هل تتجاوز القاهرة وطهران عقوداً من الجفاء؟
إيران ومصر: من الملكة فوزية وصداقة الشاه والسادات إلى 40 عاماً من القطيعة والعداء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في خضم التوترات بين إيران وإسرائيل، قام عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، في خطوة نادرة، بزيارة الأردن ومصر، الدولتان العربيتان الوحيدتان في الشرق الأوسط اللتان لم تقيما علاقات دبلوماسية كاملة مع طهران منذ أكثر من 40 عاماً. وتحتل مصر مكانة مميزة في العالم العربي والشرق الأوسط، ولسنوات عديدة كان الساسة في طهران يكافحون من أجل استعادة العلاقات مع القاهرة.
العلاقات المصرية الإيرانية: ترحيب إيراني باستئناف العلاقات وهدوء حذر من القاهرة
السيسي: لست مع الحرب، وأمن الخليج خط أحمر
وإيران ومصر هما الدولتان الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الشرق الأوسط. وعلاوة على ذلك، يتمتع البلدان، المتجذران في الحضارات القديمة، بهوية سياسية واجتماعية فريدة مقارنة بدول الشرق الأوسط الأخرى، التي نشأ معظمها في القرن العشرين. وكانت الدولتان، مثل الأخوين الأكبر سناً في عائلة كبيرة، تربطهما علاقات مليئة بالأحداث مع بعضهما البعض ومع بقية الأشقاء.
إن تاريخ هذه العلاقة "الأخوية" مليء بالتباعد والمصالحات وخاصة في السنوات الـ 150 الماضية حيث اقتربت إيران ومصر عدة مرات، فقط لتجدا نفسيهما في وقت لاحق، وأحياناً بين عشية وضحاها، على مسار المواجهة والعداء.
في الوقت الحاضر، لا يزال مستوى العلاقات الدبلوماسية بين إيران ومصر محدوداً، فعلى الرغم من الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة، لم يتبادل البلدان السفراء بعد. ومع ذلك، فإن حرب غزة والهجمات الإسرائيلية على لبنان خلقت فرصة جديدة لتحسين العلاقات بين طهران والقاهرة، وعلى الأقل تظهر الأنشطة الدبلوماسية الإيرانية بوضوح رغبة جادة من جانبهما في المصالحة.
وفي الواقع، كان السبب الرئيسي وراء جولة عباس عراقجي الإقليمية، التي شملت توقفاً في العراق ولبنان والمملكة العربية السعودية قبل مصر والأردن، هو المفاوضات بشأن التوتر بين إيران وإسرائيل.
وفي هذا السيناريو، تحتل مصر مكانة خاصة إلى جانب تركيا والمملكة العربية السعودية، فهي تشترك في حدود مع إسرائيل، ولديها علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، وتلعب دوراً محورياً في المفاوضات بين إسرائيل وحماس.
إن إلقاء نظرة على تاريخ العلاقات بين إيران ومصر يظهر أنه على الرغم من المسافة الجغرافية والعقبات الخطيرة، كان لدى البلدين العديد من الأسباب للصداقة والتعاون، ومع ذلك، ظلت هذه العلاقات، حتى يومنا هذا، متأثرة دائما بالتطورات الإقليمية والعالمية الأوسع نطاقا.
علاقات أسرية
في العصر الحديث، تأخرت العلاقات بين إيران ومصر بشكل ملحوظ في التحول إلى علاقات رسمية، ويرجع ذلك أساسًا إلى وجود قوى استعمارية مثل العثمانيين، ثم فرنسا وإنجلترا لاحقًا.
فمصر التي أصبحت مقاطعة تابعة للإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن السادس عشر، احتلتها بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر. وفي عام 1922، اعترف البريطانيون رسميًا (وإن كان بالاسم فقط) باستقلال مصر في عهد الملك فؤاد الأول. ومع ذلك، رفضوا تسليم السيطرة على السياسة الخارجية والجيش وقناة السويس وغيرها من مراكز القوة الرئيسية للمصريين.
