أربعون سنة أصيلة.. ما أشبه اليوم بالبارحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نبتت فكرة مشروع أصيلة الثقافي، قبل أربعة عقود في بيئة لم تكن مهيأة لاحتضان مبادرة ثقافية غير مسبوقة متسمة بطابع المغامرة بل المخاطرة، بالنظر إلى السياق السياسي العام الذي ساد المغرب خلال عقد سبعينيات القرن الماضي وما قبله،وكان الأمر والأصعب في تاريخه الحديث؛ جراء تركم تحديات واجهها داخليا وخارجيا لكنها أفرزت بالمقابل دينامكية وحركية مجتمعية عمت مناطق في البلاد، بما صاحبها من صخب فكري وصراع سياسي واحتراب إيديولوجي سيتمخض عنه ما أطلق عليه الملك الراحل الحسن الثاني عام 1974 نعت "المغرب الجديد" مبشرا بمسلسل مصالحة وطنية متدرجة فرضتها قضية استكمال وحدة التراب .
في ذاك الخضم أعلن عن تأسيس "جمعية المحيط الثقافية" النواة الأم الحاضنة لمؤسسة منتدى أصيلة. تزامن الإعلان مع بروز تعبيرات ثقافية وفنية أخرى ، فردية وجماعية أعلنت عن نفسها وحضورها اللافت في الحواضر بمبادرات وجهود متفاوتة مدفوعة في الغالب بروح التطوع والعمل في إطار ما سيتبلور فيما بعد "المجتمع المدني "فضاء يتحرر فيه المبدعون من قيود التقليد والإتباع وتكسير قواعد الاتصال بالجمهور.
لا يتسع هذا المقال لتتبع فصول تلك التجارب وخاصة أصيلة المتفردة ،لاستعادة ظروف وملابسات وصعوبات التأسيس، وما واجهه "الرواد المؤسسون" من صعوبات مادية وكيف تغلبوا عليها ونجحوا في طمأنة السلطات أن الملتفين حول الجمعية يتوخون خدمة سكان مدينتهم أولا وقبل أي شيء آخر،لذلك أقاموا حدودا ومسافة مع السلطة في صيغة هدنة غير مكتوبة وفضلوا اللعب في المجال الثقافي الرحب .
لم تكتف الجمعية بتلافي الصدام مع السلطات بل نبهوها إلى أن هوامش الحريات القائمة في المغرب، وهو بلد اختار التعددية الفكرية والسياسية والاقتصادية؛ كفيلة إذا ما احترمتها الأطراف بقيام تعاون مثمر بين الدولة والجمعيات الأهلية.
الآن وبعد انصرام أربعة عقود، ما زال "المورطون" إن جاز التعبير، في مشروع أصيلة مؤمنين بأن البرنامج لم يستوف كافة البنود وما الاحتفاء بالدورة الأربعين إلا محطة زمنية ضمن مسار طويل .وهذا الشعور الذي يتملك القائمين على المشروع شبيه بالذي تملك الرواد قبل أربعين عاما : إقدام وجرأة وخشية من المستقبل واحتياط من عثرات الطريق .لعل السائرين على الدرب يرددون الآن في سرهم القول المأثور: ما أشبه اليوم بالبارحة .
لم يدون التاريخ الثقافي لموسم أصيلة. لم تنجز عنه أبحاث تقيس التحول الكمي والنوعي الذي أحدثه قطعا في البلدة الصغيرة أولا،وردود الفعل الإيجابية التي حركها في النسيج الثقافي المغربي، بين الترحيب والانتقاد.
ذاك الصنف من الأبحاث الميدانية والمونوغرافيات ضمن تخصص "سوسيولوجيا الثقافة " ما زال في بداياته في الجامعات المغربية وخاصة الشق المتصل بقياس اثر الثقافة في تحديث البنيات الذهنية والاقتصادية، باعتباره وسيلة علمية لاختبار مدى إجرائية المقاصد والأهداف التي سعى إليها مشروع أصيلة الذي حدد مبتدٍأه ومنتهاه في ربط الثقافة بالتنمية واعتبار الأولى مدخلا للثانية .
إلى أي مدى نجح الرهان وهل يمكن تقديم حصيلة ؟ الواقع أن مشاهدات وشهادات موضوعية وانطباعات صادقة لمختلف الزوار الذين توافدوا على دورات الموسم،تكفي وحدها للجزم بأن وجه البلدة قد تغير على كافة الأصعدة : عمرانيا ،اقتصاديا وعلاقات جديدة بين السكان مع انصرام العقود الأربعة . دعك من الأثر الممتد في الخارج . تلك حقيقة لا يمكن لمراقب موضوعي القفز عليها.
