وكأن أدمغتهم لم توقّع عقدًا مع الشيخوخة بعد
مسنون بذاكرة خارقة.. وهذا ما يقوله العلم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من دبي: من بين آلاف الوجوه التي تذوب في شيخوختها تدريجيًا، يطلّ بعض كبار السن كأنهم يمشون عكس الزمن، يحتفظون بذاكرة حادة، وبذهن يقظ لا تهزّه السنوات. لا يتعلق الأمر هنا بنوع من التفوّق الخارق، بل بظاهرة علمية موثقة باتت تُعرف بـ"المسنين الخارقين" — أولئك الذين يكذّبون النمط الشائع عن شيخوخة الدماغ، ويقدّمون نموذجًا نادرًا لمقاومة الاضمحلال المعرفي.
لكن السؤال الذي يطلّ من بين خلاياهم العصبية النشيطة ليس بيولوجيًا فحسب، بل ثقافي في جوهره:
هل التقدّم في السن حتمية بيولوجية تُفضي بالضرورة إلى التراجع، أم أنه أيضًا سلوك اجتماعي، واختيار ضمني، وخيار مشترك بين الدماغ والعالم؟
لا يُخفي العلماء انبهارهم بـ"المسنين الخارقين"، لكن ما يثير الفضول حقًا ليس فقط احتفاظهم بذاكرة شابة أو قدرات ذهنية لا تبهت، بل ما أظهرته الدراسات الحديثة عن تركيبة دماغهم: مناطق أكثر سماكة في القشرة المعرفية، خلايا عصبية تحتفظ بحجمها وكثافتها، نشاط مناعي منضبط يشبه ما لدى شاب في الثلاثين، وكأن أدمغتهم لم توقّع عقدًا مع الشيخوخة بعد.
ضمن تقرير موسّع أعدّته شبكة CNN، برزت حالة كارول سيجلر، الأميركية التي تجاوزت الثمانين من عمرها، وفازت ببطولة الكلمات المتقاطعة لفئتها العمرية في شيكاغو — لا لأنها سعت إلى اللقب، بل لأنها شاركت "كمزحة"، كما تقول، ثم اكتشفت أنها ما زالت تحتفظ بذهن أكثر حدة من معظم من هم أصغر منها بعقود.
| دراسة تمتد 25 عامًا
تخضع سيجلر حاليًا لمتابعة علمية ضمن برنامج SuperAging التابع لجامعة نورث وسترن، وهو مشروع بحثي مستمر منذ 25 عامًا، يركّز على دراسة فئة نادرة من كبار السن الذين يظهرون مقاومة استثنائية لتأثيرات التقدم في العمر على الدماغ. وفقًا للدكتورة تامار جيفين، أستاذة الطب النفسي والعلوم السلوكية في معهد Mesulam التابع للجامعة نفسها، فإن من بين نحو ألفي شخص خضعوا لاختبارات البرنامج، لم تتجاوز نسبة من صنّفوا كمسنين خارقين 10%.
ما يجمع هؤلاء، بحسب جيفين، لا يقتصر على المؤشرات البيولوجية، بل يتعداه إلى سلوكهم الاجتماعي. إذ تشير إلى أن معظمهم يتميز بانخراط واضح في محيطه ومجتمعه، ويمتلك حسًا قويًا بالاستقلالية، ويعيش وفق قراراته الخاصة، لا وفق ما يُملى عليه.
رغم ذلك، تلاحظ جيفين أن أسلوب حياتهم ليس مثاليًا دائمًا: بعضهم يعاني من أمراض القلب أو السكري، ولا يلتزم بنظام غذائي متوازن، ولا يمارس الرياضة بشكل منتظم. ومع هذا، تظل قدراتهم المعرفية في مستوى لافت يتجاوز حتى بعض من هم في منتصف العمر.
| سمات الدماغ
ما توصل إليه فريق البحث في جامعة نورث وسترن يفتح نافذة على الفارق الدماغي الحقيقي لدى هذه الفئة. فبحسب ما جاء في تقرير CNN، أظهرت صور وتحاليل دماغية أن لدى "المسنين الخارقين" منطقة في الدماغ تُدعى "القشرة الحزامية الأمامية" أكثر سماكة من المعتاد، حتى بالمقارنة مع أشخاص في الخمسين أو الستين من العمر. هذه المنطقة مرتبطة بالانتباه والقدرة على التركيز، وهي من أولى المناطق التي تتأثر سلبًا مع التقدم في السن.
