جريدة الجرائد

المراسلون

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سمير عطا الله  

 يمر المرء بالأعوام والأحلام، حيث لكل عام حلمه. ولا أستطيع أن أتذكر عدد الأحلام التي دخلت فيها، وخرجت منها، والحلم لا يزال حلمًا. في بداية الشباب، كنت أحب أن أكون شاعرًا، ولا شيء آخر. ثم حلمت بأن أكون سائق سيارة سباق بسبب هَوَسي بالسيارات في ذلك العمر، لكن حظي من البطولة كان ما معدله ثماني حوادث في العام على الأقل. وعندما تولّعت بالموسيقى الكلاسيكية، رحت أحلم بأن أمضي العمر عازفًا على كمان حزين في البرية، أو على ضفاف البحيرات. ولما جرّبت بضع آلات موسيقية، تبيّن لي أنني أقرب إلى هدير الدبابات منّي إلى سطوح البحيرات الهادئة. وتولّهت بالرسم، وأمضيت فترة لا بأس بها أتمتع بزيارة المتاحف والمعارض. ولما جرّبت مقدرتي على استخدام الريشة وخلط الألوان، كنت أول من أفْزَعَه الأمر.
ولذلك، كنت أخرج دائمًا من الأحلام لأعود إلى الشيء الوحيد الذي قدرت عليه، وهو الكتابة. إلا أن الحلم الأكبر كان العمل مراسلاً في ساحات الأحداث، وربما ساحات الوغى أيضًا، أو حتى العمل مراسلاً من مدينة هادئة مليئة بألوان السياسة والفنون والتحولات الاجتماعية، كما كان حال باريس لفترة طويلة.
ومع أن «النهار» كانت من أوائل الصحف العربية التي خصصت الموازنات من أجل المراسلين في العالم العربي وأوروبا، ومن ثم في الأمم المتحدة وأميركا، فإن اندلاع حرب لبنان، وانهماك القارئ بيوميات المصير، جعلا الصحيفة تنكفئ تمامًا نحو هموم الداخل ومصاعبه. وأصبح من الترف، وأحيانًا من التعدي، أن تكتب للقارئ في ملاجئ بيروت، عن الحركة المسرحية في باريس، أو حتى عن انتخابات المحافظين في بريطانيا.
بسبب هذا الانقطاع ما بين الحلم والمهنة، لم أستطع التكرس للمراسلة من أي مكان، وظل شغفي في القراءات الصحافية متابعة أعمال المراسلين الكبار، سواء من نقاط الغليان أو من هدوء الوصف في أماكن الجمال والحياة. كان جون سيمبسون، كبير مراسلي الـ«بي بي سي»، واحدًا من الذين قرأت جميع أعمالهم ومؤلفاتهم عن هذه المتعة الصحافية التي تتحول غالبًا إلى أعمال أدبية كبرى، كما حصل مثلاً لإرنست همنغواي، أو عشرات المراسلين والمراسلات الذين تحولت رسائلهم إلى أعمال أشبه بالرواية والشعر والسرد التاريخي.
عنوان جون سيمبسون الأخير هو «عالم المراسل الخارجي»، في نحو أربعمائة صفحة. ومثل جميع مؤلفاته الأخرى، يدور السرد حول المشاق التي عاشها وهو يطارد الحدث من العراق إلى صربيا إلى أفغانستان إلى كوبا، إلى ما لا نهاية من مسارح العالم السياسية والحربية. هذه المرة يؤرخ سيمبسون أيضًا لأعمال أشهر المراسلين منذ بداية القرن الماضي، الذين كان أكثرهم شهرة رجل يدعى ونستون تشرشل. يعمل المراسلون في الظروف والمحن الصعبة مثل فرقة واحدة من الجنود تواجه حالة الحصار والموت. ورغم طبيعة المنافسة فيما بينهم، يتحدون مثل عائلة واحدة، ويتقاسمون معلومات السلامة والطعام القليل، وآلات التصوير وآلات الإضاءة، والخوف، وأحيانًا تحقق المخاوف.
طالما اتُّهم المراسلون بالمبالغات أو التخيل، ولكن عندما نقرأ نصوصهم بعد حين نكتشف أنه لم يتوافر لهم الوقت الكافي لسرد جزء قليل من الحقائق؛ إنها التجارب الإنسانية التي تحولت أحيانًا إلى روايات في حجم نوبل، وأحيانًا بقيت في الظل أو في أرشيف الصحف البسيطة التي لم تكن أسعد حظًا.

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف