العصا والكرافت والسيف وأم البرلمانات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عادل درويش
قبل ستة عقود تلقيت ضربتين بعصا معلمي، المستر ويليامز، لأن الكرافت (ربطة العنق) لم تكن مربوطة بعناية في نهاية اليوم المدرسي. بعد ساعة من «التذنيب» أمام مكتب وكيل المدرسة تلقى الثلاثة المعاقبون المحاضرة.
«اليونيفورم يا ولدي العزيز، أكثر من مجرد زي للانضباط والمساواة بين التلاميذ»، قال المعلم بلهجة حنان جادة، «إنه بروفة للمستقبل، فالبذلة الغامقة المناسبة والقميص النظيف والكرافت الأنيق هو زي الجنتلمان الذي يهتدي به العالم كله مانحاً ثقته لمن يرتديه بنجاح».
تذكرت الواقعة بسبب الخلاف الذي فجره رئيس مجلس العموم جون بيركو بعد أن سمح لنائب بالحضور بلا ربطة عنق في ظاهرة لا سابقة لها في 750 عاماً.
طبعاً لم تكن «بدلة البيزنس» الحديثة ورابطة العنق المعتادة في القرن العشرين ظهرت في برلمان 1265 المعروف اليوم بـ«وستمنستر»، والمقصود أن حضور البرلمان كان دائماً بزي الجنتلمان في عصره.
الجدل الدائر هو ما إذا كان خلع الكرافت مصادفة أم دفعة مقصودة لكرة ثلج متدحرجة...
فخلع ربطة العنق لم يكن مدرجاً على جدول الأعمال، بل في نقطة نظام نبه فيها نائب محافظ رئيس الجلسة إلى حضور نائب من الأحرار بقميص مفتوح بلا ربطة عنق. ورد رئيس الجلسة بأنه لا يرى في الأمر غضاضة، فالنائب يظهر «بزي أعمال مناسب».
منصب رئيس البرلمان يعود إلى 1376 لظهور كرسي رئيس الجلسة، وأول من احتله كان السير بيتر دي لامير (1294 - 1387).
ورئيس البرلمان هو الحاكم الفعلي لقرية «وستمنستر» ومن أقوى المناصب الرسمية في النظم الديمقراطية البرلمانية، مثل مناصب رئاسة الوزراء ورئيس السلك القضائي، وهو منصب أقدم من منصب رئيس الحكومة. رئيس البرلمان يحدد بداية ونهاية الجلسات وانعقاد البرلمان ورفعه.
غياب دستور مكتوب يجعل التقاليد في قوة القانون. ولأن القواعد غير مدونة في كتاب دستوري، فإن التقاليد تتبع شعائر وطقوساً مقدسة بتراكم السوابق وتكرارها، وأي تغيير أو تبديل فيها يتم بالحوار بين الأطراف ثم الإجماع المشترك. تقاليد حفظت الاستقرار والثبات لأعرق الديمقراطيات وأم البرلمانات، وجنبت المجتمع ويلات الثورات والاضطرابات. ولذا فمصدر القلق انفراد رئيس البرلمان بالسماح لنائب ليبرالي بالحديث في القاعة بلا ربطة عنق، دون اتفاق مسبق ومناقشة برلمانية مع النواب.
ومنذ أن تولى جون بيركو رئاسة البرلمان في 2009 إثر ثورة النواب وطردهم سابقه مايكل مارتين عقب فضيحة التغالي في المصروفات الإضافية والفساد، وبيركو يعمل على ما يراه البعض تحديثاً بحجة مسايرة أقدم البرلمانات مع المظاهر العصرية، والآخرون يرونه تخريباً خطيراً للتقاليد التي تعتبر الإسمنت الذي يربط أحجار بناء أعظم وأقدم صروح الديمقراطية.
ففي العام الماضي، سمح بيركو للكتبة الثلاثة الذين يعتبرون الخزانة القانونية الإدارية ويضبطون سير الجلسات وفق اللوائح، بالظهور بغير غطاء الشعر المستعار الذي يعطي هيبة القضاء لعدة قرون. كما أنه ظهر فقط بعباءة بسيطة فوق بدلة رجل الأعمال العادية بغير السترة والملابس التقليدية لأول مرة في التاريخ..
