حوار درويش الأول
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أذكر جيداً الحوار الأول الذي أُجري، عربياً، مع محمود درويش عندما كان لا يزال مقيماً في فلسطين. قرأته، في مطالع الشباب، في أحد أعداد مجلة &"الطريق&" اللبنانية التي كان من أبرز محرريها الراحلان الكبيران الدكتور حسين مروة والناقد محمد دكروب، وهذا الأخير هو من أجرى الحوار مع درويش أثناء لقاء جمعهما في موسكو. كان ذلك في العام 1968، وكانت أوائل دواوين درويش قد أُعيد طبعها في بيروت، وكنا محظوظين أن نسخاً منها، ومن دواوين توفيق زياد وسميح القاسم وسواهما، تصل البحرين، وتُباع في مكتبات العاصمة، المنامة.
من بين كتب ودوريات كثيرة شكلت أولى معارفي في الثقافة والأدب أضعتها، بسبب السفر وكثرة التنقل، كان عدد &"الطريق&" الذي حوى الحوار مع محمود درويش، ومع شعراء فلسطينيين آخرين، ممن أطلق عليهم يومها وصف &"شعراء المقاومة&"، لذلك أنا ممتن جداً لمن أهداني مؤخراً كتاباً تضمّن عدداً كبيراً من الحوارات التي أُجريت مع درويش، على مدار عقود، صادراً عن دار كنعان الدمشقية وقدّم له وحرره صاحبها سعيد البرغوثي، فوجدت حوار دكروب مع درويش يتصدر ذلك الكتاب الذي حمل عنوان &"الطروادي الأخير&" ويقع في أكثر من خمسمئة صفحة، وأكدّ الناشر، بدوره، أن ذلك الحوار هو الأول مع درويش مع الصحافة العربية.
يبدأ هذا الحوار باستعادة درويش لطفولته، حين وجد نفسه، وهو في السادسة من عمره، يعدو في أحراش الزيتون السوداء، والجبال الوعرة مشياً على الأقدام حيناً أو زحفاً على البطون حيناً، وبعد ليلة دامية مليئة بالذعر والعطش بلغوا بلداً آخر اسمه لبنان، وحين صحا الطفل الممزق الثياب من التعب والرهبة كان رأسه يزدحم بالأسئلة التي هاجمته دفعة واحدة.
بعد عامين من اللجوء، قيل للفتى درويش ذات يوم: &"الليلة سنعود إلى فلسطين&". في الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة، سار هو وأحد أعمامه ورجل آخر هو الدليل، وفي الصباح بلغوا الوطن، ليُصاب الفتى بالصدمة. &"هذه ليست فلسطين، تلك الأرض السحرية&". لم يعد إلى بيته، وإلى قريته التي كان عليه أن يدرك بصعوبة بالغة أنها هدمت وحرثت. &"كيف تُهدم القرى؟ ولماذا؟&"، سأل درويش نفسه، وكان عليه أن يدرك بعد حين لم يطل أن اسمه الآن: &"لاجئ فلسطيني في فلسطين&".
في هذا لا يصف محمود درويش مأساته ومأساة جيله فقط. إنه يصف مأساة أجيال من الفلسطينيين، وها نحن، ويا للوجع، شهود على فصل من فصولها الأكثر دموية في قطاع غزة، حين يجد من قدر لهم ألا يموتوا من أهلها أنفسهم، في قلب ذات المأساة.