أخبار

مثقفون وكتاب: القصيبي قلب المحاولة... قلب الحياة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"لا تدوم الحلبات للملاكم اللامع" هكذا وُصف صاحب "شقة الحرية" من الكاتب غسان شربل، فيما غير أديب وكاتب وأكاديمي رثوا الراحل لا بالكلمات بل بالقيم التي عبرت عنها شخصيته، فهو الحر الذي فتح باب الحرية من دون مقابل، وهو طاهر اليد، والوزير العنيد والمشاكس، وهو محب الحياة ومصدر الأمل وصاحب القضية، والمؤسس وصاحب الأثر في الشعر والأدب والسياسة.

فكان بذلك المثقف الذي لا يموت بموراة الجسد الثرى.

وبدا أبرز ما ميز الراحل "غازي القصيبي" في حياته كما في مماته هو ذلك الاجماع المترامي الأطراف على شخصه، بدا إجماعا استثنائيا؛ أخذ من الثقافة والأدب والعمل ورحلة الكفاح الكثير ومن شخصية الراحل وإنسانيته ما هو أكثر.

ويمكن لأي متابع أن يرى ذلك الإجماع في مشهد نادر يتجلي في تغطيات الصحف العربية لخبر وفاته بداية ومن ثم تغطياتها الموسعة التي تركزت على شخصه ومنجزه الأدبي والمعرفي ودوره وشخصيته. فكان ما كتب عنه بمثابة حبال زينة أجادت توديعه وزفه إلى مثواه الأخير.

وفيما يلي سياحة في أهم المقالات التي قدمتها الصحف كافتتاحيات خاصة أو ما اجترحه أصحاب أعمدة الرأي والمختصين عن فعل غياب الأديب والوزير والمثقف الليبرالي السعودي غازي القصيبي.. أليس كل غياب حالة حضور؟

ملفات إيلاف:في رحيل غازي القصيبي

الأخبار اللبنانية.. ترك ساحة المعركة

نبدأ من الأخبار البنانية التي قدمت تغطية مميزة جاء أبرزها في مقال "بدر الإبراهيم" الذي عنون "غازي القصيبي ترك ساحة المعركة.. أحد الوجوه الرائدة في الثقافة السعوديّة".

حيث ذكر الكاتب أن صاحب "شقة الحريّة" لم يكن أفضل روائيي السعودية ولا أعظم شعرائها، لكنه كان الأكثر حضوراً وإثارةً للجدل. الدبلوماسي والوزير والكاتب الذي رحل يوم الأحد بعد صراع مع المرض، خاض معارك لا تحصى، وترك وراءه إنتاجاً أدبياً غزيراً.ومما جاء في مقال بدر الإبراهيم:

غازي القصيبي (1940 ــــ 2010) ليس رجلاً عادياً. لذلك لا يمكن أن يكون غيابه عن المشهد السعودي عادياً. صاحب المواهب المتعددة أغمض عينيه للمرّة الأخيرة أول من أمس، بعد رحلة طويلة ترك فيها أثراً مهماً في مجالات عدة، من الشعر والرواية إلى الدبلوماسية والوزارات المتعددة التي تقلّدها في حياته.

لم يكن أفضل الروائيين ولا أعظم الشعراء الذين أنجبتهم السعودية، لكنه كان أكثرهم إثارةً للجدل. وقد سمح له عمله العام، وإنجازاته الوزارية في نهاية السبعينيات، باكتساب شعبيةٍ إضافية جعلت حصر شهرته في الإطار الأدبي أمراً صعباً.

لقد كان ذكاؤه في التعاطي مع الإعلام سبباً لبروزه على حساب آخرين يفوقونه موهبة ربما، إضافةً إلى غزارة إنتاجه وتعرّض الكثير من أعماله للمنع الرقابي. كذلك، كان دخوله في صراعاتٍ شرسة مع تيار الصحوة الدينية عاملاً إضافياً لإثارة المزيد من الجدل حول شعره ورواياته.

صاحب "العصفورية" الذي تجاوز السبعين، رحل بعد صراع مع المرض استمر عاماً لم يتوقف خلاله عن الكتابة. وكان لرحيله أثر بالغ في الوسط الثقافي السعودي، هو الذي كان يُعدُّ من أهم من يذكرون عند استعادة الأدب السعودي المعاصر.