آخر من احتفظ بالزي الكامل والشعر المستعار كان البارون برنارد ويذيريل (1920 - 2007) كرئيس للبرلمان (1983 - 1992).
خلع رئيس البرلمان للشعر المستعار كان صدفة تاريخية أوقعت النواب في حيرة عندما تولت أول امرأة المنصب عام 1992. البارونة بتي بووذرويد التي ظلت في المنصب حتى عام 2000 ظهرت في أول جلسة بشعر مصفف بعناية بغير الشعر المستعار، وقالت للنواب: «لست في حاجة إلى الشعر المستعار، ألا يعجب شعري الجميل المظهر السادة النواب؟»، وأسقط في يد كل جنتلمان مهذب في برلماني غالبيته من الرجال لم يجرؤ على مناقضة مقولة «الشعر الجميل»، بينما ضمنت الرئيسة الماكرة تأييد بنات جنسها النائبات.
لكنها والرئيس مارتين الذي تبعها لم يجرؤا على تغيير أي من الملابس والتقاليد التي قد يبدو بعضها غريباً لغير البريطانيين، لكن كل تقليد يولد تقليداً آخر، فبغير التقاليد يتقوض العمل البرلماني.
فمثلاً هناك تقليد من القرن الثامن عشر بوجود مشاجب عند المدخل يعلق عليها النواب سيوفهم ولا يسمح لهم باصطحابها للقاعة التي يقتصر حمل السيوف فيها، حتى اليوم، على ثلاثة: السيرجينت تحت السلاح ومساعدوه، وهم المسؤولون عن أمن البرلمان ويتبعون التاج والدولة، وليس الحكومة أو البوليس، فالبوليس للحراسة الخارجية ولا يسمح له بدخول القاعة.
سبب الاحتفاظ بتقليد تعليق السيوف هو قياس المسافة بين الخطين الأحمرين حول البساط الأخضر على أرضية القاعة والذي لا يسمح لأحد بتخطيه (أصل تعبير to toe the line أو عدم عبور الخط الأحمر)، فالمسافة بين الخطين أطول بوصتين من مسافة سيفين ممتدين، أي من يقف وراء الخط لا يستطيع مهما مد سيفه أن يصل إلى الخصم (لأن المعارضة والحكومة في صفين متقابلين، وليس في برلمان نصف دائري). وهذا بدوره حدد تقاليد المخاطبة ومواجهة النواب الآخرين وآداب الحديث. فالنواب لا يخاطبون بعضهم مباشرة. النائب يخاطبه الآخر بضمير الغائب، موجهاً الحديث لرئيس البرلمان «أن الجنتلمان صاحب الشرف جانبه الصواب في كذا وكذا يا سيادة الرئيس»، وإذا كان النائب من الحزب نفسه فيقول: «صديقي نائب دائرة... كذا».
فلا يشير نائب إلى آخر باسمه، بل باسم بالدائرة التي يمثلها. كما أن الوصف السلبي (ككاذب، أو منافق) كلمات يحظر استخدامها. فالاحتفاظ بتقليد يبدو غريباً كمشاجب تعليق السيوف في زمن لا يحمل فيه أحد سيفاً، له ضرورة كمرجع للسلوك في القاعة.
ويخشى الديمقراطيون التقليديون أن يفتح كسر التقاليد بوابة فيضان من تغيرات تفقد البرلمان هيبته، فنائبة حزب الخضر تطالب بأن يخاطب النواب البعض بأسمائهم بدلاً من أسماء الدوائر، ورد عليها النائب المحافظ نايجل ايفانز بأن أبناء الدائرة أرسلوهم للبرلمان لتمثيلهم لا للشهرة أمام كاميرات التلفزيون، وهناك فارق بين التطور كحاجة ملحة وإثارة التغيير بدافع الشهرة.
فتدهور الأخلاق اليوم مثلاً واكب التساهل في الانضباط المدرسي بحجة التحديث.
استغرق الأمر مني سنوات لأدرك أن عقاب المستر ويليامز كان بدافع حبه لتلاميذه وحرصه على إعدادهم للنجاح في الحياة، فالولدان الآخران اللذين عوقبا معي أصبح أحدهما وزيراً للخارجية في بلاده، والثاني أحد أشهر أطباء القلب في العالم، ولا يزالان يحتفظان بأناقة فرضتها عصا المعلم.