الجذور الفكرية لدعوى تدويل الحرمين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمد السعيدي
الطابع العلماني الذي اصطبغت به الدولة العثمانية جعلها غير مؤهلة في نظر رعيتها أو في نظر المسلمين خارج نطاق حدودها للقيام بمسؤولياتها الدينية ومنها خدمة الحرمين
يظن الكثيرون أن الدعوة إلى تدويل الحرمين ليست سوى حماقة تدلي بها دولة ملالي إيران بين الحين والآخر، وربما ارتكبت أو أسهمت في ارتكاب بعض الجرائم في مكة المكرمة والمشاعر المعظمة من أجل تبرير هذه
الدعوة إعلاميا، كما حصل في عدد من مواسم الحج، وربما طار بهذه الفكرة بعض من جمع بين السفاهة والحقد من الكتاب العرب أو المسلمين المنتسبين إلى السنة، أو العاملين ضمن الطوابير الخامسة الإيرانية، والحقيقة أنها ليست جديدة، وليست إيرانية المنشأ، وما النظام الصفوي المعاصر سوى آلة بيد الملاك الأصليين لهذه الفكرة الخبيثة.
الجذور الفكرية لهذه الدعوة ماسونية ابتدأت مع المشروع العملي الأوروبي لإسقاط الدولة العثمانية التي كان سلاطينها يحملون لقب خادم الحرمين الشريفين ويستمدون مشروعيتهم من واجب حمايتهما ومن توحيد أقطار المسلمين تحت شعار الخلافة وإقامة الشريعة الإسلامية.
ومع الملاحظات الكثيرة على صحة مسلك الدولة العثمانية وحقيقة قيامها بما تَحَمَّلَتْه من واجبات إلا أن بقاءها مع إصلاحها من الداخل كان الخيار الأمثل والأنفع للأمة الإسلامية، وكانت إزالتُها وتقسيم أقطارها الخيارَ الأمثل للأمم الأوروبية.
وقد وعى ذلك جيدا الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ولهذا لما تم له النصر على الجيش العثماني المكون من ثمانية طوابير واثني عشر مدفعا في موقعة الشنانة سنة 1322 قام بمساعدة الجنود الأتراك للوصول إلى المدينة المنورة سالمين، وتمت المفاوضة بينه وبين مبعوثي السلطان عبدالحميد وانتهت بتفنيد دعاوى الذين يخوفون الإدارة العثمانية من تجديد قيام الدولة السعودية، كما تم الإعلان عن ولاء عبدالعزيز للدولة العثمانية وقبول لقب الباشا، وفي عام 1332 بعد خلع السلطان عبدالحميد وتولي حزب الاتحاد والترقي أمور السلطنة، أرسل الملك عبدالعزيز نصيحة للدولة العثمانية كي تستعيد قوتها في البلاد العربية، إلا أن هذه النصيحة رُفضت، وفي عام 1334 دعم الملك عبدالعزيز الجيش العثماني في محاولته تحرير قناة السويس من الاحتلال البريطاني بأربعة عشر ألف جمل كما اعترف بذلك جمال باشا في مذكراته، هذا مع انقلاب حزب الاتحاد والترقي على مواثيق السلطان عبدالحميد مع الملك عبدالعزيز، إلا أن حقيقة أهمية بقاء الدولة العثمانية كانت ماثلة أمامه، فآثر الوقوف معها على تذكر خصومته مع الحزب، ويقينه -رحمه الله- بحرص الأوروبيين على إسقاطها من أجل احتلال بلاد المسلمين هو ما حصل بالفعل.
والحقيقة أن مساعي الكثير من المصلحين سوى الملك عبدالعزيز لإنقاذ الدولة العثمانية لم تكن لتجدي، فقد كانت خطط تفتيتها في نهاية مراحل إنجازها.
وهناك عوامل عديدة لانهدام الدولة العثمانية أَقتصر منها هنا على ما يخدم موضوع هذا المقال، وهما عاملان فكريان:
الأول: دعم نفوذ الاتجاه العلماني في الدولة ومساعدة المثقفين من حامليه على الوصول لمراكز اتخاذ القرار في إسطنبول والولايات العثمانية، وهذا التغلغل العلماني أدى إلى تمرير قرارات أو التغاضي عن تصرفات تتنافى مع المفترض في طبيعة الدولة العثمانية كدولة خلافة خادمة للحرمين الشريفين، ثم تقوم الصحافة ذات الطابع العلماني بالترويج لهذه القرارات على هيئة الإشادة بها، ومن هذه الأنظمة ما كان في الجانب الأخلاقي ومنها ما كان في جانب الإدارة العامة للمؤسسات المدنية والعسكرية والعلاقات الخارجية، الأمر الذي أدى إلى شعور ظل يتنامى تدريجيا لدى الشعوب العثمانية بالانفصام بين واقع الدولة وأصولها الفكرية التي كانت السبب الرئيس في محبتهم لها وصبرهم على طبيعتها الاستبدادية وضرائبها التعسفية، وبالتالي كان شعور الشعوب العثمانية بهجران دولتهم لتلك الأصول سببا رئيسا لضعف حماسهم لها، وشعورهم بأنها لم تعد مؤهلة للاستمرار في مناصبها الدينية، واستعدادهم الذهني لتقبل كل الإشاعات التي كانت الصحف المعارضة تطلقها ضد الدولة وأركانها، حتى إن عالما كالشيخ رشيد رضى لم يستطع -مع تزاحم هذه الإشاعات- تقبل شخصية السلطان عبدالحميد كرجل إصلاح وتجديد، وبقي يصفه بما تصفه به الصحافة المصرية -وكانت مصر آنذاك تحت الاحتلال البريطاني- من فساد وسوء سلوك، والحقيقة: أن عبدالحميد كان رجل إصلاح من الطراز الأول، إلا أنه تولى في فترة كان العلمانيون قد أخذوا فيها مقاعدهم بشكل جعل خلع السلطان أهون من إزالة أحدهم، وهذا ما حدث فعلا، فقد تم إجبار السلطان على توقيع الدستور العلماني سنة 1328 ثم خلعه سنة 1329 واستمر حزب الاتحاد والترقي في إدارة البلاد إلى أن كان زوالها على يد منتسبيه من الضباط بعد ذلك بسنوات قلائل.