وخلال هذا الوقت، كانت الاستراتيجية البريطانية تجاه إيران مختلفة، فقد دعموا رجلًا عسكريًا يُدعى رضا خان، الذي استولى على السلطة في انقلاب عام 1921، وفي غضون 5 سنوات، بعد الإطاحة بأحمد شاه قاجار، توج نفسه ملكًا لسلالة جديدة تسمى بهلوي. وهكذا، بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الأولى، كان لكل من إيران ومصر ملكان كانت سياستهم الاقتصادية والسياسية أقرب للندن من رغبات أو مصالح دولهم.
ولكن الأمر استغرق قرابة عقدين من الزمان حتى تتطور علاقة رضا شاه بالبلاط الملكي المصري بشكل كامل عندما كان شاه إيران يبحث عن "زوجة مناسبة" لابنه الأكبر ولي العهد محمد رضا، واختار رضا شاه فوزية، شقيقة الملك فاروق ملك مصر، من بين المرشحات المقترحات لزواج محمد رضا بهلوي، وقد جلب هذا الاختيار مزايا سياسية ورمزية كبيرة لكل من رضا شاه والملك فاروق.
فقد كانت الرابطة الأسرية لرضا شاه مع عائلة ملكية ذات تاريخ أطول بكثير خطوة مهمة له في تعميق شرعية سلالته الجديدة. ومن ناحية أخرى، كان الملك فاروق، الذي كان تحت سيطرة قوة غربية ويُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره حاكماً دمية عاجزاً، مدركاً تمام الإدراك للفوائد التي قد يجلبها هذا الزواج السياسي لمنصبه.
وفي عام 1939، وبعد زواج ولي العهد الإيراني من الأميرة المصرية، تبادل البلدان السفراء لأول مرة في التاريخ الحديث، وبدأت العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين طهران والقاهرة رسميًا، وبدت العلاقات وكأنها تحمل مستقبلًا مشرقًا بفضل الروابط العائلية والأهمية الإقليمية للبلدين.
سقوط الملك فاروق
وكما كان زواج ولي العهد محمد رضا من فوزية اتحاداً مضطرباً ومؤلماً بالنسبة لبلاط إيران، فإن العلاقات بين إيران ومصر خلال هذه الفترة لم تكن واسعة النطاق للغاية وتميزت عموماً بقدر من الارتباك حيث لم تلعب مصر دوراً في السياسة الخارجية لرضا شاه، ومن ناحية أخرى، كان للملك فاروق ورؤساء وزرائه حرية محدودة للغاية في المبادرات الدبلوماسية.
وبعد فترة وجيزة من إقامة إيران ومصر للعلاقات الدبلوماسية الرسمية، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأصبحت كل من الدولتين أدوات لتعزيز سياسات الحرب للقوى الاستعمارية، وخاصة بريطانيا. وبعد الحرب، أصبحت كل من الدولتين جزءاً من نظام الشرق الأوسط الذي تسيطر عليه بريطانيا، مع أدوار أصغر للولايات المتحدة وفرنسا.
وخلال هذا الوقت، لم تكن هناك علاقات دبلوماسية استثنائية بين البلدين، ولم يكن هناك عداء أو تنافس أو مواجهة حيث ركزت كل من طهران والقاهرة في المقام الأول على تمرير إصلاحات كبرى للتغلب على الفقر الذي أصابهما في حين حاولتا في الوقت نفسه استعادة السيطرة على مواردهما وسياساتهما من العواصم الأوروبية.
لقد تغيرت هذه الفترة الفريدة في العلاقات بين إيران ومصر بشكل كبير في عام 1952 عندما قامت مجموعة من الضباط العسكريين في مصر بالإطاحة بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا والسيطرة التي فرضتها لندن على قطاعات رئيسية من اقتصاد البلاد.
ونتيجة لهذا التطور، الذي أطلق عليه لاحقا اسم ثورة 1952، تم عزل الملك فاروق. وبعد عام واحد، تم إلغاء النظام الملكي الذي دام نحو 150 عامًا في مصر، وفي غضون 3 سنوات، استولى جمال عبد الناصر على السلطة في جمهورية مصر التي تأسست حديثًا.
ومن هذه النقطة فصاعدًا، أصبحت مصر حاملة لواء القومية العربية والثورات الجمهورية في الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال، وجدت إيران نفسها بسرعة في المعسكر المعاكس، إلى جانب أنظمة ملكية أخرى مثل المملكة العربية السعودية والعراق.
ولكن بالنسبة لناصر، الزعيم القومي الشعبي للعرب، لم يكن شاه إيران مجرد ملك إقليمي آخر فقد كان ملكاً غير عربي يتمتع بدعم غربي كبير ويعمل على استعادة دور إيران في الشرق الأوسط إلى المكانة التاريخية التي كانت تتمتع بها من قرون مضت.
استهدف عبد الناصر شاه إيران على وجه التحديد في دعايته القومية العربية، واتهمه بخيانة المسلمين بالتحالف مع إسرائيل وإنشاء جيش مجهز بأسلحة أميركية.
صداقة السادات والشاه
لقد واجه ناصر العديد من العقبات في تقدم مشروعه السياسي، وفي نهاية المطاف توفي فجأة في عام 1970 بعد الهزائم العسكرية في الحروب مع إسرائيل. وقد غيّر خليفته أنور السادات (الذي كان أحد المشاركين مع ناصر في انقلاب عام 1952) مسار السياسات الرئيسية لبلاده بالكامل تقريبًا.
لقد مد السادات يد الصداقة إلى إسرائيل، وسعى إلى المصالحة مع "الإخوان المسلمين"، وأقام علاقات وثيقة للغاية مع شاه إيران، وسرعان ما تطورت هذه العلاقات، التي كانت مركزة في البداية في الفوائد الاقتصادية للدعم المالي الإيراني، إلى مستوى غير مسبوق بسبب أوجه التشابه الثقافية والتوازي التاريخي.
في ذلك الوقت، قرأ أنور السادات، في زيارة إلى طهران، علنًا من نص باللغة الفارسية بحضور "جلالة الإمبراطور، ملك الملوك، محمد رضا بهلوي"، متحدثًا عن الصداقة التاريخية بين البلدين ومذكرًا جمهوره بأن الإيرانيين والمصريين لديهم روابط واسعة تعود إلى حضاراتهم القديمة، وأكد أن البلدين متشابهان بسبب تاريخهما المشترك.
وقد أشاد الشاه والسادات في تصريحاتهما الرسمية ببعضهما البعض بشدة، ولم يترددا في إظهار عاطفتهما الشخصية تجاه بعضهما البعض علنًا.
وفي عام 1973، هاجمت مصر، جنبًا إلى جنب مع سوريا - بدعم من دول عربية أخرى - إسرائيل في محاولة لاستعادة شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان. لكن التقدم الذي حققه الجيشان المصري والسوري في الأيام الأولى من الحرب سرعان ما انقلب إلى تقدم إسرائيلي مضاد في الأراضي المصرية والسورية. وبعد وقف إطلاق النار، تحول السادات إلى الدبلوماسية، وهي الاستراتيجية التي تلقت دعمًا قويًا من شاه إيران.
ووفقًا لوثائق أميركية، عندما سافر الشاه بعد عامين إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي جيرالد فورد، اقترح أنه إذا نجحت شخصيات تتبنى أفكارا ثورية متطرفة مثل معمر القذافي في زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية سياسيًا، فيجب على إيران ومصر أن تتولى السيطرة المشتركة على موارد النفط في المملكة العربية السعودية.
وفي النهاية، عندما أطيح بمحمد رضا شاه وغادر بلاده بشكل دائم، أثبت السادات ولاءه وأخوته للشاه وعائلته خلال فترة حساسة للغاية، فطوال فترة نفي الشاه القصيرة حتى وفاته المفاجئة، كان السادات يعامله دائمًا باعتباره شخصًا لا يزال في السلطة. وحتى عندما رفضت الولايات المتحدة - أكبر وأهم داعمي الشاه - على الرغم من مرضه المميت السماح له بالعلاج الطبي في أحد مستشفيات مدينة نيويورك، كان أنور السادات هو الذي استضاف الشاه المخلوع بسخاء واحترام حتى وفاته.
