محمد الفيصل جبل الجليد الذي ارتوينا بفكره
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فواز العلمي
لم يكن لدى الراحل محمد الفيصل أدنى شك في أن البحوث العلمية والمعرفة التقنية هما الحل الأمثل لسد احتياجاتنا في جميع نواحينا المعيشية، فلم يتوقف يوما عن طموحاته لإيجاد الحلول الناجعة لأزمة الأمن المائي
في يوم السبت الماضي فجع الوطن بوفاة الأمير محمد الفيصل، رجل الاقتصاد الإسلامي، ورائد العلم والمعرفة، وصديق المياه والبيئة. قبل 42 عاما تشرفت بمشاركة سموه، رحمه الله، في أعمال فريق العمل الدولي، الذي شكله لدراسة إمكانية نقل الجبال الجليدية من القطب الجنوبي إلى المملكة لتحقيق أمننا المائي، وتنفيذ أول خطة وطنية طموحة لتوفير الحلول الجذرية لمشاكل المياه في وطننا.
بعد صدور قرار تعيينه محافظا لمؤسسة تحلية المياه المالحة، كان الأمير محمد الفيصل، رحمه الله، يطالبنا بضرورة البحث عن مصادر متجددة للمياه العذبة، مؤكدا بأن كمية هذه المياه في المعمورة لا تمثل سوى 3% من مجمل المياه بكافة أنواعها، وأن 77% منها يتواجد في الجبال الجليدية غير المستغلة. وكان رحمه الله يرأف لحال الفقر المائي في الدول الخليجية، ويتألم لمستقبل شعوبها التي تستهلك 85% من المياه في القطاع الزراعي، و9% في القطاع الصناعي، بينما يذهب 6% منها فقط للاستخدام البشري، مما سيؤدي لزيادة الطلب على المياه مستقبلا في هذه الدول إلى 50 مليار متر مكعب، وهو يمثل اليوم 10 أضعاف ما كان متوفرا قبل نصف قرن.
إضافة إلى ذلك كانت همومه، رحمه الله، نابعة من استشرافه بأن الدول الخليجية سوف تضطر يوما ما لاستهلاك نصف إنتاجها من النفط لسد احتياجات تشغيل محطات التحلية لتأمين المياه العذبة، خاصة أن كمية المياه الجوفية المستهلكة بوتيرة مرتفعة ستنخفض يوما ما، كما هو الواقع في يومنا هذا، بحدود 250% عن منسوبها السابق، لتصل إلى أقل من 10% في عصرنا الحاضر.
وبدأ الفريق الدولي بإعداد بنك من المعلومات عن الجبال الجليدية لحصر أماكن تواجدها، وتقييم كميات المياه العذبة المتوفرة فيها، خاصة أن هذه الجبال تقع في القطب الجنوبي على بعد 14 ألف كيلومتر من الدول الخليجية، وتحتوي على آلاف الكتل الجليدية، التي تساوي مساحة أصغرها مليون متر مربع، ويبلغ ارتفاع معظمها 5000 متر، وتصل أعلى درجة حرارة فيها إلى 10 درجات مئوية تحت الصفر، بينما تنخفض إلى 80 درجة تحت الصفر في قاعها المدفون تحت سطح البحر.
كانت نظرية استغلال الجبال الجليدية نابعة من قناعة الأمير محمد الفيصل، رحمه الله، بحكمة رب العالمين في تسخير هذا المخزون الاستراتيجي من المياه العذبة المتجددة تحت سطح البحار والمحيطات حتى يقوم الإنسان باستخدام عقله وفكره وعلمه لاستخراج هذه المياه من هذا المخزون عند الحاجة إليه، خاصة أن الجزء الأكبر من هذه الجبال، الذي يشكل الغالبية العظمى من المياه العذبة في العالم، يختفي تحت سطح البحر بكميات تتراوح بين 90% في القطب الجنوبي و8% في القطب الشمالي، والباقي في جزيرة "جرينلاند" ودولة "أيسلندا".
وفي منتصف عام 1977 رأس الأمير محمد الفيصل، رحمه الله، فريقنا للمشاركة في المؤتمر الدولي المنعقد عن أهمية الجبال الجليدية في مدينة "إيمز" بولاية "أيوا" الأميركية، وحضره حوالي 200 عالم من علماء وخبراء العالم، الذين يمثلون 20 دولة، لدراسة إمكانية نقل الجبال الجليدية من القطبين الشمالي والجنوبي إلى المناطق التي تعاني من الفقر المائي ومنها المملكة.
خلال أسبوع واحد زادت قناعتنا بأن القطب الجنوبي يعتبر أفضل موقع للجبال الجليدية، لكونها تنفصل عن الغطاء الجليدي للقارة القطبية ليصل أقصى أطوالها إلى 320 كيلومترا، وبعرض يساوي 97 كيلومترا، بينما تشكل الجبال الجليدية في القطب الشمالي كتلة ضخمة من الجليد المليء بالشقوق لتتفاعل مع أمواج البحر وتنفصل عن جزيرة القطب لتسقط في البحر.
في هذا المؤتمر أقر العلماء والخبراء بحنكة الأمير محمد الفيصل وبعد نظره، حيث أكدت الدراسات العلمية والاقتصادية الصادرة عن المؤتمر إمكانية نقل الجبال الجليدية إلى البحر الأحمر، وقدرتها الاقتصادية على تحقيق الأمن المائي للمملكة بتكلفة تقل بنحو 300% عن تكلفة محطات التحلية واستهلاك الوقود في ذلك الوقت، إضافة إلى أن بيئة البحر الأحمر ستتأثر إيجابا ببرودة الجبال الجليدية المتواجدة لتنخفض درة الحرارة في منطقة جدة بحدود 10 درجات مئوية.
أثناء المؤتمر تدارسنا مع الخبراء طرق نقل هذه الجبال الجليدية إلى البحر الأحمر، وتوصلنا إلى أن مدة النقل من القطب الجنوبي قد تستغرق 12 شهرا وتحتاج إلى جرارات ضخمة ومتخصصة في السحب، قدرة كل واحد منها حوالي 1500 حصان، ليتم سحب الجبل الجليدي بسرعة تساوي حوالي كيلومترين في الساعة، خاصة أن وزنه يتراوح بين 100 مليون و1000 مليون طن.
لم يكن لدى الأمير محمد الفيصل، رحمه الله، أدنى شك في أن البحوث العلمية والمعرفة التقنية هي الحل الأمثل لسد احتياجاتنا في جميع نواحينا المعيشية، فلم يتوقف يوما عن طموحاته لإيجاد الحلول الناجعة لأزمة الأمن المائي في الدول الخليجية، وطالبنا بمتابعة مساعيه الخيرة والاستمرار في التحلي بالعلم والبحث والابتكار لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة، بل قام شخصيا في منتصف عام 1979 نيابة عن مؤسسة الملك فيصل الخيرية، بالاستثمار في مشروع الطاقة النووية الاندماجية، المكتشفة حديثا في ذلك الوقت، لاستخدامها في تشغيل محطات التحلية وتوليد الكهرباء، وسخر ماله وجهده في متابعة كافة التقنيات الحديثة لنقل فوائدها للمملكة والاستفادة منها في كافة المجالات.
رحم الله الأمير محمد الفيصل...جبل الجليد الذي ارتوينا بفكره وعلمه وطموحاته.