في المقابل، لدى هؤلاء المسنين مستويات أقل بكثير من بروتين يُعرف باسم "تاو"، وهو أحد أبرز المؤشرات المرتبطة بمرض الزهايمر. كما أظهرت التحاليل أن منطقة "الحُصين" — وهي الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ — لا تزال نشطة وسليمة إلى حدّ بعيد، وتحتفظ بخلايا عصبية ذات بنية قوية.
ومن أبرز الاكتشافات أيضًا أن منطقة دماغية أخرى تُدعى "القشرة الشمية الداخلية"، والمرتبطة بشكل مباشر بالذاكرة والتعلّم، تحتوي لدى هؤلاء على خلايا عصبية كبيرة الحجم، بحالة هيكلية سليمة. بعض هذه الخلايا كان بحجم يفوق حتى ما لدى أشخاص في الثلاثين من عمرهم.
| توازن المناعة العصبية
من جهة أخرى، لفتت الدكتورة جيفين إلى ما وصفته بـ"الاكتشاف المذهل" في ما يتعلّق بالجهاز المناعي داخل الدماغ. فالخلايا الدبقية الصغيرة، وهي نوع من الخلايا المناعية المقيمة في الدماغ، تلعب دورًا مهمًا في الحماية، لكنها حين تصبح مفرطة النشاط، تُسبب التهابات مزمنة قد تؤدي إلى تلف الخلايا العصبية.
المفاجأة، بحسب تحليل أدمغة المتبرعين من المشاركين في الدراسة، أن "المسنين الخارقين" أظهروا نشاطًا منخفضًا نسبيًا لهذه الخلايا، يشبه إلى حد كبير ما يُرصد لدى أشخاص في الثلاثينيات أو الأربعينيات من العمر. هذه النتيجة قد تعني، وفقًا لجيفين، أن أدمغتهم أقل عرضة للالتهاب، أو أن نظامهم المناعي أكثر كفاءة ومرونة، قادر على أداء وظيفته ثم العودة سريعًا إلى حالة التوازن، دون أن يترك آثارًا ضارة.
| هل تلعب الجينات دورًا؟
في ختام حديثها مع CNN، تطرّقت جيفين إلى البعد الوراثي المحتمل لهذه الظاهرة، مشيرة إلى أن علم الجينات لا يقتصر على "جين محظوظ" يُورّث، بل يشمل أيضًا الطريقة التي تتفاعل بها العوامل البيئية والنمط الحياتي مع تلك الجينات. حاليًا، يعمل الباحثون في برنامج SuperAging على تحليل مجموعة من "الجينات المرشحة" التي يُعتقد أنها تلعب دورًا في الشيخوخة الصحية، وقدرة الخلايا العصبية والمناعية على إصلاح نفسها.
تُبدي جيفين تفاؤلًا بأن التقدم في فهم هذه التفاعلات قد يُفضي، خلال المستقبل القريب، إلى تدخلات وقائية أو تعديل جيني يساهم في حماية القدرات المعرفية مع التقدم في السن، وربما — ذات يوم — إعادة تعريف ما تعنيه الشيخوخة أصلًا.
لا تزال ظاهرة "المسنين الخارقين" نادرة، لكنها لم تعد لغزًا. بفضل تراكم الأبحاث، بدأت تتضح ملامح المعادلة التي تحافظ على يقظة الدماغ: بعض الجينات، كثير من الانخراط الاجتماعي، وقليل من الالتهاب — لا أكثر، وربما لا أقل.
* أعدت إيلاف التقرير عن CNN: المصدر