إيران: طبيعة النظام وحسابات المصلحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إياد أبو شقرا
مثير أن يتزامن وصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الرياض في أول زيارة خارجية رسمية بعد تولّيه المنصب، مع احتفاظ الرئيس الإيراني حسن روحاني بمنصبه إثر فوز مريح في الانتخابات الرئاسية على منافسه إبراهيم رئيسي، الذي يعتبره خبراء مرشح أصحاب السلطة الفعلية لمنصب «المرشد».
من دون أن يجنح المتابع إلى «نظرية المؤامرة»، أزعم أنه كان من مصلحة الحكم الإيراني اعتماد مقاربة حصيفة للسياسات الداخلية والخارجية في أعقاب تغيّر القيادة في واشنطن.
نُخب هذا الحكم قد تكون متطرّفة في عدائها للعرب وللغرب، لكنها ليست كلها غبيّة. بل العكس صحيح، إذ ثمة أذكياء ومثقفون كُثر في هرم السلطة الإيرانية يجيدون التكتيك السياسي ويفهمون الحدود المأمونة للمغامرة والعداء. وبالتالي، هؤلاء لا يتردّدون في الانحناء أمام العاصفة عندما تهبّ. واليوم، بعدما غادر باراك أوباما البيت الأبيض، حاملاً معه كل تصوّراته لمنطقة الشرق الأوسط، جاءت قيادة جمهورية أقل اقتناعاً منه بـ«اعتدال» الحكم الإيراني، وأكثر شكاً بأن سياسة التحريض المذهبي والتدخّل العسكري، بل والهيمنة المباشرة التي يعتمدها في العالم العربي... هي الوسيلة المُثلى لمكافحة الإرهاب.
وهكذا، مع نهاية شهر العسل الأميركي الإيراني، وظهور بوادر التغيير بدءاً من الساحة السورية، كان لا بد لـ«مطبخ» السياسة الإيرانية من أن يوازن بين «جناحي» السلطة اللذين هما عملياً وجهان لعملة واحدة. وفي هذا السياق«رُتِّب» أمر اختيار المرشحين الستة النهائيين، بينما رُدّت طلبات ترشيح آخرين بمن فيهم محمود أحمدي نجاد رئيس الجمهورية السابق لولايتين اثنتين!
مفهوم أن «المرشد» في إيران يظل صاحب القرار الأول والأخير مهما حاولت «ماكينة العلاقات العامة» ترويج صورة الديمقراطية. ومركزية «المرشد» حقيقة لا يتحدّاها حتى المرشحان اللذان وصفا بـ«الإصلاحيين» روحاني ونائبه محسن جهانغيري.
ثم، لو كان في الأمر محاسبة شعبيّة جدّية على أداء الرئيس ونائبه طيلة السنوات الأربع الأخيرة، لما كان روحاني يجرؤ على إثارة ملفّات الفساد ويظهر بمظهر المدافع عن حقوق الفقراء، كما فعل خلال المناظرات التلفزيونية عندما أطلق كلاماً حاداً عن الأزمة الاقتصادية والبطالة والمشاكل الاجتماعية والمعيشية الأخرى. لكن البديهي أن كلام روحاني كان موجهاً إلى مرشّحي «الحرس الثوري» الذي يبقى بمؤسساته ومصالحه وشبكاته المالية ركيزة النظام الأمنية وقوته الضاربة. وعليه، فالحملة الانتخابية كانت، كحال «الديمقراطية الإيرانية»، إشكالية ومتناقضة مع نفسها، لأن الرئيس غير حاكم... والحاكم الفعلي ليس رئيساً ولا هو مرشح للانتخاب.
مع هذا، يجب الاعتراف بنضج التجربة السياسية الإيرانية منذ 1979 وبروز ظواهر «براغماتية» مثل علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، ولاحقاً، حسن روحاني، تتقن اعتماد أسلوب «خطوات إلى الأمام وخطوة إلى الوراء». وفي حين يبقى «المحافظون» المتشدّدون القوة الأكثر فعالية وحضوراً في بنية النظام والأصدق تعبيراً عن معدنه، فالذين يوصَفون بـ«الإصلاحيين» و«المعتدلين» هم الأقرب إلى نبض شارع لا يؤمن ملايين من جيله الجديد بأولويات أهل النظام.
أصلاً، منذ السنوات الأولى للثورة الإيرانية «أكلت» هذه الثورة المئات بل الآلاف من قادتها وأبنائها. وزير الخارجية صادق قطب زادة أُعدمَ رمياً بالرصاص، ورئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر فرَّ عائداً إلى فرنسا ليعيش لاجئاً بعد تخوينه. ولا حاجة للتذكير بما حدث لآية الله محمد كاظم شريعتمداري وآية الله حسين منتظري، ثم خلال السنوات القليلة الفائتة أسلوب التعامل مع«الحركة الخضراء» رئيس الوزراء السابق مير حسن موسوي ورئيس البرلمان السابق مهدي كرّوبي.
الحقيقة أن غالبية الناخبين الإيرانيين لا تتذكر ولا يهمها إرث العداء للأسرة البهلوية ولممارسات «السافاك»، وبخاصة أن شباب إيران ممن هم دون سن الثلاثين يشكلون أكثر من 70 في المائة من السكان.
معظم هؤلاء ليسوا أسرى الذاكرة بل هم حالمون بالمستقبل، ومن حقهم أن يحلموا. من حقهم أن يحلموا بفرص عمل. بقطاع تعليمي أفضل. بمرافق فعّالة لتكرير النفط في إحدى أغنى دول العالم بالنفط. وأيضاً، من حقهم أن يعيشوا بسلام مع جيرانهم وكذلك أبناء وطنهم، بدلاً من أن يقاتلوهم بعد أن «يشيطنوهم» ويكفّروهم.
وهكذا، في مفارقة تناقض منطق المحاسبة في الديمقراطيات الحقيقية، يأتي التجديد لرئيس جمهورية كـ«تصويت اعتراضي» على السلطة الفعلية... لا تزكية لها ولمنطقها. فمعظم الأصوات التي صبّت في الصناديق لروحاني ما كانت معه بقدر ما كانت ضد القوى المنافسة له وهي «المرشد» و«الحرس الثوري» ودولتهما العميقة، حتى وإن كان روحاني ابن هذه الدولة العميقة ونتاجها...
ماذا الآن؟
السؤال الأول يجب أن يتناول سياسات روحاني في ولايته الرئاسية الثانية، والثانية المستقبل السياسي لمنافسه رئيسي..
الواقع الجديد في الشرق الأوسط كما تجسّده صور ترمب في الرياض، يجب أن يشكل رسالة بليغة لروحاني. وقد يكون مفيداً له أيضاً متابعة التوجّهات الجديدة لواشنطن في «الحلبات» العربية التي اقتحمتها طهران إبان رئاسة أوباما. فما هو واضح حتى الآن أن في صميم أهداف واشنطن فكَّ التحالف الروسي الإيراني، وما لذاك من انعكاسات على المشرق العربي برمّته.
أما عن رئيسي، فهل سيحتفظ بالحد الأدنى من الصدقية لكي يشغل منصب «المرشد» بعد هذه النكسة الانتخابية الساحقة؟ فحتى في الديمقراطيات العرجاء - كحال إيران - من الصعب أن يتولى الحُكم المطلق مَن رفضه الشعب في انتخابات تزعم السلطة أنها كانت نزيهة ومثالية!