نسرين خوري: بجرة حرب واحدة يتغير العالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&
يتسم شعر نسرين أكرم الخوري بقدر من الحيوية، والحراك المشهدي الذي يلعب فيه الفعل والحدث دورا دلاليا مبدعا، يحرك الجمل والسياقات، ويبث فيها روح الرؤية البصرية المتحركة، ويطلق فيها نشاطا جماليا واضحا.
&في ديوانها:" بجرة حرب واحدة" ( التكوين، دمشق 2015) تنتبه الشاعرة وتنبهنا معها لجملة من المثيرات الشعرية التي تتخذ من حدقة اليومي أفقا لاستقصاء أهداب الكلمات لترى أكثر وتوجع أكثر، وعلى الرغم من أن الشاعرة قد تقدم بعض المشاهد التي تتزين جماليا بصور طريفة، وبوقائع شخصية، إلا أن الفجيعة كامنة هناك فيما وراء الكلمات.
&إن التعبيرات الشعرية لدى نسرين خوري تعبيرات متدفقة، لا تسلم لمقولة التداعي، أو للتتالي الذهني الذي لا يفارق حقوله الدلالية، ولكنها تعتمد التغيير المتتابع للمشاهد سواء على نطاق الجمل الشعرية أم على نطاق المقاطع واللقطات. هذه هي الدلالة الأولية الناجمة عن القراءة الأولى لنصوص نسرين الخوري، وهي دلالة تتجلى بشكل باذخ في نصوص كثيرة بالديوان، ولنتبصر في هذه المشاهد المتتابعة للجلوس في القطار في النص الأول بالديوان:
تجلس في القطار بعكس اتجاه سيره
يصير البلد كنزة صوف تكر منك
تجلس في القطار بعكس اتجاه سيره
تعود طفلا يدير وجهه نحو البلور الخلفي لسيارة والده والوصايا
تجلس في القطار بعكس اتجاه سيره
تغدو عجوزا يلعب شد الحبل مع أحفاده بحبل
مجدول من حكايات صباه
تجلس في القطار بعكس اتجاه سيره
تتمنى لو أنك الحرب كي تصوب رصاصك
مباشرة إلى قلبك . / ص.ص 7-8
المشاهد متدفقة مع كل عبارة مكررة ، كأنها تنقب في ما داخل الشخصية التي يتوجه إليها الكلام الشعري حين تتكرر عبارة:" تجلس في القطار بعكس اتجاه سيره" فإن ثمة إضاءات جديدة تدخل على سياقات النص ومضامينه. تتجدد المضامين وتتغير، كأنها تلتقط بوعي سردي لحظات الكلوز آب التي تركز على الشخصية وتضيئها شيئا فشيئا بشكل متجدد.
&حتى تصل إلى النهاية الدرامية الموتية التي تستدعي الحرب :" تتمنى لو أنك الحرب كي تصوب رصاصك مباشرة إلى قلبك" .
&إن الشاعرة دائما ما تدخلنا في أتون المفارقة خاصة في نهايات نصوصها التي تقلب فيها طاولة الدلالة أمام القارئ وتوقظه بهذه النهايات الصادمة.
انعكاسات مأساوية:
في التصدير المفارق الذي يصور الذات الأنثوية في وحدتها وعزلتها، تتعجب الشاعرة من انتهاء هذه الوحدة وتلك العزلة، لكنها وحدة لم تنته نهاية طبيعية، بل نهاية عاصفة مأساوية، وضعتها في شَرَكِ الموت:
كل هذه الوحدة يا الله
أطاحت بها البلاد
بجرة حرب واحدة
وصرتُ أحار متى أرد إن نادوا عليّ
بقتيلة أم بقاتلة ؟! / ص 6
في كلتا الحالتين ، يتشابه القاتل والقتيل، عندما تجر الحرب البلاد إلى مأساتها. يتشابه قابيل وهابيل، لا فارق بين الوجهين أو القناعين. إن الحرب تفقد الذات عزلتها كما تعبر الشاعرة ساخرة. لكنها سخرية موجعة. نراها تنبث في نصوص كثيرة لنسرين خوري خاصة نصوص:" ما بقي في أدراج النازح، مقهى الفرح، عيد الميلاد السوري، لم أعتد بعد، قصيدة شَعر" تمثيلا. وتمزج الشاعرة بين السخرية وأشيائها الصغيرة، أو لنقل همومها اليومية سواء وجدانية أم واقعية، أو مرتبطة بذكرى أو موقف أو مشهد، حتى إن حالة الفقد الناجمة عن مأساة الحرب تنسرب في مشاهد متكثرة، في " قصيدة شَعر" بفتح الشين، ونلحظ السخرية من التسمية نفسها، يحاصر الفقد مضمونها:
أمشط شعري
تسّاقط فوارغ الرصاصات العالقة به
من كابوس البارحة
&وتتعدد دلالات الحرب في نصوص نسرين أكرم خوري ، وكما ذكرت في مقام آخر : إن الشاعرات لا يصورن الحرب مباشرة أو وقائعها ، ولا ينشغلن بهذا التصوير المباشر ، إنما يلامسن عمق آثارها المأساوية ، ودلالاتها الموتية والتدميرية على الإنسان، على الطفل، على المكان وتفاصيله التي تتحول إلى أطلال وذكرى.
-&تتمنى لو أنك الحرب كي تصوب رصاصك
مباشرة إلى قلبك .
-&ذات يوم أراه يبكي
وكانت دموعه أطفالا وبيوتا وذكريات.
وفي نص :" ما بقي في أدراج النازح" نجد تصويرا دالا لآثار الحرب، وهو تصوير يستمسك بالمفارقة الموجعة التي تشارف عمق الذات الشاعرة قبل أن تشارف عمق الواقع ، تحولاته وتقلباته، فوضاه وقبحه، ووقائعه وشخوصه.
