تكريت مدينة الحكام: بركان السياسة والعقيدة والتاريخ ي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&فاضل النشمي
&حتى عهد قريب كان اسم تكريت هو الاسم الأكثر شيوعاً في المنطقة التي تغفو على ضفاف دجلة من جهة شمال غرب العاصمة بغداد، وربما لظروف إدارية، أو قومية محضة، استحدث البعثيون محافظة صلاح الدين (تيمّناً بالفاتح صلاح الدين) في سبعينيات القرن الماضي وجعلوا من تكريت مركزاً لها.
أصبح الحديث عن تكريت يعني الحديث عن حكم العراق. وفي تسعينيات القرن الماضي، حين منعت حكومة البعث نقل ملكية البيوت والارضي الى المواطنين المهاجرين إليها من بقية المحافظات، استثنت مواطني تكريت وسمحت لهم بالسكن في بغداد. كانت الذريعة ان مدينتهم تابعة لبغداد في التعداد السكاني لعام 1957. وبغض النظر عن الاهداف السياسية التي وقفت وراء ذلك الإجراء البعثي، إلاّ أن تابعية تكريت لبغداد لعقود قريبة مسألة مؤكّدة. ولعل الطبيعة الجغرافية لتكريت، تمثل نقطة تواجد مثالية لكل قوة تطمع في السيطرة على المنطقة وإدارتها، فهي إحدى الضواحي القريبة لمدينة بغداد التي تقع في قلب العراق. وبضوء ذلك يمكن النظر الى تكريت على أنها المدينة الأكثر تأثيراً في تاريخ العراق السياسي القديم والمعاصر، بحيث أصبحت في فترة من فترات العهد العباسي عاصمة لهم. ويمكن القول ان بعض رجالات تكريت كان لهم الأثر الأبرز في صناعة تاريخ العراق المعاصر بكل قسوته.
أزاح تحالف صدام - البكر، ابن مدينتهم طاهر يحيى التكريتي الذي رأس أول وزارة في حكومة عبد السلام عارف عام 1963، وتمكّن الثنائي صدام حسين &- أحمد حسن، المنحدر من عشيرة البيجات التكريتية، فيما بعد، من تسلّم زمام قيادة العراق لسنوات طويلة. نصّب حزب البعث بعد إطاحته بحكومة الرئيس عبد السلام عارف، أحمد حسن البكر التكريتي رئيساً للجمهورية عام 1968، وبعد أربع سنوات صعد نجم صدام حسين ليصبح نائباً للبكر عام 1972، وبعد سبع سنوات من ذلك التاريخ أزاح قريبه البكر عن سدّة الحكم ليصبح الزعيم الأوحد في العراق عام1979. ومنذ ذلك التاريخ، صار النزوع للعنف والتطلّع للهيمنة، والانخراط بسنوات طويلة من القتال داخل حدود الدولة العراقية وخارجها لعبة أبناء تكريت المفضلة. واذ انتعش العراق اقتصادياً في زمنهم إبان فترة السبعينات بفضل صعود أسعار النفط، فإن الكوارث اللاحقة التي حدثت في عهد صدام حسين بدّدت كل أحلام فترة الرفاه القصيرة. وأصبح شائعاً لدى قطاعات واسعة من المواطنين الحديث عن تكريت باعتبارها مسؤولة بطريقة أو بأخرى عن مأساة عقود من الحروب والدمار.
انخرط أبناء تكريت ممثلين بصدام حسين وأقاربه في الحرب منذ وقت مبكر. كانت بداياتها الحرب ضد الاكراد عام 1973، ثم مرّوا بحرب الثمان سنوات ضد إيران (1980-1988). ثم شنّوا حرباً ضدّ الكويت واحتلّوها عام 1990. ولم تنهِ حرب إلا لتلد غيرها. وآخر مواليدها، حرب داهمة على أعتاب تكريت نفسها، فالقوات الحكومية والحشد الشعبي يحاصرانها من كل جانب للقضاء على تنظيم "داعش" الذي سيطر عليها منذ تموز عام 2014. كان أبناء تكريت قادة حروب لنحو أربعة عقود من تاريخ العراق الحديث، واللوم غالباً ما يقع على عاتق القادة، برغم آلاف وملايين المؤيّدين.