وحتى بعد وفاة محمد رضا شاه، أقام السادات جنازة رسمية مهيبة له، وأظهر للجميع مدى المودة الشخصية التي يكنها للشاه وكيف تجاوزت علاقتهما التحالف بين اثنين من السياسيين الأقوياء.
خالد الإسلامبولي
بالنسبة للثوريين الإسلاميين في إيران، امتد عداءهم لأنور السادات إلى ما هو أبعد من قضية إيواء الشاه. ففي ذروة الثورة الإيرانية، وقع السادات معاهدة سلام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين، بمبادرة من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وبعد فترة وجيزة من الثورة الإيرانية (في مارس/آذار 1979)، أصبحت مصر أول دولة عربية تعترف رسمياً بإسرائيل وتقيم علاقات دبلوماسية كاملة.
وقد حدث هذا في حين لم يقم حتى محمد رضا شاه، على الرغم من علاقاته الوثيقة بإسرائيل، بإقامة علاقات دبلوماسية رسمية أو "قانونية" مع إسرائيل، ولم يعترف بها إلا بشكل غير رسمي أو "بحكم الأمر الواقع".
لقد أحدث تصرف السادات موجات صدمة في الشرق الأوسط، وأثار تساؤلات خطيرة حول موقف مصر كزعيمة مركزية للعالم العربي. وبعد أكثر من 3 سنوات بقليل من توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، اغتيل السادات على يد ضابط عسكري مصري أصولي يدعى خالد الإسلامبولي.
وكانت المخاوف من انتشار عدم الاستقرار والعنف السياسي واحتمال اندلاع انتفاضة إسلامية مسلحة أو حتى حرب أهلية تكتنف مصر. وفي رد فعل قوي، دعم الجيش المصري نائب السادات، حسني مبارك، لتولي السلطة، وسحق الإسلاميين بقبضة من حديد دون تردد.
لقد وصلت العلاقات الإيرانية المصرية، التي كانت متوترة بالفعل بسبب وجود الشاه في القاهرة والسلام الذي عقده السادات مع إسرائيل، إلى حافة العداء الشديد، ففي الدعاية السياسية الإسلامية الإيرانية، تم تصوير خالد الإسلامبولي كمقاتل بطل ثار ضد "فرعون العصر"، وبعد إعدامه، تم تغيير اسم أحد شوارع طهران الرئيسية، والمعروف باسم "وزارا"، إلى "شارع الشهيد خالد الإسلامبولي".
لقد بلغ العداء بين طهران والقاهرة خلال هذه الفترة ذروة غير مسبوقة في تاريخ البلدين.
حسني مبارك
منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية، ساندت مصر صدام حسين، ومع تفاقم التوترات بين البلدين، أصبحت مصر واحدة من حلفاء صدام الرئيسيين، حيث زودت العراق بالأسلحة التي احتاجها للحرب.
وبالنسبة لحسني مبارك، لم يكن التهديد الإيديولوجي الذي يشكله رجال الدين الإسلاميون في إيران هو السبب الوحيد وراء هذا العداء حيث استغل مبارك هذه الفرصة لإنهاء العزلة الإقليمية التي عانت منها مصر منذ اتفاقيات كامب ديفيد.
لقد سمح العداء تجاه إيران والدعم الكامل لصدام لمصر بالتحالف مع أشقائها العرب، وخاصة أولئك في الخليج، وهو التحالف الاستراتيجي الذي استمر حتى بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية.
وفي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عندما قرر صدام حسين غزو الكويت وضمها بدلاً من سداد الديون المستحقة عليه لتلك الدولة، وقفت مصر ضد بغداد. ومع ذلك، لم يؤد هذا إلى ذوبان الجليد في العلاقات بين طهران والقاهرة حيث استمرت إيران في اتهام مصر بأنها "دمية" في يد إسرائيل والولايات المتحدة.
