مشكلة نصوص أم مشكلة نفوس في لبنان؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الرحمن عبد المولى الصلح
منذ الاستقلال، لم تكمن مُعضلة الحكم اللبناني، إن وُجِدت، في النصوص. المعضلة، كَمُنت في ممارسة السلطة في ظل نظام سياسي، على رغم كل عيوبه، فهو الأنسب والأفضل لبلاد الأرز، لأنّ جوهره مبني على الوفاق والتوافق، ليس فقط على قاعدة العيش المشترك بين المكونات البشريّة التي يحتضنها لبنان، بل أيضاً على أن الحكم لا يعني التسلّط والاستئثار بالسلطة والسعي إلى تراكم المنافع الخاصة،
بل إن الحكم يكمن في خدمة العباد والبلاد، لمصلحة الكل دون الجزء، وأن أسّ الحكم هو ما يُسمّى بالحوكمة (Governance) والتي أضحت مطلب السياسيين وحديثهم وعامة الناس في العالم المتقدّم منذ ما يقارب العشر سنوات. لكنّ عملاقاً كبيراً يُدعى فؤاد شهاب عمل على تطبيقها منذ أكثر من ستّين سنة! هو الذي ينطبق عليه قولُ الرئيس الفرنسي السابق رينيه كوتي: «الفرق بسيط. رجل الدولة يريد أن يعمل شيئاً من أجل بلاده، والسياسي يريد من بلاده أن تعمل شيئاً من أجله». فالراحل الكبير عمل الكثير لبلاده ولم يضع نصب عينه إلا المصلحة العامّة وما تقتضيه من تضحيات لصون وحدة البلاد والعباد، والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تُحصى. فعلى سبيل المثل لا الحصر، وعلى رغم أنّ القوانين كانت تُجيز له كرئيس للجمهورية تقديم المشاركين في انقلاب الحزب السوري القومي إلى المحكمة العسكرية، إلّا أنّه ارتأى إحالتهم على محكمة مدنية برئاسة قاضٍ مدني لأنّ مصلحة البلاد كانت تقتضي ذلك بهدف تهدئة النفوس وتثبيت الاستقرار الداخلي. بمعنى آخر، إذا كان المطلوب التقيّد بأحكام الدستور والقوانين، فهذا لا يمنع عدم التقيد بها إذا كان ذلك يخدم هدفاً أسمى وأهمّ، ولكن ليسَ العكس! من المؤسف أنّ المُراقب يرصد خللاً من خلال طموح البعض إلى زعزعة المعادلة الوطنيّة السياسيّة القائمة على التوازن، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان التوازن الوطني وإشاعة جوّ من القلق وعدم الاستقرار. وهذا مرضٌ ليس حكراً على دول العالم النامي (الثالث سابقاً) والعالم العربي جزء منه، بل أيضاً في أعرق الدول الأوروبيّة، والذي حدث ويحدث أخيراً في كاتولينا (إسبانيا) خيرُ دليل!
مناسبة الكلام السابق، هو الجدال الدستوري والقانوني الحاصل حول مرسوم الأقدميّة لدورة الضباط عام 1994، والذي كان من المنتظر أن يُسدل الستار عليه خلال أيّام. لكنّ استمرار الجدال وعدم الوصول إلى حل، أمرٌ يُثير القلق ويحفّز على دق ناقوس الخطر، والمؤسف أنّ رجال القانون المنتمين إلى طائفة رئيس الجمهورية تمسّكوا بحجج دستورية قابلتها حججٌ دستورية أخرى من طائفة رئيس المجلس النيابي! لا أريد أن أدخل في جدال دستوري منعاً للملل والتكرار. المطلوب هو الاحتكام إلى النفوس والسهر على مصلحة اللبنانيين. وللتذكير فقط، وعلى سبيل المثل لا الحصر، فالاحتكام إلى الدستور - إلى الذين يصرّون على الاحتكام إليه - لا يعطي الحقّ في تعطيل انعقاد المجلس النيابي لعامين ونصف العام بهدف حصر رئاسة الجمهوريّة بمرشّح واحد وضمان وصوله إلى سدّة الحكم، و «اللياقة» الدستوريّة إن جاز التعبير، إضافة إلى العرف الدستوري في أعرق الديموقراطيات، لا تجيز بقاء نائبٍ على سدّة رئاسة المجلس النيابي طيلة خمسة وعشرين سنة! والجدير بالذكر أن السنة الأولى الرئاسيّة انتهت بأكثر من إشكال دستوري. نذكر، مثلاً، رفض رئيس الجمهوريّة توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، إضافة إلى عدم فتح دورة استثنائية للمجلس. كانت حجّة رئيس الجمهوريّة حرصه على عدم اعتماد القانون الانتخابي السابق، ومع أنّ ذلك شكّل مخالفة دستوريّة، إلّا أنه ارتأى أن ما أقدم عليه يخدم المصلحة العامّة ولو شكّل ذلك مخالفة دستوريّة! فحوى الحديث أن الجدال الدستوري إن بدأ لن ينتهي وأن التمسك بالدستور في حالات معيّنة والتغاضي عنه في حالات أخرى أمرٌ لا يجوز.