قال لي : اصمدي
أنت كاتدرائية حمص الباقية
ثم رحل
....
وتهيمن هذه الصور المأساوية التي تخفي قدرا كبيرا من الألم داخلها، على معظم الرؤى التي تطرحها نصوص الديوان، حتى الملابس فضتها الحرب في هذا المشهد الذي يتبطن بالسخرية والمفارقة المؤلمة:
قبل أن أمشي ويغادرنا بيتنا
تركت فستاني الجديد مرميا على السرير
تتدلى منه ورقة الماركة
كتميمة تحرسه
لكنها &- على ما يبدو-
لم تمنع أصابع الحرب
من فض بكارته.
&/ ص 15
كما تقول في النص نفسه:
في الحرب:
تتقاسمنا الطلقات والصواريخ والقذائف
لا نموت
بل نتشظى كزجاجات خمر
بينما تنتشي البلاد بما اندلق منا / ص 12
وتعتمد نسرين خوري في إنتاجها النصي على دهشة الصورة المكثفة وهي ظاهرة تتكرر بجلاء في نصوص الديوان محدثة قدرا من الصدمة الدلالية أولا، ثم قدرا آخر من الصدمة الجمالية لقارئ لم يعتد هذا النمط من الصور حيث تتحرك الأشياء وتتناسل جماليا ، ويصبح للصغير قدرة أن يشكل له كينونته وجوهره وعرضه، كما أن الشاعرة تركز على مثاقفة النص من أجل إعادة الذكرى ومراودة الحنين كما في نصوص :" مراكش/ حي الحميدية" و" الحي البرتغالي" نص الحي البرتغالي مع تغير المكان فإن الحرب طالته وطالت حكاياته / ص 16 وفي نص :" عيد الميلاد السوري" ( ص.ص 19-20)& نجد أنه& يتشح بالموت منذ بداياته حين يتساءل عن " وجوه من رحلوا" .
أوجاع الصورة:
هل تتوجع الصورة؟ على اليقين إن الشاعرة هي التي تتحكم في هذا النتاج الذي يصور مشاهد تلو مشاهد، وصورا تلو صور ، سواء كانت على مستوى متابعة المأساة والتحديق في صورها، أم على مستوى الجانب الشخصي. الكتابة الشخصية لا تغفل هذه الآثار المأساوية، وعلى الرغم من تدفق بعض قصائد الحب بالديوان، ومساءلة ومراودة الآخر شعريا، بيد أن ثمة روحا تتشح بحزن شفيف، وبأسى لا تجمله عرامة الكلمات. فالحب لا يكتمل في " ألعاب نارية" بل يحضر كمشهد تزييني في القصيدة، مشهد ذكرى لا مشهد فعل وحراك وجداني، يصبح مجرد تسلية، ومجرد غواية تركل في نهاية الأمر، وهو في نص :" عن الحب وأطفال الآخرين" يموت ويختفي ، ويصبح بديلا للحزن ، بل ويموت وينتهي برصاصة:
هذا الحب لم تخلده القبلة المسروقة
في أزقة الشام العتيقة
ولا القصائد الكثيرة الجميلة
ولا المشي على الشاطئ فجرا
ولا .. ولا .. ولا
ما خلده هي تلك اللحظة
عندما مر من جانبنا موكب التشييع
واندلع الرصاص مخيفا مخيفا
فصرخت باسمك أنت . / ص 37
بنى مكثفة:
&
&فنيا تتكئ نسرين خوري على تأطير عملها الشعري وفق ثلاثة عناصر: التكثيف، والتجريد، والسرد. ومع أن السرد يتطلب قدرا من التوسع والإطناب أحيانا، تبعا للمادة الحكائية الشعرية التي يريد أن يرويها، لكنه يأتي مختزلا مكثفا، ولا تبوح الشاعرة إلا بالقدر الذي يحقق شعرية النص لا سرديته أو حكائيته. كما في " أخضر بني" أو " فضيحتي الجميلة" أو " غرفتك"& مثلا . وتتخذ من الكثافة موئلا جماليا، فالنصوص أغلبها قصير، يتماسك في بنى من الحقول الدلالية التي تلامس اليومي، والأمكنة، والشخصي، والوجداني، والتواصل مع الآخر، والرغبة في تكثيف علاقات تصويرية مما هو واقعي ملموس ، ومما هو معرفي أيضا من خلال استدعاء بعض الشخصيات الروائية أو الشعرية أو الموسيقية حين يحضر "أورهان باموق"، أو "محمود درويش"& أو " موزارت" مثلا.
ويتجلى التجريد في نصوص كثيرة خاصة نص:" لست هي" التي تعبر فيه الشاعرة عن كينونتها بشكل تجريدي تنفي الشيء لتؤكده في الوقت نفسه:
لست هي
مثلها أحب الفساتين الزرقاء
لكنني أفضلها قصيرة
.....
لست هي
الأجنّة المصلوبة في رحمي
لا تبشر بالقيامة
حيث تتكرر عبارة:" لست هي" أمام ثمانية مقاطع مكثفة، ترسم فيها الشاعرة صورة مفارقة لذات شاعرة تبحث عن الأمل بديلا عن الألم المتحقق.
&وهي الصورة التي تتابعها في نص:" أنا ..نية" التي تستقصي فيه جملة من الكلمات حتى تصل إلى الغياب والوداع .
&إن نصوص نسرين أكرم خوري مترعة بالوجع والفقد، ورغم ابتساماتها الظاهرية في بعض نصوص الحب إلا أن ثمة حزنا عرما يتدفق من وراء الكلمات.
&