اشتُهِرَ في بداياته شاعراً، وصدرت له دواوين عدة: "اللون عن الأوراد"، و"أشعار من جزائر اللؤلؤ"... لكن ديوان "معركة بلا راية" يبقى الأشهر بالنظر إلى الضجة التي أثارها عند صدوره في بداية السبعينيات، إذ توافد المعترضون من المتدينين والمحافظين إلى الملك فيصل لحثّه على معاقبة الشاعر، وأُلّفت لجنة وزارية لمحاكمة الديوان انتهت إلى عدم وجود ما "يتعارض" مع الدين والخلق.

كذلك، كان للشعر أثر كبير في حياة غازي الوزارية. بعد نشر قصيدته الشهيرة "رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة" التي عاتب فيها الملك فهد لاستماعه إلى "الوشاة"، أُعفي من منصبه الوزاري قبل أن يصبح سفيراً في البحرين.

وخلال الانتفاضة الثانية في الأراضي المحتلّة، كتب قصيدة امتدح فيها العمليات الاستشهادية في فلسطين، ذاكراً بالاسم الاستشهادية آيات الأخرس. وكانت النتيجة أن طالبت بريطانيا بإقالته من منصبه سفيراً للملكة السعوديّة فيها... هكذا عاد إلى الرياض معرباً عن عدم دهشته: "ما من موقف يمرّ بلا ثمن".

في منتصف التسعينيات، أصدر باكورته الروائية "شقة الحرية" (الريس ـــ 1994) التي تحكي قصة أربعة شبان من البحرين يكملون دراستهم الجامعية في القاهرة. وعزز القصيبي في هذه الرواية صورة "الناصري التائب" التي اكتسبها بكتاباته السابقة وبسلوكه السياسي. وكانت الرواية نسخة سعودية عن أدب "عودة الوعي" الذي انتشر في العالم العربي بعد النكسة، ويُدين "الحلم الخادع" الذي عاشه الجمهور العربي في فترة الستينيات، ويكرّس ثقافة الهزيمة.

هذه الرواية نالت شهرةً واسعة، وطُبعت مراراً، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني. ورغم أنها تحاكم الناصرية وتمجّد خصومها (بطريقة غير منطقية وساذجة أحياناً)، فإنها ظلت ممنوعة لفترة طويلة في السعودية قبل السماح بها في السنوات الأخيرة.

ثم توالت الأعمال الروائية، فكانت "العصفورية" و"أبو شلاخ البرمائي"، وقد جنح فيهما إلى السخرية اللاذعة من الأوضاع العربية، وأصدر رواية "دنسكو" التي ينتقد فيها الأونيسكو بعد فشله في الوصول إلى منصب مدير هذه المنظمة الدولية. كذلك أصدر "سبعة"، و"سعادة السفير"، و"الجنية".

إلى جانب الشعر والرواية، كتب مجموعة كتب ضَمَّنها مقالات متنوعة، بعضها نُشر في الصحف، أشهرها "في عين العاصفة" وهي سلسلة مقالات كتبها أثناء حرب الخليج الثانية. كذلك دخل في جدل فكري مع مجموعة من مشايخ الصحوة الدينية مثل ناصر العمر وسلمان العودة في كتاب "حتى لا تكون فتنة" الذي أثار نقاشاً واسعاً في السعودية. نشر القصيبي أيضاً جوانب من حياته الإدارية التي تنقّل فيها بين الجامعة والوزارة والسفارة في كتابه "حياة في الإدارة". وأحياناً كان ينشر خواطر في كتيّبات صغيرة، ما جعل إنتاجه شبه سنوي.

كانت للقصيبي قدرة عجيبة على تنظيم الوقت. إلى جانب مسؤولياته المتعددة، لم يترك الكتابة والشعر. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً في معظم المجالات التي دخلها، بغض النظر عن قيمة أعماله الكتابية والإدارية. وكان أذكى من تعاطى مع الإعلام، فتحوّل ظاهرةً على المستوى السعودي. مهما اختلفت الآراء بشأن الرجل، يبقى الإقرار واجباً بكونه ترك بصمةً حقيقية في التاريخ السعودي، شعراً ونثراً وحياةً إدارية.

