الدروس المستفادة من الاحتجاجات الإيرانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد السلمي
لم يعُد ينطلي على الشعب الإيراني ربط النظام كل ما يحدث في الداخل بمؤامرات خارجية، فقد عبّر الإيرانيون عن موقفهم من النظام وأن الإشكالية داخلية لا خارجية، وأن شيطنة النظام للمتظاهرين لم تُجد نفعا
على مدار أسبوع كامل شهدت إيران عديدا من الاحتجاجات والمظاهرات، بدأت من مدينة مشهد في شمال شرق إيران ذات الغالبية الشيعية الفارسية، والمدينة الإيرانية الأولى في الرمزية الدينية حيث ضريح الإمام الرضا، الإمام الثامن عند الشيعة الإثني عشرية، وربما هي المدينة الأكثر ولاءً للمرشد الأعلى في إيران، إذ يسيطر المقربون من خامنئي على معظم المناصب الحساسة والرئيسية فيها، ويرتبط بخامنئي أيضا خطيب الجمعة الأشهر في إيران أحمد علم الهدى، والمؤسسات الثورية والخيرية. كرة الثلج التي تكونت في مشهد لتعمّ معظم المدن الإيرانية جاءت مختلفة تماما عن كل احتجاجات الإيرانيين منذ الثورة، فهذه المظاهرات ليست مدفوعة بالرغبة في مزيد من الحريات كما في عام 1999 على يد طلاب جامعة طهران وأربع مدن أخرى لحقت بها سريعا، ثم انتهت بعمليات أمنية قمعية خلال أربعة أيام. أيضا هذه الاحتجاجات تختلف عن الحدث الأبرز في 2009 عندما أعلنت السلطات فوز أحمدي نجاد بدورة رئاسية ثانية على حساب من يطلق عليهم «التيار الإصلاحي» بزعامة مير حسين موسوي ومهدي كروبي. حينها ردد المتظاهرون شعار «أين صوتي؟»، معتبرين تلك النتائج مزورة. معظم من شارك في هذين النموذجين من الاحتجاجات هم الشريحة الطلابية والطبقة الوسطى في المجتمع، وانطلقت من مدن رئيسية أكثر انفتاحا من غيرها مثل طهران وأصفهان وتبريز وشيراز. في الحالة الراهنة نجد المتظاهرين من الطبقة الفقيرة أو المعدمة تماما، تظاهروا لأسباب معيشية بحتة، بسبب الفقر والبطالة، ونهب رجال الأعمال والبنوك أموال المواطنين، ورفع الدعم عن الفقراء، وزيادة أسعار الوقود بنسب عالية. في مشهد التي انطلقت منها الاحتجاجات يعيش قرابة مليوني مواطن في منازل من الصفيح، ويسكن أغلب المهاجرين الأفغان المحرومين من التعليم والعلاج، وكذلك أُرسل أبناؤهم للقتال في سورية والعراق مقابل تصحيح أوضاع إقامتهم في البلاد. من تلك المدينة اتجهت الاحتجاجات خلال سويعات إلى مدينة منكوبة أهملها النظام الإيراني، هي كرمانشاه في شمال غربي إيران، والتي ضربها زلزال قبل نحو شهرين، ولا تزال تعاني دون أي تفاعل حقيقي من الحكومة أو محاولة لرفع المعاناة، ومن هناك انتقلت الشعلة إلى نحو 60 مدينة إيرانية. من خلال المتابعة الدقيقة للاحتجاجات الإيرانية الأخيرة يمكننا استنتاج عديد من النقاط شديدة الأهمية، أبرزها:
• بداية يشكّل أبناء الطبقة الفقيرة أغلب المتظاهرين في احتجاجات إيران المندلعة بدافع الغضب الاقتصادي، ولم يخفّف الاتّفاق النووي ووعود تخفيف العقوبات مشكلة البطالة التي طال أمدها، بل زادت الحكومة معاناة المواطنين بتقديم ميزانية تقشفية كانت إلى جانب غيرها من أسباب الشرارة التي أطلقت تلك الشعلة الكبيرة.
• من الدروس المستفادة أن كثيرين كانوا يعتقدون أن الشعب الإيراني مغيّب عما في محيطه الجغرافي، وبتدخلات النظام الإيراني في دول الجوار العربي، وإنفاق مليارات الدولارات على الميليشيات، مع إهمال كامل للداخل الإيراني. لقد شاهدنا كيف ركز المتظاهرون الإيرانيون على هذا الجانب وردّدوا شعارات كثيرة تدين هذا التوجه لنظام الولي الفقيه.
• بدت هذه المظاهرات والاحتجاجات عفوية ودون قيادة حقيقية بارزة على الأرض، على عكس الاحتجاجات السابقة، ولم تطالب بمبادئ ديمقراطية أو تمِلْ إلى تيار دون غيره أو صراع بين تيارات المجتمع الواحد أو حتى بين الطبقات العليا في النظام، بل وضعت كامل النظام ومؤسساته في سلة واحدة.