الى جانب الصعود اللافت لأبناء تكريت في التنظيمات القومية وغيرها، يلاحظ ان النواة الاولى لحركة الاخوان المسلمين في العراق انطلقت من تكريت ونواحيها، ومع ذلك، يبدو من الصعب تفسير الميل الاستثنائي للتكارتة الى السياسة، مثلما يبدو كذلك، الصعود العاصف لهم في سماء السياسة العراقية المعاصرة. كان الهوس بالسياسة والصراعات علامة مميزة لساسة تكريت، وأثبتت سيرتهم السياسية على امتداد العقود الاخيرة عنايتهم بالصراع والحروب أكثر من عنايتهم بالبناء والتطوّر، تؤكّد ذلك إحصاءات وزارة التربية العراقية الحديثة التي تشير الى ان محافظة صلاح الدين، معقل الرؤساء والقادة في عهد البعث، تحتل المركز الاول في المحافظات العراقية في وجود المدارس (الطينية) المشيّدة باللبن.
بعد عام 2003
&
تراجع نفوذ التكارتة بعد 2003، في محافظة صلاح الدين والعراق عموماً، وصعد بدلاً عنهم نظراؤهم أبناء عشيرة الجبور الذين تصدّروا مشهد المدينة، ودخلوا في تسوية سياسية مع القوات الاميركية التي دخلت المدينة عام 2003. يقول مروان جبارة الجبوري: لـ"النهار"، "لم يكن الجبور على علاقة جيّدة برجالات السياسة من تكريت قبل 2003، لأسباب مختلفة، وبعد مجيء الأميركان بادرنا إلى أخذ زمام الامور في محافظة صلاح الدين، وسارت الامور بشكل طبيعي وشغل والدي منصب أول رئيس لمجلس المحافظة".
السير الطبيعي للأمور في صلاح الدين منذ بداية الاحتلال الاميركي، عزّزته سنوات من الهدوء النسبي في المدينة، وعلى عكس محافظات الأنبار والموصل المحاذيتين اللتين شكّلتا حواضن طبيعية لتنظيم "القاعدة"، لم تُظهر صلاح الدين ميلاً واضحاً لـ"القاعدة"، بل حورب في وقت مبكر من قبل قوات الصحوات التي تأسّست عام 2007، وكان يعتقد على نطاق واسع، ان صلاح الدين عموماً والتكارتة على وجه الخصوص أدركوا بوقت مبكر ان الذي ذهب من حكم أبنائهم لن يعود أبداً، إدراك ناجم عن خبرة التواجد بالسلطة الطويل التي فقدوها عام 2003. وهم تالياً، بعيدون عن تأثير الحركات المناهضة للحكم الجديد، غير ان سيطرت "داعش" على تكريت عام 2014، ربما بدّد تلك القناعة ومثّل صدمة للكثيرين، غير ان السياسات الخاطئة التي ارتكبتها حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي كانت عوامل مهمة وساعدت باختراق "داعش".
&
يحلو لكثيرين، وهم يفكّرون بجنود الحشد الشعبي الشيعية التي تقاتل "داعش" في تكريت ونواحيها، التفكير بمقولة" لا شيعة بعد اليوم" التي كتبها جنود الحرس الرئاسي الخاص لصدام حسين على مدرّعاتهم ودبّاباتهم أثناء توجّههم إلى تحرير محافظة كربلاء التي أسقطها "غوغاء" الثوار في آذار 1991 . ويتصوّر البعض، ان الشيعة وهم يقاتلون اليوم في تكريت مدفوعين بضغينة ذلك الشعار. غير أن الأنباء الواردة من تكريت وناحية العلم وقضاء الدور، تؤكد ان الجنود الشيعة لم يرفعوا شعار "لا سنّة بعد اليوم"، وأنهم يؤدّون الى جانب قوات الجيش والشرطة مهماتهم بانضباط ملحوظ، الامر الذي قد يزيد من فرص نجاحهم. وتفيد آخر الأنباء الواردة من هناك، ان قوات الجيش والحشد الشعبي تطوّق المدينة بشكل عام، و"السيطرة النهائية عليها مسألة وقت" كما قال رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي قبل يومين. ومع ذلك، تبدو الحرب الدائرة في تكريت وضواحيها محاطة بالكثير من تعقيدات السياسة والتاريخ والعقيدة، والتحدّي الأكبر الذي يواجه الجميع هو تخطّيها.
&