ما وراء الاتفاق النووي الإيراني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سعود البلوي
لا ضامن اليوم للدول إلا شعوبها، وهذا يستلزم عمليات إصلاح شاملة وسريعة على مستويات عدة، أولها التعليم والثقافة، والحريات العامة، ومؤسسات المجتمع المدني، والبنى التحتية والخدمات العامة، ومحاربة الفساد
&
بعد مفاوضات طويلة توصلت الدول الغربية "5+1" وإيران إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، والذي يتلخص في تفتيش ومراقبة المنشآت النووية الإيرانية، وخفض أجهزة الطرد المركزية لتخصيب اليورانيوم، مقابل الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، عبر برنامج زمني تدريجي يستمر عشر سنوات، ستعود إيران بموجبه إلى إنتاج النفط بأقصى طاقتها، والحصول على أموالها المجمدة، وفتح مجالاتها الاستثمارية أمام العالم، والعودة إلى المجتمع الدولي.
ويمكن القول إن هذا الاتفاق هو الإنجاز الوحيد في جعبة الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي سعى إلى تحقيقه بكل قوته، وعلى الرغم مما يحمله الاتفاق من اعتراف ضمني بإيران كقوة نووية يقلق الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة وفي مقدمتهم المملكة؛ لما لإيران من أدوار وأطماع وخطط وتدخلات في الشرق الأوسط، وفق مبدأ تصدير "الثورة"، توافق ذلك مع الرغبة الأميركية المستقبلية بالتخلي تدريجيا عن الشرق الأوسط-مع التعهد بحماية أمن إسرائيل- الأمر الذي ربما يسمح للجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تكون القوة الإقليمية مطلقة اليد في المنطقة، على الرغم من كل خططها وبرامجها التوسعية.
لكن لا بد من القول إن إيران استطاعت طوال ثلاثة عقود مواجهة كل الضغوطات الظاهرة ومقاومتها، إلا أن تصوير إنجاز هذا الاتفاق على أنه انتصار أمر مريب، إذ يدعي الطرف الغربي أنه انتصر، ويدعي الطرف الإيراني الدعوى ذاتها!
الواضح من هذا الاتفاق هو إنهاء مرحلة من العداء وبدء مرحلة جديدة من التقارب والتركيز على بناء المصالح المشتركة خلال السنوات العشر المقبلة على أقل تقدير، على الرغم من أنه من المتوقع تحوّل إيران والولايات المتحدة إلى حليفتين، كما كانا في السابق زمن الشاه، وبالتالي تغير موازين القوى والتحالفات في العالم، وفق لعبة تبادل الأدوار، تحسبا للتغيرات الكبرى خلال العقد المقبل الذي ستكون فيه منطقة الشرق الأوسط على محك الوجود؛ لأن الولايات المتحدة كانت تستعد أصلا منذ بداية الألفية الثالثة بعد كارثة11 سبتمبر إلى تسليم المنطقة برمتها إلى إيران لتعود شرطيا للخليج كما كانت، في ظل الخرائط الجديدة والتكوينات الجديدة التي بدأت تتشكل بفعل ما سمي بـ"الفوضى الخلاقة".
من هنا، كانت الدعوات إلى البحث عن تحالفات جديدة وفق مصالح جديدة، خاصة للدول المرتبطة بالولايات المتحدة تاريخيا، لأنه لا يخفى أن الولايات المتحدة تتخلى عن حلفائها بسهولة، وفق سياسة "الليمونة المعصورة" وهو مبدأ "براغماتي" بحت مرتبط بالمصلحة بالدرجة الأولى، وقد سبق أن تخلت الولايات المتحدة عن أهم حليف لها في المنطقة وهو "الشاه محمد رضا بهلوي" بعد نصف قرن قضاها على عرش إيران خلفا لوالده، على عكس روسيا التي لم يثبت تاريخيا أنها تخلت عن حلفائها، بل إنها تقف وراءهم بكل قوة ما أمكنها ذلك، ولنا في مصر عبدالناصر بالأمس مثال واضح، وكذلك في سورية الأسد اليوم مثال أوضح، إذ عاشت أتعس أيامها خلال الربيع العربي.
ربما لم يسعف الوقت العرب اليوم للالتفات إلى شعوبهم، ولكن لا ضامن اليوم للدول إلا شعوبها، وهذا يستلزم عمليات إصلاح شاملة وسريعة على مستويات عدة، أولها التعليم والثقافة، والحريات العامة، ومؤسسات المجتمع المدني، والبنى التحتية والخدمات العامة، ومحاربة الفساد، وسن القوانين وتطبيقها أمام أي محاولات اختراق فردي أو اجتماعي، وتحجيم المد الديني المتطرف، خاصة أن الدول العربية بدأت تخوض حروبا على جبهات عدة، في مقدمتها الحرب ضد "الإرهاب" الذي يهدد الجميع بالدمار.
لا ننسى أن نظام "الثورة" في إيران قد ورث دولة مدنية قوية، كانت المفاعلات فيها منذ خمسينات القرن الماضي، وهي اليوم تعود إلى الاهتمام في داخلها ومجتمعها بعد ثلاثة عقود ونصف، ولا سبيل أمامها إلا التركيز على استقرار المنطقة إن كانت تريد استقرارا لها على المدى البعيد، فحضارة الشرق جديرة بأن تصان، خاصة في ظل لعبة "الدوائر" التي تدور على دول العالم الثالث، كما في أفغانستان التي دُمرت تماما على مدى 30 سنة، وها هي اليوم تحاول التعافي والعودة رغم كل الجراح، ولذلك فإن دخول المنطقة في سباق تسلح جديد ليس من صالح الجميع، وهو إهدار للطاقة والوقت والجهد والمال، ويبدو أن إيران اليوم وعت هذا الدرس، وهي اليوم تعيش حالة من الفرح بتأجيل مشروعها الضاغط والشاق.
&