قراءات

"لا أثر لرأسي الأول": من أجواء الحرب إلى مشهد المفارقات المسنونة

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

&يتمثل ديوان:" لا أثر لرأسي الأول" للشاعرة ليزا إبراهيم خضر أجواء الواقع المأساوي بسوريا، هو واقع بالتأكيد هيمن وجدانيا ورؤيويا وروحيا على الضمير الجمعي السوري، وسوف يأخذ وقتا مديدا لإفراز آلامه ومواجيده، بيد أن الشاعرة حين تلامس هذا الواقع لا تكتب عن أسطحه، أو عن حالات التدمير والقصف، والموت، لكنها تكتب عن الأبعد والأعمق، عما تتركه هذه الآلام الواقعية من أثر في الروح.&

في الديوان قراءة لذات شاعرة تكابدُ أحوالها، لكنها في النهاية تنتصر لجمال ما، يمنحه الشعر وتنقب عنه القصيدة.& يتشكل الديوان الصادر عن دار بعل بدمشق في طبعته الأولى 2015م، من جملة من النصوص الشعرية القصيرة المكثفة، ويبدو أن هذا دأب كتابة المرأة الشاعرة في السنوات الأخيرة، حيث تمتثل الشاعرة لفروض الكثافة والإيجاز، وتطيع هذه الرؤى المحتشدة في كلمات ونصوص قصيرة، وتنأى عما هو مطول أو ملحمي أو إنشادي مغو بالتداعي، ومغر بالاستطراد والاسترسال. حيث يتضمن الديوان (65) نصًّا شعريًّا، تضمها خمسة أقسام تحمل العناوين التالية: فاكهة الحرب &ص 7، أرق ممنوع من الصرف ص 43 / صاحب الظل الطويل ص 89/ غياب ص 119 / مناشير ص 143/ ولكل عنوان منها تصدير خاص بها، مصدرة فاكهة الحرب &- تمثيلا- &بقولها:شيء ما في هذه البلاد شاحبكوهن الملامح بعد طول بكاءوشيء يشبه الشراع العابسيطير ما تبقى للريح من وجهات مطرالشحوب ووهن الملامح والعبوس مدعاة للتأمل، وتطلع للتغيير، سواء تغير الشعور وتغيير الحواس أو تغيير الواقع نفسه، فالحرب التي سطرت تاريخها المأساوي بكل فداحة وقسوة لم تترك سوى هذا التأمل الطاعن في أسئلته.&&دلالات أفق الحرب:&& تتواتر النصوص - في مرجعياتها الجمالية والدلالية - &بين هموم الحرب، والوطن، وبين ما تعكسه هذه الهموم على الذات الشاعرة التي تبدي مواجيدها عبر الكتابة. الواقع المأساوي يسطر أخيلته الممزوجة بأخيلة هذه الذات، ستكون هناك أزمنة متكثرة، وذوات متكثرة أيضا ربما تلجأ للبعيد الماضي حيث تدفق الذكرى، أو تلجأ للبعيد الآتي حيث استشراف مستقبل الذات ورؤاها ربما تحديا لواقع متشح بالمرارة، والقبح، والألم، والكآبة. فكيف كتبت ليزا خضر هذا الأفق؟ &تستهل الشاعرة ديوانها بنص يعبر بشكل مباشر عن هذه المكابدة المأساوية يحمل عنوان:" فاكهة الحرب" (ص.ص 9-11) &يلتقط المشهد اليومي للحرب وانعكاساتها على واقع الحياة، وعلى الناس، الحرب التي غدا فيها الأطفال &- ببراءتهم- فاكهتها التي تقطف يوميا. استهلت الشاعرة بوصف ضيق البحر، الذي " لفظ مده على أعتاب البلد" لكن الأرض " تروب نياشين وسياطا" أما " المغبرون من ركام الوجع مقمرة أحلامهم في الوعود" .. بهذا البدء الذي يصور أولا أثر الحرب، تقدم الشاعرة جملة من الصور تؤكد على يقين أن الحرب مست البحر والبر معا، والأبعد أنها أحدثت وجعا مستمرا لزمن قادم" يقمر في الوعود" على اعتبار أن الوعود فعل مستقبلي لا فعل ماضوي، لكن أخطر ما في الحرب هو أن الأطفال هم فاكهتها:&لا زائر في فسحة الشهيقولا حتى يد مدسوسة في اللحظةالأصابع تتلمس اتجاه الرصاصة التاليةوتزعقتهدهدُ أناشيد الصغارالصغار .. الصغارفاكهة الحرب / ص 9&&الرصاصة (صيغة الموت الصغرى) في كل مكان كأنها مطر لا يتوقف، تحول الأطفال إلى نشيد لها، لكنها نشيد مأساوي بالطبع لأن الأطفال سيقطفون ويغيبون، وهنا تتحول الشاعرة إلى مناداة الموت:" زائر الظلام" بأن يكف . في مشهد تتوالى فيه صور الموت والجنائز والقبور، حتى إن تداعي الصور يقود الشاعرة إلى أن تتمنى أن يصبح الرحم عقيما حتى لا يلد من أجل الموت.