• نسفت هذه المظاهرات والاحتجاجات الاعتقاد بأن المدن الصغيرة والأرياف والطبقتين الدنيا والعاملة في إيران موالون للنظام ومؤيدون للتيار الأصولي المتشدد. لاحظنا خلال الأيام الأخيرة أن مناهضة هذه الطبقة لنظام الولي الفقيه أكبر وأكثر جرأة من الطبقة المثقفة أو الوسطى، فقد رددوا شعارات تندّد بالأصولية الثورية، واستغلال الدين لأهداف سياسية، كما أحرقوا لأول مرة عديدا من الحوزات الدينية ومقار الباسيج والحرس الثوري وبعض المؤسسات التي تحمل اسم الخميني.
• كسر المتظاهرون حاجز الخوف، وربما الخطوط الحمراء للدولة الإيرانية الثورية، فردّدوا شعارات لم نشهدها من قبل مثل «ارحل يا خامنئي» و«الموت لخامنئي» و«لا نريد الجمهورية الإسلامية» و«إيران دون الشاه لا قيمة لها»، وغيرها كثير. هذه الجرأة على النظام الثوري والمؤسسة الدينية في إيران تؤسس لمرحلة قادمة ومتقدمة لنضال الشعوب في إيران ضد الولي الفقيه، لن يتردَّد فيها الشباب الإيراني في البدء من حيث وصلت الاحتجاجات الراهنة، وعليه فستكون المرحلة القادمة محورية وجديرة بالرصد والمتابعة.
• لم يعُد ينطلي على الشعب الإيراني ربط النظام كل ما يحدث في الداخل بمؤامرات خارجية تستهدف البلاد، فقد عبّر الإيرانيون عن موقفهم من النظام وأن الإشكالية داخلية لا خارجية، وأن شيطنة النظام للمتظاهرين وربطهم بإسرائيل وأميركا والسعودية وبداعش لم تُجد نفعا، ورفضها المتظاهرون وسخروا منها.
• ظلت دول القارة الأوروبية صامتة طويلا حيال ما يجري في الداخل الإيراني، ربما لأسباب اقتصادية بحتة ومحاولة الاستفادة من الكعكة الإيرانية في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. بغض النظر عن هذا الموقف الأوروبي المتردّد فإن الأحداث الأخيرة ستجعل المستثمرين يفكرون عشرات المرات قبل الاستثمار في السوق الإيرانية المضطربة سياسيا، وقد يقررون البحث عن بدائل لفرصة قد لا تتحقق إطلاقا.
• أوضحت تلك التظاهرات طبيعة تبادل الأدوار داخل النظام السياسي الإيراني، إذ لم يجد المحتجون أي دعم أو مساندة من رموز التيار الإصلاحي، بل كانت مواقفهم من الاحتجاجات تأكيدا لتلاشي المساحات والاختلافات بين المحافظين والإصلاحيين، وهو انكشاف تام للواقع السياسي الإيراني، الذي يتنافس فيه طرفان على خدمة نظام متسلّط لا أمل في إصلاحه من داخله.
• كشفت الاحتجاجات عن إفلاس أيديولوجي وسياسي كبير، فسياسيا لم يملك النظام سوى القمع لمواجهة مطالب الشارع، وكشفت عن إفلاس وفشل «اقتصاد المقاومة»، إذ جعلت الحكومات المتعاقبة الشعب حقلا لتجاربها الاقتصادية غير المدروسة منذ تبني الخميني نموذجه الاقتصادي الشعبوي، وأخيرا كشفت عن إفلاس أخلاقي، إذ بنى النظام شرعيته على نصرة المظلومين والمستضعفين في كل مكان، في حين خرج شعبه يصرخ من شدة الفقر وتدهور الأوضاع.
• أظهر حجم الحشود المضادة «المتواضعة» التي استخدمها النظام، والطريقة الممنهجة لإحباط الاحتجاجات، فقدان النظام كثيرا من قدرته على التعبئة، بما يعكس تراجع شرعيته، والتعاطف الواسع مع مطالب المحتجين.
• قد تمثل تلك الاحتجاجات بداية فعلية لنشأة حركة سياسية جديدة من خارج التيارات السياسية التقليدية، لأنها حركة تكونت انعكاسا لواقع يبدو من الصعب أنه سيتغير قريبا، لا سيما في ظل إصرار النظام على تصدير أزمته الداخلية إلى الخارج، واستمراره في سياساته في الداخل والخارج، التي تضر بالأوضاع المعيشية للمواطنين وتقودها نحو الأسوأ.
ختاما، نعتقد أن هذه الموجة من المظاهرات، وإن تراجعت كثيرا، فإنها لن تختفي سريعا، وقد تتطور في الأيام القادمة إن لم يعمل النظام بشكل استثنائي على النظر في مطالب المحتجين، وتحسين المستوى المعيشي، وإعادة النظر في حجم دعم العناصر المرتبطة به خارجيا.