دستور لبنان ما قبل الطائف أعطى رئيس الجمهوريّة صلاحياتٍ واسعة وأناط السلطة الإجرائية به، إلّا أنّ جوهر الوفاق، حتّم توقيع رئيس الحكومة المراسيم (مع أن ذلك لم يلحظه الدستور) قبل نشرها. وهنا بيت القصيد. فالوفاق الوطني يعلو على أيّ جدال دستوري. ولعلّ هناك إجماعاً بأن الحوادث الدموية التي اندلعت عام 1975 وتسبّبت بالخسائر الجسيمة على مختلف الصُعد، لم تكن بسبب إدخال تعديلات على الدستور (كما حصل في اتفاق الطائف) بل لأسباب أخرى لا داعي لذكرها كي لا ننحرف عن جوهر المقال. ويحضرني في هذا الصدد تصريح لرئيس مجلس النواب الراحل كامل الأسعد في تلك الآونة. قال الأسعد: إن الدمار والخسائر الكبيرة والاقتتال، كل ذلك غير مبرّر حتى لو كان الهدف هو بناء المدينة الفاضلة كما تخيلها الفارابي!
المُرتجى أن تهدأ النفوس... بعيداً من النصوص، خصوصاً إذا كانت البوصلة السياسيّة متجهة إلى تعزيز العيش المشترك. ولقائلٍ أن يقول أنّه كان من الأجدى لرئيس الحكومة أن يُقنع رئيس الجمهورية بالتروّي بهدف التشاور مع رئيس المجلس النيابي، منعاً للوصول إلى ما وصلنا إليه. وإذا كان الرد على ذلك بأنّ رئيس الحكومة، إذ تجاوب مع رئيس الجمهورية ردّاً على تضامن رئيس الجمهورية معه في ما يتعلّق باستقالته التي عزم على تقديمها... فهذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضاً أنّه لولا ترشيح رئيس الحكومة سعد الحريري للرئيس عون لرئاسة الجمهورية، لبقي الرئيس عون وإلى حينه... مرشحاً للرئاسة. بمعنى آخر، فإنّ «المونة» مشتركة وكان يجب التعويل عليها في مجتمع مُتعدّد الطائفة، وفي ضوء دستور الطائف المعتمد، فالمطلوب ممن يتولوا الرئاسات الثلاث، الحرص، كل الحرص، على التمسك بقواعد الحكم السليم والعمل بما تقتضيه المصلحة العامة. آن أوان الابتعاد من الجدال الدستوري والمماحكات والتركيز على شؤون الناس وقضايا حياتيّة تمسّ حياة اللبنانيين جميعاً، وصون وحدة البلاد في الوقت الذي يشهد الإقليم متغيّرات جذريّة ستؤدي إلى إعادة تشكيل أكثر من دولة!
فإذا كان مشروع مرسوم قد أثار الجدال منذُ أكثر من شهر، ولم يتمّ الوصول إلى تسوية، فكيفَ الحال مع مراسيم وقوانين تتعلّق بمفاصل مهمّة وأساسية لتسيير شؤون الدولة وتيسير أمور العباد؟
وللعلم، فلم يعد طموح اللبنانيين، مع الأسف، يصــل إلى تحقيق أهداف خلّاقة كإنشاء مُدن ذكية عـلى طراز مدينة «نيوم» الذي يعمل على إنشائها ورعــايتها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على ساحل البحر الأحمر، أو حتّى مكننة المعاملات الحكوميّة وتحقيق العلمنة وإنشاء وزارة للسعادة كما هي الحال في دبي... بل أضحى طموحهم أقلّ من ذلك بكثير. ومن المؤسف أنّ طموح اللبنانيين حالياً انحصر لضمان وصول الكهرباء 24/24 وحلّ مشكلة النفايات!
كان جميلاً أن يشهد وسط بيروت احتفالات العام الجديد، لكن كانت الصورة أكثر جمالاً لو ترافق ذلك مثلاً مع ... حلّ مشكلة جبل النفايات في العاصمة الثانية طرابلس، والذي يجثم على صدور الطرابلسيين والانتهاء من تنظيف نهر الليطاني في البقاع الذي تُسبِّب أوساخه أمراضاً سرطانيّة!
بعد حملة العاهل السعودي وولي عهده الأمير محمد على الفساد، صرّح الزعيم السياسي وليد جنبلاط متهكّماً في إحدى تغريداته قائلاً أنّه يتوجّب على أصحاب الشأن في لبنان إيجاد فندق أكبر من فندق «الريتز» لإسكان الفاسدين واستجوابهم! إذا كان الجدال حول مشروع مرسوم قد استغرق إلى حينه أكثر من شهر دون حلّ، ونتج من إشكالات طائفية وسياسية، فكم يستغرق الوقت للقضاء على الفساد الذي يبدو أنّه أضحى بعيد المنال كأنّه حلمٌ... لن يتحقق؟!