&تعبنا يا زائر الظلام .. المقامرينالذين في أذكارهم شره إبليس&يقضم الرقاب والحناجرالمالسة ضمائرهميتنحنحون في حضرة الجنائزيبصقون القبور من جيوبهمكهبة في عسر الولادة***أيها الرحم ولاد الضحاياالحرب من أمامك .. وعارم الغضب من خلفكاطلب العقم الرحيم.. فحسبنابضع حيوات ملمومة الأرواح .&&جماليا، يفسح النص المجال لاقتطاف الأجواء المأساوية ودلالاتها وتشكيل إيقاع الحزن، والموت، والجنائز، وهي أجواء تصنع هنا بالصورة، سواء كانت استعارية أم كنائية، وتصنع بالمفارقة (الأطفال فاكهة الحرب) وتصنع بتتالي المشاهد وتنوعها من البحر إلى الأطفال، إلى المقامرين بالموت، إلى الرحم. هو نص يسعى في جوهره لمعانقة الحياة ولكن بذكر الطرف المأساوي النقيض. النص رغم مأساويته يصبو إلى الروح، إلى الحياة:" فحسبنا بضع حيوات ملمومة الأرواح" . أو في تعبيرها:" نكنس زمهرير الموت كي نهيء مهدا دافئا" .وتنتشر بالنصوص انعكاسات الحرب ودلالاتها، ولو اقتطفنا مجموعة من التعبيرات المختارة عشوائيا كعينة، لتسنى لنا ببداهة تلمس الأجواء الحربية وفداحتها الدالة:- تخيل زرافات الصراخ قيامة، واصرخ لزوم البكاء / ص 13&- لما بين قهوتك وطيش القذائف .. طالعك يتسكع في نبوءة قليلة السكر؟ ص 14&- لا تصلح مراثيك إلا للحشر / ص 18&- إنها الحرب أيها المهزوململم قوافيك عن الصدىكي تنجو من علق الحناجرروح القصيدة / ص 22&- كلما هدأ صوت الرصاص جعتُكثير شبهي بالرمادي المحتال / ص 25&- الآن .. تأزم الوقتمرض الأبيض واسودّ السردالآن .. أجدب كاهل المدينةوهذا الختامضجيجُ لغات عجاف / ص 27& معظم التعبيرات تشير إلى صور فردية، لكنه الفردي الذي يقود إلى الجماعي، أو ما يسمى ب:" الواحد/ المتعدد" فالمأساة جماعية والحرب متعددة. وأسباب الموت تتنامى أكثر وترتقي لتطل على الجميع.& ومن النصوص التي تتبدى فيها أجواء المأساة بشراهة دلالية &- إذا صح التعبير-: " على قيد العيد/ الردهة/ الحياة هي/ حمقى/ ختامها ملح/ وحيدات/ لا أثر لرأسي الأول / تخاريف/ يا سكان الحرب/ ليتني " بيد أن هذه التبديات لا تأخذ أشكال التعبير المباشر أو التقريري، ولكنها تنغمس في مكنونات الدلالة النصية لتتحول إلى إشارات ورموز وصور ولقطات . الشاعرة قادرة بمهارة على تكوينها، ولأن حجم المأساة شاسع، فإن كثافة الصور تأتي لتشكل انزياحا تصويريا مفارقا، مبطنا بالسخرية حينا وبالألم الشفيف حينا آخر.& وفي نص:" لا أثر لرأسي الأول " الذي يحمل الديوان عنوانه، تتبدى الصيغة المأساوية للكتابة في هذا العمل الشعر- سردي الذي لخص الصور الإنسانية على هيئة رؤوس ملقاة، كما تلقى أعقاب السجائر. المشهد باذخ في مأساويته كما يصوره النص، حتى إن الأشياء والأحداث اليومية ذاتها، تتحول إلى فسيفساء مفارقة لأن يد الحرب مستها، فبدلت من صورتها الجمالية الكامنة بالذهن إلى صورة أخرى &- نقيض، حافلة بالأسى، ومكابدة الأحزان، يقول النص:&أقتني خزانة رؤوس أليفة في علّيتيلكل فستان رأس وبوصلة جهاتأوضّبها .. وأمضي مطمئنة إلى مصيريأعرض بيتي للبيع..أغني الأوبرا وأنا أنزل الدرجتسمعني المدينةتسرق رأسي وتعود للنوملا شيء غريبما دمت أذكر كوابيس الجمعةوقمر الدين الذي صنعته آخر عيدما دمت أذكر تاريخ الاستقلالوذكرى موت التفاح في حديقة حبيبيأن الغيمة الخريفية تكذب أحياناوالبحر ليس أزرق كما يدّعيرائحة القرفة..