الممانعة بأصول... والمقاومة بتواضع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فـــؤاد مطـــر
من قبْل أن يطْلق الجيل العرفاتي خيار المقاومة ويسير على هذا النهج كثيرون من أبناء القضية الفلسطينية المنكوبة ويختلط تبعاً لذلك الحابل الوطني بالنابل الشخصاني...
ومن قبل أن تكشف إيران الخمينية، بعد النهج العرفاتي للمقاومة، عن مشروعها ويبدأ خطابها الثوري بالتركيز على مفردات المقاومة ثم تستتبع ذلك بإنشاء تنظيمات، حيث أمكنها الإنشاء، واضعة برسم الترويج الموضوع الفلسطيني و«الاستكبار الأميركي» بنديْن للمقاومة، ثم تضيف بند الممانعة بعدما أمكنها استمالة النظام البشَّاري في سلة مغريات جعلتْه يغادر السرب العروبي، ويبدأ الرفرفة وسط صقور إيرانية ثم روسية جارحة، وينتهي الأمر بسوريا الرقم الصعب إلى سوريا اللعبة بأيدي قلة من اللاعبين وكثرة من المتلاعبين...
من قبْل الحالتيْن المشار إليهما، كانت هنالك تجربة ممانعة ضمن الأصول واكبَتْها في السياق نفسه تجربة مقاومة بتواضع.
وحيث إن الأمة تعيش تحت وطأة الممانعة غير المستندة إلى الحكمة والحنكة ومراعاة الأحوال العامة، والمقاومة المتشاوفة حيث الجانب الاستعراضي يغلب على التواضع، فإن استحضار حالة الممانعة الرصينة والمبدئية والفاعلة التي حدثت في الخمسينات وحالة المقاومة بتواضع التي واكبتَها يبدو ومن باب المقارنة أمثولة ينطبق عليها القول الطيِّب «ما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار».
كان ذلك في الخمسينات وتحديداً بعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر يوم 26 يوليو (تموز) 1956 تأميم قناة السويس. وفي الوقت الذي كانت بريطانيا أنطوني إيدن ترغي وتزيد وتهدد مصر بالويل والثبور وعظائم الأمور، مستندة إلى تناغم في الموقف معها من جانب فرنسا غي موليه وإسرائيل ديفيد بن غوريون الجاهزة للعدوان، كانت للملك سعود بن عبد العزيز وقفة دعْم سياسية ومالية، وكان ثلاثة من الأشقاء الأمراء فهد (وزير التربية) وتركي (نائب وزير الدفاع) وسلمان (أمير الرياض) وعبد الله الفيصل ابن عمهم يبادرون إلى التطوع في صفوف المقاومة التي دعا إليها عبد الناصر للدفاع عن مصر في حال حدث العدوان الثلاثي الذي بدأ يتزايد التوقع له. ومن دون أي تحفيز خلع الأمراء الأربعة وآخرون من أبناء المملكة العباءة والشماغ وارتدوا ثياب المقاومين، وتلقوا التعليمات التي تحدد لهم الموقع والواجب ونوع السلاح والمرؤوس وأهداف العمليات المحتملة الحدوث. وبكل تواضْع ومن دون الإكثار من الكلام والتهديدات والادعاءات جرى ذلك.
وفي المملكة كان الملك سعود وبالعفوية نفسها يسجل وقفة ممانعة كاملة الأصول، فهو ومن دون إسقاط علاقة المملكة بدول الغرب وفي الوقت نفسه تسجيل موقف مستمد من روحية وصية والده عندما اختاره ولياً للعهد «ينبغي ألاَّ تأخذك في الله لومة لائم، فلا يصح مع الله إلاَّ الصدق، وعليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة»، أعلن أن تأميم قناة السويس «قرار لمصلحة مصر والعرب» وبذلك كان أول المؤيدين للخطوة. ثم كان لا بد مِن إبلاغ الصديق الأميركي بهذه الوقفة. وحيث إنه في ذلك الزمن (قبل 61 سنة) لا فضائيات تبث بالصوت والصورة مضامين المواقف، فإن الملك سعود قال ما يريد قوله من خلال مقابلة مع إذاعة أميركية. وكان كلامه كلام الممانع بأصول. ومما قاله بغرض أن يتبلغه الصديق الأميركي فيضغط الرئيس آيزنهاور على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إن «التأميم مسألة داخلية مصرية وحق من الحقوق المشروعة لمصر، ما دامت ضمنت حرية الملاحة في قناة السويس». ثم يكرر الكلام نفسه أمام مبعوث للرئيس آيزنهاور، مشدداً على أن قضية تأميم قناة السويس «هي قضيتنا جميعاً». ثم يُتبع هذه الوقفة بالإعلان عن أن السفير السعودي لدى الولايات المتحدة أبدى استعداد المملكة لتزويد سفارات مصر في باريس ولندن وواشنطن بما تحتاجه من دعم مادي. ومن الجائز الافتراض أن الخطوتيْن اللتيْن اتخذتْهما السعودية وهما الوقفة المتنوعة الدواعي من جانب الملك والتي هي وقفة ممانعة والتطوع في المقاومة من جانب ثلاثة أشقاء وابن عمهم وهذا له مدلوله، استوقفتا ملياً إدارة الرئيس آيزنهاور الذي كان موقفه لاحقاً على درجة من التجاوب مع الممانعة السعودية.