وقد وصل العلمانيون العثمانيون إلى فكرة الدستور العلماني بعد تجارب عديدة استطاعوا عبرها التوطيد لدى النخب لاطّراح الأساس التشريعي للدولة، كالمشروع الوطني عبر جمعية تركيا الفتاة وجمعية الوطن والحرية ثم المشروع القومي عبر الحركة الطورانية التي تسربت أفكارها من بعد إعلان الدستور إلى النخبة الاتحادية الحاكمة.
الخلاصة: أن الطابع العلماني الذي اصطبغت به الدولة العثمانية جعلها غير مؤهلة في نظر رعيتها أو في نظر المسلمين خارج نطاق حدودها للقيام بمسؤولياتها الدينية ومنها خدمة الحرمين.
وهذا الشعور هو ما مهد للعامل الفكري الآخر لانهدام الدولة العثمانية، وهو نشوء المدرسة العصرانية في الفقه الإسلامي، وقد لقيت هذه المدرسة تشجيعا أيضا من الأوروبيين، لكنه تشجيع لم يكن يتجاوز السعي إلى تنصيب معتنقيها قضاة كالشيخ محمد عبده، أو محررين كعبدالعزيز جاويش، ولا يمكن أن يصل الأمر إلى مساعدتهم للوصول إلى مناصب قريبة من اتخاذ القرار، فمنهجهم العصراني وإن كان فيه مصلحة آنذاك للغرب في نقد النُظُم السياسية العثمانية من زاوية شرعية، إلا أنه يبقى في النهاية دينيا، وقد اعترف هملتون جب في كتابه إلى أين يتجه الإسلام المنشورة ترجمته في مصر سنة 1350 بأن المستعمرين يسعون لإيجاد أمثال هؤلاء العلماء في كل بلاد الإسلام.
وإذا صح لنا أن ندرج الشيخ عبدالرحمن الكواكبي ضمن هؤلاء النخبة من العلماء أو لم يصح، فإن كتابه أم القرى في كلتا الحالتين من أبرز الآثار المكتوبة اليوم، والتي يعبر فيها أحد العلماء عن ضيقه بدولة الخلافة بسبب عدم تمثيلها الخلافة أو أهليتها للقيام بواجباتها الإسلامية المنوطة بها، وكان من جملة المقترحات التي تضمنتها مباحثات الكتاب إنشاء خلافة جديدة هاشمية وليست تركية في مكة يتولى الإشراف عليها عدد من الأعيان من مختلف بلاد الإسلام، وقد كانت فكرة الكتاب المحرك الفكري لقبول دعاية الثورة العربية في بلاد الشام، والتي بلغ مستوى نجاحها لأن يشتكي جمال باشا في مذكراته حين كان واليا على الشام وقائدا للجيش العثماني الرابع من عجزه عن توفير أكثر من ألفي جمل من أهل الشام لحرب قناة السويس بسبب تشبع الشاميين بمبادئ الثورة العربية، وبالفعل قامت الثورة العربية عام 1334، وشارك فيها العديد من بوادي وحواضر الشام والحجاز، ولم يكتشفوا إلا بعد فوات الأوان: أن نظرية أم القرى والثورة العربية لم تكن سوى خدعة أوروبية لتمكين البريطانيين من احتلال فلسطين والأردن، وتمكين الفرنسيين من احتلال لبنان وسورية، وضرب منجز المواصلات الإسلامي سكة حديد الحجاز.
وفي عصرنا الحاضر ليست فكرة تدويل الحرمين هي فقط تلك العبارات الصريحة التي يدلي بها بعض الساسة الإيرانيين، بل كل دعاية ناشطة ضد المملكة العربية السعودية تزعم أو تسعى بشكل عملي لتشويه صورتها كرائدة للأمة الإسلامية، وراعية للفكر والتراث الإسلامي، ونموذج لا نظير له لتطبيق الشريعة الإسلامية.