الكراسي تحت شجرة الجوزملامح قبلتكَمدفع رمضان .. والموائد الباذخةتتمطى في عيون الفقراءلكن مهلاكم عليّ أن أقلق؟!يقول الدلال:لا أحد يشتري بيتاشرفته مملوءةبأعقاب الرؤوس .. / ص.ص 72-73&وإلى جوار هذا النص تصوغ الشاعرة نصا آخر حافلا بالمفارقات تلخص فيه رؤيتها في هذا الديوان للحياة وواقعها، وتتبصر بمكابدة الذات حيال هذه الحياة الغريبة: في نص بعنوان: "الحياة هي":&أن تصور العرس بكاميرا تصوير الجنازة..أن تنصب للضوء فخا ثم تلعن كل الظلالأن تتعرق موتا من نكتة حفار القبورأن لا يستشيرك أحد بلون الكفنأن تلتهمك رصاصة فاغرة الناروفي العزاء: متَّ من نبل القضيةأن لا يحلو لك العناق إلاتحت لافتات .. ممنوع الحبأن ترفع أنخاب الزيت في حاكورتكويموت الزيتون جوعاأن يتسابق الكل إلى المائدة ويفوز الفقر بالتزكيةأن تحيا الربيع وأنت على قيد الخريفأن تكتب قصيدة نثركي تهدهد حواسك الخمسالحياة هي..أن لا تلقي من يجيب على سؤالك:لم أنا عالق هنا .. فيّ؟ / ص.ص 37-38&& التمرد الأنثوي:في المشهد الآخر من الديوان، ذات أنثوية متمردة، الأنثى لم تهمل إشكاليات رؤاها، سواء في الحرب أو الحب، أو في الانشغال بأشيائها الصغيرة حينا، أو بالقضايا الإنسانية بوجه عام. النصوص عند ليزا خضر تتقدم لتنشىء حالة من الصدمات المتتابعة، وحالة أخرى من الدهشات الأكثر كثافة. وما بين النصوص التي تحمل بعدا سورياليا إلى النصوص التي تحدث بعدا رومانسيا وغنائيا تمضي أقسام الديوان الأربعة الأخرى، خاصة في نصوص مهمة مثل: (أرق ممنوع من الصرف / ص 48 ) / تمرد ص 66 / حمولة زائدة 76/ تخاريف 79/ ستائر 123 / القبلة الأولى ص 110) .& السوريالي بالتأكيد لا يشير كما يتوقع البعض في سطحه الأول إلى: الغموض والكوابيس، وإلى ترك الحلم يسرد على سجيته، أو ترك الوعي يذهب بعيدا في اجتراح الصور اللا مألوفة. ربما يكون هذا هو المستوى الأولي مما هو سوريالي في النص، لكن الأعمق من هذا كله أن السوريالي يتبصر بالأشياء كوحدة متساوية أي أنه لا يفرق بين دالات كونية أو دالات رملية بسيطة، لا فارق بين مقدس ومهمش، حيث تتلاقى في وعي السوريالي &- وتتساوى &- كل الأشياء، وهنا يصنع نوعا من وحدة الوجود الداخلي، ما لم يره مصنوعا واقعيا. الشاعرة ليزا خضر تقدم هذا المستوى من الرؤية السوريالية في عدة نصوص منها: " أرق ممنوع من الصرف" و" تخاريف" و" متمردة" و" نبوءة" &ومن أجوائها:أريد أن أغضب كما أشاءأقطع صوري وأركبهاكلعبة بلا ألوان&أضع الضحكة وراء الرأس&والعين أعلقها على الأذن الوسطىوأسد الأنف بنثرات اللعابفلا يسمع ضجيج الروائح...أريد أن أقاضي الحببتهمة التحرش في سياسة المعدةوقضايا مرور الأوكسجين في مترو الجسدوابيضاض عين القمر بسطوع رديءواغتصاب المنطق بملعقة عسلوفي مشهد آخر نجد هذا النقيض الذي يقلب الحقائق في تعمد شعري من أجل صنع المفارقة، والصور الساخرة المتتالية من آثار قبح الواقع ودراميته:&&أدهشني أن بتهوفن يسمعوأن المعري لم يكن أعمىوأني كنت في معركة القادسيةوخرجت منها بيد مبتورةفي رقبتها جثة ألف رجلومع ذلك كنت فيها خاسرةكنت أخبر البومة الشمطاء التي تعتلي صدريأني لا أحب الليل وأني أخاف القبور&وهي تشدني من عيني وتشتم.&&ليزا خضر، تقدم نصوصا تحتشد بأساليب متنوعة، سواء عبر التكرار، أو عبر القران بين المهمش والمقدس، أو عبر صنع المفارقات المتتالية . بيد أن الذات الشاعرة تظل حاضرة دائما في الصياغات العبارية، بحضور الأنا المشاهدة التي تتبصر بالأشياء، وبحضور الوعي الذي يشعرنها ويحولها إلى مشهد جمالي مسنون.&&&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف