هونغ كونغ : خروج الأسد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د.عبدلله المدني: قصة هونغ كونغ، أو ما يمكن ترجمته إلى "الميناء العطر" و التي عادت إلى أحضان أمها الصينية في منتصف ليل الحادي و الثلاثين من يونيو 1997 بعد فراق دام أكثر من قرن و نصف، مع الكلونيالية تبدو مختلفة في مقدماتها و تفاصيلها، وان لم تختلف في مظاهرها العامة عن غيرها من قصص المستعمرات البريطانية في الشرق الأقصى. ذلك أن عملية اقتطاعها من الجسد الصيني جاءت على مراحل، و تميزت كل مرحلة بأشكال مختلفة من الضغوط و الذرائع و الحجج لتنتهي غالبا بخوض حرب ضد أصحاب الأرض الأصليين و إملاء الشروط و المعاهدات القاسية عليهم.
البداية كانت في العشرين من يناير 1841 الذي شهد احتلالها بالقوة العسكرية من قبل الكابتن البريطاني تشارلز ايليوت كرد على قيام السلطات الصينية باحتجاز ألف صندوق من الأفيون البنغالي التابع لشركة الهند الشرقية البريطانية في ميناء كانتون، و منع البريطانيين من إغراق الصين بتلك السموم التي كانوا يجنون من وراء الاتجار بها أرباحا طائلة. لكن تجار الأفيون ممن حارب ايليوت من اجلهم و ضرب لصالحهم حصارا بحريا حول ميناء كانتون من اجل تسهيل عملية انتزاع معبر ملائم آخر لتمرير السموم إلى داخل البر الصيني، هاجموا الرجل لأن ما توصل إليه لاحقا مع الصينيين من معاهدات كان في نظرهم متسما بلهجة تصالحية و تنازلات كثيرة، ناهيك عن احتوائه على الموافقة على استمرار دفعهم لضرائب جمركية عن تجارتهم، حتى بعدما وجدت هذه التجارة منفذا بديلا لها عبر ميناء هونغ كونغ المقفر الكئيب وقتذاك. ليس هذا فحسب، بل أن وزير خارجية الملكة فيكتوريا بادر إلى وصف هونغ كونغ بأنها مكان غير صالح لخدمة المصالح التجارية البريطانية و بالتالي لن تعوض الخسارة الناجمة من إغلاق موانيء كانتون في وجهها. و من هنا تراخت لندن طويلا في إعلان السيادة رسميا على هونغ كونغ، و أن لم تمتنع عن تعيين حاكم بريطاني عليها في عام 1934 هو السير هنري بوتنجير الذي كان منذ عام 1841 مسؤولا إداريا عنها.
وقد قام هذا الأخير، على الرغم من عدم حماس مرجعيته في لندن، بالبدء في تعمير الجزيرة و تشجيع الناس على الاستثمار السكني و العقاري فيها. إلا أن خطته هذه توقفت بعد وقت قصير لانشغاله في ما عرف بحرب الأفيون الأولى مع الصينيين الذين ظلوا يقامون الأوضاع الجديدة الناشئة في هونغ كونغ. و في عام 1942 توقفت هذه الحرب بموافقة الصين على توقيع معاهدة عرفت باسم مدينة نانكينغ التي كان البريطانيون يستعدون لشن هجوم كاسح عليها. و جاء الموقف الصيني هذا كعامل منقذ للحاكم البريطاني الذي كان يتعرض في بلاده لانتقادات كثيرة بسبب إنفاقه للأموال العامة على "جزيرة لا قيمة لها". حيث استطاعت المعاهدة آنفة الذكر و ما تضمنها من مزايا أن تخفف من لهجة الانتقادات و أن تجعل بريطانيا أكثر ميلا و استعدادا لضم هونغ كونغ إلى التاج و إعلانها ميناء رئيسيا لخدمة مصالحها و نفوذها في شمال شرق آسيا.
وهكذا صارت هونغ كونغ منذ اليوم الأول، و بالرغم من وضعها السيء و المتخلف، الماكنة التي تقذف الأموال في جنوب البريطانيين، و حافظت على هذا الدور و لم تتراجع عن أدائه طيلة الحقبة الكلونيالية التي دامت أكثر من 150 عاما.
على أن معاهدة نانكينغ لم تكن سوى الضلع الأول من أضلاع مثلث المعاهدات التي مكنت الأسد البريطاني من قضم ثلاث قطع مهمة من مؤخرة التنين الصيني المتهالك وقتذاك و المثقل بنزاعاته الداخلية. أما القطعة الثانية فقد حصلت عليها بريطانيا كنتيجة لما عرف بحرب الأفيون الثانية أو "حرب آرو"، و التي افتعلتها الأخيرة على خلفية قيام السلطات الصينية بمنع إبحار سفينة شراعية مسجلة في بريطانيا من ميناء كانتون في عام 1856 و اعتقال بحارتها الصينيين. إذ رأت بريطانيا في هذا العمل اعتداء على مصالحها و خرقا لبنود معاهد نانكينغ التي كانت تسمح للبريطانيين و الأجانب بحرية الدخول إلى كانتون و الخروج منها، و بالتالي لوحت للصينيين بالقوة. و بالفعل سار الأسطول البريطاني عبر نهر "بيرل ريفير" و اخترق حدود كانتون و وصل رجاله إلى أسوار مقر الحاكم الصيني، الأمر الذي اضطر الأخير معه إلى الإفراج عن السفينة البريطانية و طاقمها، لكن مع الاعتذار عن تطبيق الفقرة المشار إليها في معاهدة نانكينغ بحجة صعوبة ضمان سلامة رعايا الدول الاجنبية داخل الصين.
في أعقاب هذه الحادثة بوقت قصير صارت كانتون مسرحا لأعمال شغب و تعرضت المصالح الصناعية و التجارية فيها إلى اعتداءات متكررة، الأمر الذي اجبر أصحاب هذه المصالح إلى نقل أنشطتهم إلى هونغ كونغ القريبة رغم وضع الأخيرة الاقتصادي المتواضع مقارنة بوضع كانتون الجيد. فكان هذا العمل بمثابة الخطوة العملية الأولى لتبادل الأدوار ما بين المينائين، و بالتالي الدفعة الأولى لهونغ كونغ نحو التحول إلى مركز تجاري و مالي مزدهر في الشرق قاطبة.
على أن الاضطرابات و القلاقل في كانتون استمرت ووصلت إلى مشارف هونغ كونغ، مما حدا بالسلطات البريطانية الاستعمارية إلى التدخل و احتلال كانتون مجددا بمساعدة زميلتها الفرنسية المتمركزة في الهند الصينية. و لم يحل عام 1858 إلا و كانت قوات هذين المستعمرين قد توسعت في الأراضي الصينية ووصلت شمالا فارضة على حكامها توقيع معاهدة جديدة عرفت باسم "تيين سين" . هذه المعاهدة التي منحت الدول الاجنبية حق اعتماد قناصل لها في بكين و ضمنت لرعاياها حق دخول الصين و السفر بحرية عبر أراضيها. و في مارس عام 1860، و كنتيجة من نتائج هذه المعاهدة، وافقت الصين على التنازل عن شبه جزيرة " كولون" للبريطانيين، ليلحقها هؤلاء بدورهم بهونغ كونغ، و لتصبح المساحة الكلية للأراضي الداخلة تحت سيطرتهم من قضمتين هي 36 ميلا مربعا.
أما القضمة الثالثة فتعود قصتها إلى عام 1889 ، و هي الفترة التي بدأت مسائل الأمن و كيفية تأمين سلامة المستعمرات البريطانية و الحد من نفوذ القوى الاستعمارية المنافسة تشكل هاجسا للندن. إذ وجدت الأخيرة نفسها في حاجة ماسة إلى أراض صينية جديدة لتشكل منها عازلا طبيعيا يفصل و يحمي هونغ كونغ من جنوب الصين و شمال فيتنام حيث كانت تنتشر القوات الفرنسية. وعليه فقد ضغط البريطانيون على الصينيين مجددا و فرضوا عليهم عقدا يتيح لهم مجانا استئجار منطقة واسعة تشمل أجزاء من البر الصيني و 334 جزيرة صغيرة لمدة 99 عاما ابتداء من الأول من يوليو 1898 ، و هي المنطقة التي عرفت باسم "نيو تريتوريز" أو الأراضي الجديدة.