وفي منتصف تسعينيات القرن العشرين، كانت مصر من أشد المؤيدين للجهود الدبلوماسية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، في حين عارضت إيران بشدة مفاوضات السلام التي بدأها البيت الأبيض، ونتيجة لهذه الجهود، وقع الإسرائيليون والفلسطينيون بعد اتفاقيات أوسلو اتفاقاً في القاهرة حول كيفية إدارة غزة.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت مصر من المؤيدين الرئيسيين للمفاوضات بين إسرائيل والأردن، والتي أدت في نهاية المطاف إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين.
وبحلول ذلك الوقت، تضاءلت الوصمة المحيطة باعتراف مصر بإسرائيل بشكل كبير، وأشارت كل العلامات، بما في ذلك اتفاقيات أوسلو، إلى أن المنطقة تتحرك في نفس الاتجاه الذي كانت مصر رائدة فيه وهو تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ومع ذلك، فإن ما كان يحدث في الأراضي الفلسطينية لم يشبه اتفاقيات السلام هذه، ففي عام 1995 اغتيل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، أهم مؤيد للسلام مع الفلسطينيين، وغيرت إسرائيل مسارها بشكل جذري.
ومنذ تلك النقطة فصاعداً، رفضت إسرائيل الاعتراف بحدود فلسطين لعام 1967 كما حددتها قرارات الأمم المتحدة ورفضت حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ونتيجة لذلك، لم يبدأ القرن الحادي والعشرين بمزيد من السلام لإسرائيل والمنطقة، بل باحتجاجات فلسطينية واسعة النطاق ضد الاحتلال، وهو ما نعرفه اليوم بالانتفاضة الثانية.
وظلت إيران ومصر على جانبي هذا الصراع، ورغم أن إيران انتهجت سياسة "الوفاق" بعد الحرب وأقامت علاقات دبلوماسية كاملة حتى مع العراق في عهد صدام، فإن القضية الإسرائيلية أبقت طهران والقاهرة متشابكتين في عقدة من الخلافات، ولم تترك سوى القليل من الأمل في استئناف العلاقات.
القرن الجديد
في بداية القرن الحادي والعشرين، تعمقت الخلافات بين طهران والقاهرة أكثر فأكثر، فقد أدى نمو وشعبية حماس وتشكيل حركة الجهاد الإسلامي، وكلاهما يتمتع بدعم إيراني ولكن جذورهما تعود إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، إلى وضع البلدين في خلاف مرة أخرى، ولم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي تجد فيها الدولتان نفسيهما في معسكرين متعارضين بشأن سياسات رئيسية.
ففي لبنان، دعمت مصر الجماعات السنية ضد حزب الله ولم تكن راضية عن صعود ونفوذ منظمة إسلامية شيعية قوية. وفي عام 2003، أطاحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بصدام حسين، واكتسبت إيران قوة ونفوذاً جديدين في العراق، ولم يرق هذا التطور لمصر أيضاً.
ومع ذلك، بذل محمد خاتمي، الرئيس الإيراني آنذاك الذي سعى إلى إنهاء عزلة "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" بمبادرته "حوار الحضارات"، جهوداً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع مصر، وبعد انقطاع طويل، أعيد الاتصال بين البلدين، ولكن هذه الاتصالات لم تفض أيضاً إلى أي نتائج ملموسة.
وفي عام 2006، عندما قصفت إسرائيل لبنان والبنية الأساسية لحزب الله لأكثر من شهر، تعمق الخلاف بين إيران ومصر. وخلال تلك الحرب، انتقدت مصر، مثل المملكة العربية السعودية، حزب الله، وبعد عامين، خلال حرب غزة، وجدت الدولتان نفسيهما مرة أخرى على جانبين متعارضين.
وفي عام 2009، عندما تم بث صور لملايين الإيرانيين يحتجون على نتائج الانتخابات الرئاسية في جميع أنحاء العالم، بث التلفزيون الرسمي المصري هذه الصور مراراً وتكراراً واتهم الحكومة الإيرانية بقمع المتظاهرين العزل بعنف.
ولقد نجت الحكومة الإيرانية من الاحتجاجات الضخمة في ذلك العام، ولكن بعد أقل من عامين، شهدت أجزاء كبيرة من العالم العربي انتفاضات مماثلة، وكان حسني مبارك نفسه من أوائل الذين سقطوا، وبعد الإطاحة بمبارك، فاز محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين بالانتخابات الرئاسية.