رحل القصيبي، وترك ما كتبه إرثاً. هكذا أراد، وعبّر عن إرادته هذه في قصيدته الوداعية "حديقة الغروب": "لا تتبعيني... دعيني... واقرئي كتبي، فبين أوراقها تلقاكِ أخباري". غيابه سيترك بلا شك فراغاً على الساحة السعوديّة والعربيّة...

الحياة اللندنية.. طوفان من مشاعر الحزن

صحيفة الحياة اللندنية قدمت مجموعة كبيرة من مقالات الرأي التي تنوعت خلفيات كتابها والأجيال التي عبرت عنهم، فكتبت "طفول العقبي" الكاتبة السعودية من لندن مقالا عنونته: "غازي القصيبي ... أيقونة الخلود" جاء فيه:

مغويةٌ هي الحياة! تترك لنا تلك المساحة من السراب اللا متناهي، نركض في دهاليزه، نشرب من ينبوعه، يتعاقبنا نهاره وليله. لا نشعر بأن عجلة الحياة ستقف يوماً أو على حين غِرّةٍ، هكذا من دون مقدماتٍ ولا مبررات!

في صباح الخامس من رمضان ضجّ رنين هاتفي بترنيماتِ حزنٍ مفاجئة! مخيفٌ أن تشعر بأن الغياب غيابٌ أبديٌ وليس موقتاً تماماً كما نتمنى أو كما يمنينا الأمل!

تمر أمامي صورٌ مختلفة! تختلط ثم تنطلق في الفضاء وتتناثر كنجومٍ مشعة كقناديلَ مشتعلةٍ كأكاليلَ من العوسجِ والياسمين. غازي القصيبي عرّابي وأبي الروحي، هذا الاسم الذي يحمل في ثناياه جزراً من اللؤلؤ وعناقيدَ من التجارب المميزة التي تتدلى اليوم فوق عرش نعشه مشكِّلة أيقونةَ الخلود.

لا أعرف من أين لي أن أبدأ وكيف سأنتهي! وأنا أقف حائرة أمام المشهد أحاول أن أطرد تلك الغيوم الملبّدة فوق عيوني.

غازي القصيبي تلك القامة الفارهة، وذلك الغصن العنيد في خضرته. غازي القصيبي رجل الإدارة المحنّك، السياسي غير المسيّس، الشاعر العذب، الطفل الشقي، الشاب المتمرد، الصديق الحاضر، الجار السخي، والمستقبل الذي نحلم أن يكون.

أطالع الصحف وتتردد أمامي كلمة رحل ورحيل تربكني هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى أبدي وقاسٍ للغياب. أهرع إلى مكتبتي التي تصطف في الجزء العلوي منها كتب غازي شعراً ونثراً فكراً وأدباً، كانت كل تلك الإهداءات المميزة باسمي بمثابة أجنحة للحلم، أعماله الناجحة والتي جعلتني أبكي أحياناً وأضحك بصوت عالٍ أحياناً أخرى تطل عليّ من نوافذه المشرَعة من بين أغلفة كتبه المفزوعة اليوم، شعرت بأن أيدي غازي الكثيرة امتدت إليّ ربتَت على كتفي. حينها تأكدت أن غازي لم يرحل ولن يرحل، هو باقٍ فينا، يعلمنا ويخجلنا بمواقفه وتجاربه التي لم يتركها لنفسه بل أشرك بها أجيالاً وأجيالاً.

كشريط سينمائي تمر أمامي صورُ غازي القصيبي، أتذكره عندما تسلّم وزارة العمل وزيراً (كووول) يلبس الجينز والقبعة الشبابية وبضحكته المجلجلة يشارك الشباب العمل بعفوية فنان واستراتيجية إداري يطمح أن يغير الوطن للأفضل.

أتذكره في تلك المقابلة الفذّة له مع كوثر البشراوي على قناة الـ MBC أواخر التسعينات حينها وعلى رغم صغري العمري هتفت من أعماقي بصوت عالٍ لابد أن أقابل هذا الشاعر الساحر. وقد ظننت أن تلكَ الأمنية الطفلة ضاعت وسط ضحكات أسرتي من أمنيتي لحظتها واحمرار وجهي. غير أنه لا يلبث أن يشاء القدرُ فتشرق شمس غازي على عالمي بسخاء، كان ذلك قبل أقل من عامين، كنت أحاول أن ألمح تلك الخلطة الساحرة التي تمتع بها غازي وهو يسألني عن أحلام الشباب وأمانينا للوطن وللمستقبل، كان يستمع إليّ بحنوّ أبٍ، بخشوع راهبٍ، وبإنصات صديقٍ. واليوم وأنا أشهد عبَرات العصافير وبكاء السماء لرحيله، تحيط بي صور غازي المتعددة وتطل على أفقي من جديد، ستظل رسالته لي عن كتابي الأول "طفولة سعودية" مدخراً ملهماً وسيظل مداد القلم الذي أهداني مشكاة ضوءاً لا ينضب.

لم يعبر غازي الحياة ليرحل! عبر غازي الحياة ليبقى يحيا بداخلنا الأمل بالأمس واليوم وغداً.

أما الناقد "شوقي بزيع" فكتب مقالا نقديا في الحياة عنونه "الديوان الذي باغت القصيبي به نفسه!" حيث جاء فيه:

لم يسبق لي أن تعرفت إلى الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي معرفة شخصية ولا شاءت الصدف ان ألتقي به ولو مرة واحدة خلال ملتقيات الشعر العربي ومهرجاناته. لكن ذلك لم يكن ليمنعني بأي حال من قراءة الكثير من مجموعاته ومؤلفاته الشعرية والأدبية التي ظلت تحتفظ لنفسها بنكهة مميزة هي أقرب الى الرشاقة والرقة والهم الجمالي منها الى الشعرية المتصلة بالكدح الذهني والمعادلات العقلية والفلسفية. لقد بدا الشعر في معظم أعمال القصيبي محاولة دائبة لجعل الحياة أكثر خفة وقابلية لأن تعاش في عالم القسوة والفظاظة وخراب القيم. وهو قد توسل لتحقيق ذلك لغة شفافة وآهلة بالإيقاعات والقوافي المتناغمة مع حاجة الشاعر الى الفرح والاستكانة ومعابثة العالم. وكانت لغته اللينة وتلويناته الصورية والصوتية تقربه الى حد بعيد من مناخات الكتابة "الشامية" التي تجمع بين طراوة نزار قباني وحسينة الكرنفالية الشهوانية من جهة وبين المدرسة الجمالية اللبنانية التي تحتفي باللغة المصقولة وأناقة التعبير وتوشيته من جهة أخرى.

تقع تجربة غازي القصيبي، بشقيها الخليلي والتفعيلي، في خانة ما يمكن تسميته بالكلاسيكية الجديدة. لذلك ظلت علاقته بشعراء الحداثة ملتبسة ومحكومة بالتوجس المتبادل. ومع ذلك، فإن قلة من الشعراء والمتابعين قد انتبهوا الى النقلة المفاجئة وغير المتوقعة التي حققها الشاعر من خلال مجموعته الاستثنائية "سحيم" التي أطلقت شاعريته، المحافظة نسبياً، من عقالها ووضعتها في قلب الحداثة الشعرية العربية. فنحن هنا امام عمل شعري شديد التكامل والتنوع والتناغم بين عناصره. ذلك ان الشاعر استطاع من جهة ان يطلق قصة سحيم، عبد بني الحسحاس، الذي عُرف بفحولته وجاذبيته النسائية وسطوته على النساء البيضاوات، من إطارها الزمني الظرفي الى فضاء المطلق ورحابته. انها المعادل الآخر لقصة عنتر العبسي سوى ان سحيم لم يقسم فحولته بين النساء والسيوف ولم يتعرف إلى لمعان ثغورهن بل من خلال المغامرات العاطفية المشبوبة التي جعلته لا يرتضي بامرأة واحدة. انه مزيج من عنترة وعمر بن ابي ربيعة، من الانتقام للسواد المهان عند الأول ومن الوصف الحسي وتلمس السعادة عبر الجسد الأنثوي المتكرر الظلال عند الثاني.

غير ان بيت القصيد في هذه المجموعة ليست القصة او الفكرة وحدها بل ذلك الانسياب الشعري الذي يتدافع كالنهر من أول الحكاية حتى آخرها ومن مقطع الى مقطع. ثمة تداخل في الأصوات والأزمنة والضمائر بقدر ما تتداخل الرؤى والأطياف والمشاعر المتناقضة والملتبسة، وبقدر ما تتداخل ايضاً ابيات سحيم بسطور القصيبي ووجدانه بوجدانه والأنا الأولى بالأنا الثانية في عملية تماهٍ نادرة. في هذه المجموعة تتحد الأضداد وتتصارع الخيارات فوق سطح واحد: الخير والشر، الجسد والروح، الذكورة والأنوثة والحرية والاستعباد:

"أنا عبد وحرُّ/ سميّة كانت مليكة كل النساء/ وكنت أنا العبد، كنت/ مليك جميع الرجال/ وحين اعتنقنا تصادم ليلٌ وفجرُ/ وفي الانفجار تحوّلت الأرض عرساً/ وجاء الشهود".

وكما الرؤية والمعنى كذلك اللغة والأسلوب والجسد البلاغي للنص. فالشاعر الذي يسلم القياد للتداعي العفوي في السرد واللفظ والتقفية يعمد أحياناً الى استخدام مهاراته البلاغية من خلال الطباق والجناس والإحالة والتناظر. لكن ذلك يأتي بلا كلفة ولا افتعال لا بل انه يصب في خدمة المعنى وتطوير الدلالة، كما هو في المقطع التالي الذي يلعب فيه الشاعر، عبر قناعه التاريخي، على اسم "سمية" واشتقاقاته الكثيرة والمؤثرة بما يخدم المعنى والقصد من ناحية ويخلق من خلال تكرار الحروف الصوتية مناخاً موسيقياً بالغ الجمال من جهة أخرى:

وأهمية مثل هذه النصوص انها لا تنجح في الإفلات من الآثار الجانبية السلبية للمحسنات البديعية والتزيين البلاغي والمهارات اللفظية فحسب بل انها تنجح في تطويع الشكل وترشيقه. بما يتلاءم مع طبيعة الموقف المعبَّر عنه والمعنى المراد إيصاله الى القارئ. كما ان تكرار حرف السين، وهو حرف صوتي بامتياز، يحول الشعر هنا الى نوع من الزقزقة التي تشبه زقزقة العصافير، والتي تتوافق أتم التوافق مع حالة العشق والوله التي يعبر عنها القصيبي بلسان بطله الذي يعرف كيف يتلاعب عن طريق اللغة بمشاعر النساء وعواطفهن. فالقصيبي يعرف بحسه الذكوري وخبرته العاطفية وحساسيته الشعرية المفرطة ان اللغة هي إحدى المفاتيح الأكثر نجاعة وفاعلية لولوج قلب المرأة والاستحواذ على إعجابها ولأنه يتقاسم مع سحيم افتتانه بالنساء وباللغة على حد سواء فهو يحول بطله "الاستشهادي" الى قناع له ويحمله بالتالي كل ما يختزنه في داخله من لواعج وشجون إزاء النساء اللواتي أحبهن واللواتي يتحولن الى ظلال متعددة لروح الانوثة الابدية التي تجرنا وراءها، كما يقول الشاعر الألماني غوته. وليس من الغرابة تبعاً لذلك أن تتعدد أسماء الحبيبات المقصودات بالخطاب بين سمية وأسماء وعميرة ومي وهند وبثينة وغيرهن فيما يحافظ الخطاب الشعري على وتيرته الساخنة والقلب على توتره وخفقانه. وحين يخطئ سحيم من دون قصد في تسمية احدى عشيقاته التي تسارع الى لومه ومعاتبته يقول لها: "أنا، هند، عبد الجميلات/أصبو لكل الجميلات/ لكن بعض الجميلات يعبرن مثل السحابة/ بعض الجميلات يرسخن في الروح كالنخل...".