وإلى ذلك أوفد الملك سعود إلى الرئيس جمال عبد الناصر مبعوثه الشخصي الشيخ يوسف ياسين ليسمع منه ما تريده مصر، وأرفق المهمة بالإبلاغ أن الملك وجَّه بوضع مبلغ عشرة ملايين دولار لزيادة رصيد مصر من العملات الأجنبية، تسهيلاً لعمليات التجارة الخارجية ولمواجهة الضغوط الاقتصادية المفروضة عليها من الدول الرافضة قرار التأميم. وهذا المبلغ قبل 61 سنة، وحيث لم تكن حدثت الطفرة النفطية، بأهمية مليار دولار في الزمن الحالي، وبأهمية وقفات متتابعة مع مصر عبد الفتاح السيسي من الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، ثم من أخيه الملك سلمان.
وعندما بدأ العدوان الثلاثي اتصل الملك سعود هاتفياً بالرئيس عبد الناصر، وكان أعلن التعبئة العامة في المملكة، ليقول له إن «المملكة حكومة وشعباً جاهزة لتقديم كل ما تطلبه مصر» ثم ألحق الاتصال الهاتفي ببرقية قال فيها: «إننا وقواتنا وكل إمكانياتنا حاضرون للمقاومة لرد العدوان فعلى الباغي تدور الدوائر...».
وفي خطوة لاحقة وجَّه الملك بقطْع العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع بريطانيا وفرنسا، ومنْع الطائرات المدنية الفرنسية والبريطانية من الطيران في الأجواء السعودية، وإيقاف شحْن النفط إلى الدولتيْن، وكذلك إيقاف ضخ النفط لمعامل التكرير في البحرين التي كانت زمنذاك تحت الحماية البريطانية. وأما بالنسبة إلى إسرائيل ثالثة دول العدوان فإن المملكة هددت بتأميم حقول النفط الأميركية، في حال واصلت أميركا دعمها اقتصادياً وعسكرياً لإسرائيل.
يبقى ونحن نستحضر هاتيْن الوقفتيْن من جانب السعودية، نشير إلى أن مشاعر عبد الناصر نحو المملكة، وكان ما زال رجل الظل في ثورة 23 يوليو 1952 مرؤوساً من اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية، كانت أيضاً حاضرة في الوقت الذي كان الملك سعود يتخذ كممانع وقفة التأييد، ويتطوع الأمراء الأربعة مع آخرين كمقاومين إلى جانب إخوانهم المصريين الذين تطوعوا في كتائب المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثي. فقد حدث أن الرئيس محمد نجيب وكانت ثورة يوليو ما زالت في بداية النصف الثاني، أوفد نائبه البكباشي جمال عبد الناصر (نائب رئيس الوزراء) إلى الرياض لتقديم واجب العزاء بوفاة الملك عبد العزيز. ويومها قال عبد الناصر للملك سعود كلاماً ينطبق على الحالة المستجدة في الصف الخليجي نتيجة للتغريد القطري مرة ثانية خارج سرب أشقاء التعاون. لقد أكد الملك لزائره عبد الناصر الضابط الشاب ابن الخامسة والثلاثين: «إني سأفعل كل ما في وسعي لكي تكون الجامعة العربية أداة فعَّالة للتعاون بين بلاد العرب، وأنا مستعد أن أقوم بأي شيء في سبيل رفعة العرب». أما عبد الناصر فجاء رده كالآتي إن «الأراضي المقدسة هي البلاد التي تجمع المسلمين في إطار الوحدة الروحية مهما تباعدت أقطارهم، ونحن المصريين يهمنا كل جهد تقوم به جلالتكم وسوف تجد منا إخلاصاً مندفعاً لا يدفعنا إليه إلاّ اعتزازنا بالمملكة السعودية واعتزازنا بالعالم الإسلامي كله. ونحن في مصر نؤمن بمستقبل هائل إذا تعاون العرب على أن لا تكون المجاملات أساس العلاقات بيننا، وإنما يجب أن تكون الصراحة ذلك الأساس. وبالنسبة إلى فلسطين فإننا كعرب لم ندرك في كثير من الظروف الفرق بين الكلام والعمل. وأنا شخصياً أفضِّل أن نجتمع ونختلف في الرأي ويصارح بعضنا بعضاً بما بيننا من خلاف، فذلك خير لنا ألف مرة من أن نجتمع ويجامل بعضنا بعضاً في الظاهر بينما في قلوبنا خلاف دفين، ثم نتعاهد فيما بيننا على شيء وكل منا في قرارة نفسه يعلم أنه لن يفي بشيء مما وعد. وإنني أعتقد أننا لو فعلنا ذلك فسوف نضيع بلداً بلداً كما ضاعت فلسطين...». هذا الاستحضار برسم الشيخ تميم هداه الله.
نخلص إلى القول إنه عندما كان فهد وتركي وسلمان وعبد الله الفيصل ينتسبون وبكل تواضع إلى حركة المقاومة الشعبية لمواجهة تداعيات العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، كان السيد حسن نصر الله طفلاً يحبو في الرابعة من العمر. وكان ياسر عرفات في السابعة والعشرين ولم يجد الطريق نحو المقاومة. أما الرئيس بشَّار الأسد الذي تلتف المقاومة الإيرانية المنشأ والغرض عليه والمستَبدِل بمستقبل سوريا وطمأنينة شعبها ما انتهت إليه الأحوال المأساوية، فكان لم يولد بعد (مواليد 1965). كما أن معظم حَمَلة رايات المقاومة والممانعة كانوا أطفالاً، بينما كان كبير الأشقاء الثلاثة فهد في الخامسة والثلاثين وتركي في الرابعة والعشرين وسلمان في العشرين. ثلاثة شبان أمراء أشقاء يعتبرون المقاومة فِعْل إيمان وضمير وتواضع وليست فِعْل تكسُّب مكانة. ولأنهم كذلك فإن سعيهم مشكور من قضية فلسطين الحاضرة في وجدان كل منهم بتواضع من دون تشاوُف. أليس الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو القائل «إن الله قد أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفتخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد». هذا القول الطيِّب برسم السيد حسن نصر الله..