والحقيقة أن محمد بن عيسى ، راعي الموسم، بجهد وتفان وتفاؤل قل نظيره بين الفاعلين الثقافيين، لم يشك من التعب مع الزمن، ولا تسرب إليه إحساس بالرضى عن النفس والوقوع في شرك إطراء الذات. يمضي العام كله بعد انتهاء كل دورة ، في حالة استنفار ذهني تام، مستغرقا ومتأملا في برنامج الدورة المقبلة التي تكون قد ارتسمت في ذهنه بوضوح قبل إعلان انتهاء الجارية. ومن هنا يفهم حرصه في كلمات الاختتام على تكرار نفس الجملة التي يسبقه إليها الحاضرون:ماتت الدورة رقم كذا.. عاشت الدورة المقبلة .
لا يمكن تفسير قوة الإصرار الممزوج بالتفاؤل الذي رافق أمين عام منتدى أصيلة خلال الرحلة الزمنية الزاخرة ،إلا بسبب واحد هو أكثر من العلاقة العاطفية التي تربط أي مواطن بالمكان الذي ولد ونشأ فيه.وفي حالة رئيس الدبلوماسية المغربية السابق ، فإن علاقته بمدينته ومن دون مبالغة روحية وصوفية . لا يكفي التنويه بطبع الرجل ونظرته العقلانية إلى الحياة وإيمانه الراسخ بقدرة الفعل الثقافي على إحداث التغيير كيفما كانت مساحته ومداه.
إن شخصية الوزير الأمين العام ، بسجاياه الخلقية وشبكة علاقاته وصداقاته وتجربته الحياتية الغنية؛ تقف إلى حد كبير وراء نجاح المشروع وانتظامه وتطويره المستمر دون تفريط في الجوهر والعلامة المميزة (أصيلة فضاء للحوار المتكافئ الهادف بين الثقافات والحضارات دون خلفيات وأحكام مسبقة وبندية تامة) .
كثيرة هي الدروس المستفادة من مشروع أصيلة ،لعل أهمها أن النخب الطليعية المتنورة في أي مجتمع، مهما كان عدد أفرادها ، يمكنها أن تبلغ غايات الإصلاح المنشود ، بشرط وضوح الفكرة وتحديد الهدف المرسوم بدقة ، إلى جانب ضبط وسائل العمل المتاحة كما الاعتماد على الإمكانات الذاتية وتجاوب وتقبل السكان للخدمة المعروضة عليهم. وقبل كل ذلك التحلي بالتجرد والإيمان بقيم الصالح العام.
والمؤكد أن مؤسسة منتدى أصيلة، سارت وفق نفس المنهج القويم . تحققت نقلات نوعية للموسم ،شكلا ومحتوى ،بسلاسة ودون قطيعة فجائية مع المرجعيات المؤسسة .
وإذا كان التوجه الثقافي بالمعنى الشامل، هو الغالب على مواسم أصيلة الثقافي الدولي، فإن رسالة المواسم كانت سياسية بالمعنى النبيل للكلمة، وقد يكون أنجع من الدبلوماسية الرسمية أو مكملا لها .تلك رسالة استوعبها الملك الراحل الحسن الثاني برؤيته الإستراتيجية الفذة ، لذا ترك المفكرين والفنانين والأدباء المشاغبين، يمرحون ما طاب لهم في أصيلة. يناقشون القضايا والمواضيع الحرجة ، يقتحمون الطابوهات ، يقولون ما لا يجرؤون عليه في أوطانهم الأصلية ،دون خوف من رقيب يكتب التقارير عنهم .إنهم في واحة فكرية رحبة أو حديقة غناء .
ربما وجد عاهل المغرب الراحل ، وهو الشغوف بالفكر والمعرفة ، في أصيلة ما كان يطمح إليه : نافذة يطل منها على مشهد حيوي زاخر بالأفكار؛ ابتهج به كون العالم يسمع ويقرأ ، معجبا ومندهشا بانفتاح وحرية تعددية وتسامح فكري في مملكته . وضع لم يعرف الإعلام التقليدي كيف يسوقه لتلميع صورة المغرب في الخارج.
رعى الملك الراحل مشروع أصيلة وقدم له الدعم المادي والمعنوي، دون تدخل في اختياراته وبرامجه . وتأكيدا للعطف اصطفى نجله وولي عهده الملك محمد السادس، ليواصل العناية والرعاية والحرص على أن تبقى أصيلة "هايد بارك" المغرب، كما نعتها والده المنعم .
هل يغير الأمين العام، بعد أربعين عاما، بنفس صيغة إعلان اختتام الدورات السابقة؟ أم تراه هيأ أنشودة المرحلة القادمة . هنيئا لموسم أصيلة بمرور أربعة عقود. لعل القادم أفضل من الذي مضى ....