ومما يجدر بالذكر هنا أن حكومة رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق مارغريت تاتشر ركزت أثناء مفاوضاتها مع حكومة بكين في عام 1984 حول مستقبل هونغ كونغ، على إعادة هذه الأراضي الأخيرة فقط كونها وحدها الخاضعة لعقد إيجار ينتهي في عام 1997، فيما بقية الأراضي الداخلة ضمن حدود هونغ كونغ تم التنازل عنها بموجب معاهدات أبدية. إلا أن بكين تمسكت باستعادة كامل أراضيها معتبرة أن المعاهدات المذكورة وقعت تحت التهديد و بين طرفين غير متكافئين. و كحل وسط تم الاتفاق على جلاء البريطانيين عن كامل التراب الصيني في هونغ كونغ، مقابل تعهد بكين بالإبقاء على أوضاع الأخيرة السياسية و الاقتصادية دون مساس، على الأقل حتى عام 2047، وهو التعهد الذي جسدته صيغة "بلد واحد و نظامان".
تميز الحكم البريطاني لهونغ كونغ في الفترة الأولى بإصدار قوانين تعسفية من وقت إلى آخر ضد بعض المقيمين في الجزيرة بصفة غير مشروعة من الصينيين و الذين تجاوزت أعدادهم حينذاك السبعين ألف نسمة. و من هذه القوانين تلك المتعلقة بتنظيم المباني و المساكن و منع الإزعاج. ولتطبيقها كان المدعي العام البريطاني يتجول بنفسه في أحياء الجزيرة و أسواقها مسجلا المخالفات و آمرا بالاعتقالات. و قد واجه الصينيون ذلك بإعلان الإضراب تلو الإضراب و إغلاق المحال التجارية.
وشهدت هونغ كونغ في أعقاب هذه الحركة الاحتجاجية عهودا تولى خلالها منصب حاكمية الجزيرة عدد من البريطانيين، كان القاسم المشترك بينهم إخضاع السكان بالقوة، إلى أن جاء السير "آرثر كينيدي" الايرلندي الأصل حاكما في عام 1872. حيث تولى هذا وضع و تطبيق استراتيجية جديدة وفق مبدأ "لا تحطم المركب الذي تبحر فيه"، بمعنى ضرورة المسايرة والمهادنة حفاظا على التواجد في المستعمرة و التعايش مع سكانه، لكن دون إظهار الضعف. و منذ ذلك الحين صارت هذه الاستراتيجية حجر الزاوية في فلسفة كل من تولى إدارة المستعمرة من حكام، الأمر الذي ساهم كثيرا في نزع فتيل التوتر و الاحتقانات و تأمين أجواء السلام و الازدهار والرخاء.
وحينما تولى السير "جون بوب هينيسي" الايرلندي الأصل أيضا منصب الحاكم العام، حرص أن يكون صارما في تطبيق القانون و عادلا في نفس الوقت. ومما عرف عنه و ترسخ في الأذهان انه لم يتردد في تطبيق القانون حتى على نفسه و أقاربه، بدليل انه سجن والد زوجته بتهمة فتح محل غير مشروع للقمار. و قد اكسبه هذا احترام الجميع حتى انه وصف بالشخصية السابقة لزمانها ومكانها. و من أعمال هينيسي الجريئة الأخرى انه أقدم على تعيين أول صيني كعضو في المجلس التشريعي للجزيرة، كما استجاب لاقتراح هذا العضو ببناء مجمعات سكنية للصينيين بالقرب من معسكرات و مهاجع الجنود البريطانيين، مما جعله يصطدم بقائد قواته الجنرال "دونوفان" الذي عارض الفكرة من منطلق احتمال أن ينقل الصينيون الأمراض لجنوده.
في الحقب التالية، تراجعت بل أنهت الاحتقانات و الخلافات نهائيا بين السلطة الاستعمارية ومواطني هونغ كونغ، و مضى كل طرف يركز جهوده على كيفية الانتقال بالجزيرة إلى آفاق أرحب من الرخاء و الازدهار و البناء. و إذا كان جزء مما تحقق في هذه الجزيرة الصغيرة من تقدم يعود إلى ما سنه المستعمر من قوانين و تشريعات حديثة في الإدارة و مناحي الحياة المختلفة و ما طبقه من خطط إنمائية دقيقة، فان الجزء الآخر يعود الفضل فيه إلى المواطنين ممن تميزوا بروح عالية من المسؤولية و الانضباط و الاجتهاد في اكتساب المعارف و المهارات و التنافس مع أقرانهم في الدول المحيطة في الابتكار و الثراء، بعيدا عن المهاترات و الشعارات و المماحكات، حتى غدت هونغ كونغ بقعة ساحرة و لؤلؤة شرقية ساطعة يشار إليها بالبنان و يحاول الآخرون اقتفاء أثرها.
باحث و محاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي*
إقرا ايضا
الصين: من مجتمع زراعي بائس إلى قوة اقتصادية مهابة