وعلى السطح، بدا أن التطورات تقود نحو استئناف العلاقات الإيرانية المصرية، ففي عام 2011، سافر مرسي إلى طهران لحضور قمة حركة عدم الانحياز، وبعد عامين، زار محمود أحمدي نجاد القاهرة لحضور مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي.
ولكن بعد فترة وجيزة، وفي أعقاب الاحتجاجات الواسعة النطاق ضد أسلمة القوانين والمجتمع، أطاح الجيش المصري بحكم مرسي، واستولى عبد الفتاح السيسي على السلطة.
وفي السنوات التي تلت ذلك، تحالف السيسي بشكل كامل مع المملكة العربية السعودية وهي الدولة التي غيرت سياستها الخارجية بشكل جذري في غياب صدام وتحت قيادة محمد بن سلمان وسعت إلى أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة لموازنة صعود الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
العصر الجديد
ورغم أن جهود إيران، بما في ذلك قرار تغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي في طهران، لم تسفر عن التقارب مع مصر، فإن استراتيجية طهران لتهدئة التوترات مع القاهرة لم تتغير كثيرا سواء خلال الخلافات الإيرانية السعودية، أو عندما دعمت مصر محمد بن سلمان بالكامل، أو خلال الجهود المكثفة التي بذلتها إسرائيل لعزل أنصار فلسطين في المنطقة، فقد سعت إيران دائما إلى إدارة توتراتها مع القاهرة.
فمصر هي واحدة من أهم الدول المشاركة في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ونظرا لموقعها الجغرافي الاستثنائي وعدد سكانها الكبير، فإنها قد تكون دائما شريكا اقتصاديا وسياسيا مربحا للغاية لإيران.
والآن بعد أن وصلت التوترات بين إيران وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، فإن طلب طهران من القاهرة واضح للغاية وهو أنه في ظل التوترات الأخيرة والصراعات المستقبلية المحتملة، فإنه إذا لم تتحالف مصر مع إيران، فلا تنضم على الأقل إلى أعداء إيران.
ويبذل الساسة الإيرانيون ووسائل الإعلام التابعة للدولة جهودا مكثفة لتأطير الأعمال العدائية والتوترات الحالية في المنطقة كجزء من "سياسة معادية لإسرائيل". ويزعمون أنه في ظل السياسة الخارجية التي ترغب فيها إيران، لا يوجد عداء أو تنافس مع الدول الإقليمية، وأن إسرائيل هي "العدو الحقيقي" لإيران ودول الشرق الأوسط الأخرى.
بالنسبة للسيسي والقادة العسكريين في مصر، الذين يعتمدون بشكل كبير على الجيش الأمريكي والمساعدات المالية السخية من واشنطن، فإن إقامة علاقات مع إيران لا تزال صعبة كما كانت دائما، فمثل "قادة الحرس الثوري" في إيران، لا يستخدم القادة العسكريون في مصر الأسلحة فحسب، بل يسيطرون أيضا على الشرايين الاقتصادية الحيوية لبلادهم، وهم يعارضون أي شيء من شأنه أن يعطل الاستقرار السياسي الحالي أو يوقف تدفق المساعدات المالية السنوية.
وعلاوة على ذلك، لا تزال الخلافات بين البلدين قائمة، وتتطلب المفاوضات بشأن كل من هذه القضايا إرادة سياسية جادة للتسوية والتنازلات ذلك أن إيران ومصر، بالإضافة إلى وجهات نظرهما المختلفة بشأن جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي، تجدان نفسيهما أيضا على جانبين متعارضين فيما يتعلق بالوضع في لبنان، وحكومة الحوثيين في اليمن، والحرب الأهلية السورية ودور بشار الأسد، والتطورات في العراق.
ولهذا السبب، وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي يمكن أن تجلبها العلاقات الدبلوماسية الكاملة لكل من إيران ومصر، فإن آفاق تحسين العلاقات وإنهاء أكثر من 4 عقود من القطيعة والعداء والمنافسة تظل غير مؤكدة.