أحبك أيها العفريت!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ثكلتك أمك أيها الواتساب.. فوالله ما أنهك قلبي عشقا إلا تعلقي بك!
من أين أتيت أيها العفريت لتقلب حياة الناس رأسا على عقب؟!
أحد أصدقائي قال إنه لم يعد يرى الأحداث في منامه على شكل وقائع وحوارات شفهية، بل صار يطالعها مكتوبة على واتساب هاتفه وهو يرفل في سابع نومة!!
المشكلة عند الصحافيين أكثر عمقا.. فالواتساب يحوي بودرة الهيروين شديدة القابلية للإدمان، كما يزخر بمحتوى يغني عن كثير من مصادر المعرفة العامة ولا سيما المتعلقة بإيقاع الحياة اليومي. وبهذه الورطة يجد الصحفي نفسه أسيرا لهذه الآفة التقنية.. فلا يستطيع فكاكا حتى لو ملك إرادة مصنوعة من الحديد الصلب.
هكذا أراني اليوم، في هذه المناسبة، صحفيا يستبدل كل أدواته ومعالجاته في مجال المعلومة. فقد جاءتني منذ أيام رسالة واتسابية من زميل متخصص في الأخبار.. يقول فيها إن ترامب وصف الصحفيين بأنهم من الفئات الأقل نزاهة في العالم. وأضاف وقد أخذته الحمية لزملاء المهنة أن ترامب يحمل أفكارا حاقدة وغبية، راشقا إياه بأقذع الألفاظ وأفحش الشتائم التي لن تسمح إدارة الصحيفة بإيرادها في هذا المقام!!
تأكدت طبعا من صحة الخبر، فببحث لا يستغرق سوى دقيقة في الأوعية التقنية تستطيع معرفة الكثير من الحقائق. وبصراحة أصابني كصاحبي تقلص القولون وآلام المرارة، فـ(شتيمة) ترامب لأهل الصحافة خدشت أهم أسلحة الكبرياء لدى الصحفيين التي يتباهون بها، وهي النزاهة!
مع ذلك، أعطيت نفسي فرصة للتفكر في حديث ترامب المندفع بلا كوابح.
هل الرجل تجنى على الصحفيين؟
لنهدأ قليلا ولنسأل بشكل أكثر واقعية : هل الصحفي يعمل اليوم لصالح قناعاته أم لصالح مؤسسات إعلامية يخدم توجهاتها التحريرية وينافح عن قناعاتها؟
الصحفيون المحترفون ينتمون في غالبيتهم لجهات بعينها، والجهات التي تدفع للصحفيين المال.. لها خطوطها وتوجهاتها، فلا يتصور أن يدبج صحفي في صحيفة شيوعية مقالة يتغزل فيها بالرأسمالية، ولا أن يكيل صحفي في صحيفة شمولية المدح للديمقراطية كوسيلة للحكم.
النزاهة صارت سلعة نادرة في التجارة والصناعة والاقتصاد والسياسة وكثير من أوجه الحياة، فكيف نستكثر انتقال الفايروس للصحافة، خصوصا وأن الصحف لا تملك تطعيما يحصنها من الأوبئة، ولا تملك تمويلا قويا يقيها من الترنح والانحراف في دروب غير مأمونة النهايات؟!
أدوات الصحفي اليوم غير أدواته بالأمس، ومصادره غير مصادر الأمس، ومخدّمه غير مخدّم الأمس، وبيئته الصحفية غير بيئة الأمس، ولذلك يبقى من الظلم أن نفترض فيه نزاهة الأنبياء في عالم لا يعرف سوى عواء الذئاب وفحيح الأفاعي!
قطعا لا نتكلم عن (الجميع)، فلا بد أن البعض لا يشملهم ما قلنا، لكن أمام هؤلاء البعض مهمة شاقة كي يثبتوا أن النزاهة في قواميسهم لم يمسسها الضر ولم تعصف بها الأنواء.
الصحافة النزيهة فكرة مثالية، لكنها تبقى محتملة التحقق، وهذا يمكن أن يحدث في الدنيا إذا تعافت كل قطاعات الحياة من أدران ما يجري، فالصحافة بنت بيئتها، وقد تحولت في غالبيتها إلى جزء من حركة الحياة المحيطة بها، بعد أن كانت قائدة ضمن محركي تلك الحياة، وستعاني من بثورالواقع كما تعاني كل القطاعات، فإن لم تستطع اكتساء رداء النزاهة في الدنيا، فما عليها سوى انتظار الفراديس.
الواتساب نقل معلومة ترامب، وبسببه جاءت هذه المقالة، والتقنية نقلت المقالة من الخرطوم إلى لندن، وهي التي نقلتها أيضا من لندن إلى كل أصقاع الكرة الأرضية.
فهل تراني مبالغا إذا وصفت الواتساب بالعفريت؟!
إذن.. أحبك أيها العفريت!
shatarabi@hotmail.com