية والنفسية، ومنع تشغليهم، وتشجيع تمدرسهم ومواجهة الهدر المدرسي.
توسع قطاع التعليم
وعرف قطاع التعليم توسعا كبيرا، بانتشار المؤسسات الإعدادية والثانوية في مناطق قروية. كما شهد التعليم المهني في شتى التخصصات التقنية تطورا غير مسبوق.
وعلى مستوى التعليم العالي، عرفت بنياته توسعا متزايدا، حتى أصبحت الجامعات منتشرة في كل الجهات، ولها فروع في المدن الكبرى.
عناية ملكية خاصة بالقضاء
ونال القضاء عناية خاصة في عهد الملك محمد السادس، من خلال إقرار تشريعات متعددة، لتعزيز دولة الحق والقانون، وضمان شروط المحاكمة العادلة.
وتندرج الإصلاحات التي جرى تنفيذها في هذا المجال، ضمن رؤية شاملة تقوم على احترام حقوق الإنسان، وتوسيع مجال الحريات، وضمنها حرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي والنقابي والحقوقي، في حدود مراعاة ثوابت الأمة والوطن.
الخبرة الأمنية .. عملة المغرب النادرة
ولا يمكن إغفال واجهة أخرى ذات أهمية بالغة، برزت فيها صورة المغرب على مستوى وضعه الاستراتيجي وحضوره الوازن. ويتعلق الأمر بالقدرات والخبرات الريادية التي راكمها المغرب في المجال الأمني، ولا سيما على مستوى محاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتصدي للجريمة العابرة للحدود، والاتجار في المخدرات.
وقد أصبح الأداء الأمني المغربي نموذجا جاذبا ومثيرا لاهتمام متزايد من لدن الأجهزة الأمنية في الدول الوازنة بكل القارات، حتى أصبحت الخبرة المغربية في هذا المجال مطلوبة، بحكم فعاليتها ونجاعتها، في التفكيك الاستباقي للحركات الإرهابية.
وباتت للمغرب اتفاقات أمنية عديدة بأشكال مبتكرة، مع الدول الكبرى، دون أن يبخل بخبرته الأمنية على الدول العربية الشقيقة، والدول الافريقية الصديقة.
دبلوماسية الندية والانتشار الجديد
وموازاة مع هذا الحضور المغربي على مستوى الاستراتيجية والحكامة الأمنية، عرفت ديبلوماسية البلد طفرة مميزة، أضافت أبعادا جديدة لصورتها ورصيدها السابق.
وعلى هذا المستوى، نجح المغرب في إحداث اختراقات واسعة، تتعلق بقضايا استراتيجية بالغة الأهمية والحساسية، من منظور مصالحه الحيوية وأمنه القومي، وسيادته الوطنية. وتأتي في مقدمة ذلك نجاحاته المتواصلة في جلب تأييد واسع لسيادته الكاملة على أقاليمه الصحراوية الجنوبية، التي استرجعها من الاحتلال الإسباني عام 1975، ودعم 100 دولة لمشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب، لطي صفحة النزاع الإقليمي المفتعل من الجارة الجزائر، حول هذا الملف.
وأعطى الملك محمد السادس منذ وصوله إلى الحكم، إشارات قوية بأنه يمتلك رؤية جديدة للعمل الديبلوماسي، جعلها متناغمة مع موازين القوى، ومع التحولات الدولية والتحالفات القائمة والمتغيرة.
وفي هذا الإطار قرر العودة إلى العضوية في الاتحاد الأفريقي، بعد أن قوى صلات المغرب بغالبية الأقطار الأفريقية، وأشرف على توقيع مئات الاتفاقيات مع حكوماتها في كل ميادين التعاون الثنائي، الامر الذي مكن المغرب من حضور تجاري ومالي واسثتماري واسع داخل أفريقيا، وخاصة في قطاع البنوك والمواصلات وشبكات الاتصالات، وكل ذلك بالتوازي مع دعم المغرب العديد من المشروعات الصحية والاجتماعية والبيئية والصناعية، في عدة أقطار أفريقية.
ونوعت الدبلوماسية المغربية شراكاتها الدولية، بتقوية علاقاتها مع الصين وروسيا واليابان وكوريا والبرازيل وتركيا، مع حضور نوعي ومتجدد في دول أميركا اللاتينية. هذا من دون الاخلال بالتزاماته مع الشركاء التقليديين في أوروبا، ومع الولايات المتحدة، التي أصبحت تعترف بسيادة المغرب على كل مناطق صحرائه.
ويحسب للملك محمد السادس، أنه انتهج أسلوب الندية والحزم والوضوح، في تعامله مع دول غربية وازنة، ردا على بعض مناوراتها السياسية في ملف وحدة المغرب الترابية، ودفاعا عن سيادة بلاده وحقوقها المشروعة.
والخلاصة أن المغرب شهد ومازال يشهد نهضة نوعية ظاهرة، يقف وراءها تخطيط محكم قاده الملك محمد السادس بإصرار ومثابرة، وبالتالي ليس من المبالغة نعته، بأنه صانع التحديث ومهندس التحولات الكبرى في المغرب.