ثمة في ديوان "سحيم" ما يظهر معرفة الشاعر العميقة بعلم النفس وبالكثير من وجوه التحليل النفسي لشخصية سحيم كما للشخصيات الأخرى. فسحيم لا يجد ما يرد به على استعباده من قبل بني الحسحاس كما على سواد لونه سوى شعوره العارم بفحولة طاغية لا يمتلكها أسياده المترهلون من الترف، لذلك فإن اندفاعه الشهواني الأهوج يجيء انتقاماً من هؤلاء الاسياد المستبدين من جهة وهجوماً على الحياة الجائرة التي حرمته من حقوقه الانسانية المختلفة من جهة أخرى. كأن سحيماً هنا يواجه سلطة المجتمع الاستبدادي والعنصري عبر سلطتين اثنتين توفرتا له في آن هما سلطة اللغة والجسد الفتي، وكلاهما معاً ضرب من ضروب الفحولة.

أما الوجه الآخر للتحليل النفسي فيظهر من خلال افتتان نساء بني الحسحاس بعبد قبيلتهن الأسود متجاوزات عقدة التفوق الاجتماعي وعقدة اللون والوسامة والشكل. فالنساء اللواتي افتتن بسحيم لم يفعلن ذلك بسبب وسامته النادرة، كما الحال بالنسبة لزليخة ويوسف النبي، بل لسبب معاكس تماماً ومتصل بجمال القبح، إذا جاز التعبير، حيث ينجح هذا الأخير في استثارة الغرائز الفطرية والشهوات غير المروضة. وهذه الظاهرة يتكرر التعبير عنها في الآداب العالمية المختلفة حيث يتكفل كل من الشهوة والحب في ازالة الفوارق بين الطبقات والأعراق والأعمار. اضافة الى مسالة أخرى تتعلق بما يمكن أن نسميه "حسن الغريب". فالعادة عدوة الجمال، كما يقول بعض المفكرين، لأنها تفسده بالتكرار والرتابة الباعثين على الضجر، في حين أن الغريب والوافد يحتفظ بسحره الخاص الناجم عن الغموض والمباغتة والفضول. وهو ما نرى نظائره في "ألف ليلة وليلة" حيث النساء، كما المدن، يسلسن قيادهن وزمام أمورهن للغريب الوافد.

ثمة بعد قدري في شخصية سحيم، كما يرسمها بنجاح غازي القصيبي، حيث يبدو البطل مشدوداً الى مصيره المأسوي من دون إبطاء وحيث تقوم علاقة ثنائية جدلية بين الحب والموت وبين الشهوة والألم، وهو ما يظهر في غير موقع من الديوان. فحين تطلب أم سحيم من ابنها أن يعلن ندمه وتوبته يرفض الأمر لأنه يرفض أن يخون معنى حياته الموزع بالتساوي بين الشعر والغيد، وفق تعبير الشاعر. وإذ تبدي أم الشاعر خوفها عليه من الاغتيال والقتل يتساءل مندهشاً: "أموت؟ متى خفت من ضمة الموت؟!"، بما يجعل شخصية البطل تراجيدية بامتياز وقريبة من التراجيديا الإغريقية أو الشكسبيرية. لكنه في أي حال ليس وحيداً على جلجلة الحب القاتلة تلك بل ثمة كثيرون في صحراء العرب شاركوه ذلك المصير الفاجع بدءاً من العذريين الذين قادهم الحب الى الجنون والعزلة والهلاك ووصولاً الى وضاح اليمن الذي دفنه الوليد بن عبدالملك حياً في أقبية قصره بعد أن استشعر خيانته له.

يبقى القول أخيراً بأن غازي القصيبي في ديوانه "سحيم" قد ترك لنا ولقرائه جميعاً أحد أجمل دواوين الشعر العربي المعاصر. لكن هذا الديوان لم يكن مأثرة الشاعر فحسب بل كان مأزقه وتحديه ورهانه الأهم على مواجهة الموت.

كما كتب رئيس تحرير صحيفة الحياة اللندنية "غسان شربل" مقالا عنونه "كما تهرب نجمة" وجاء فيه:

هذه قصة قديمة. لا تتغير. لا تدوم الحلبات للملاكم اللامع. تكمن له. تراقبه مندفعاً يسدد الضربات. والأحلام. والأوهام. تخدعه وتحرضه. لينزف كل ما في عينيه من البرق. كل ما في دمه من المواعيد. كل ما في مخيلته من الأجراس. ثم تجلس تراقبه. تتراخى القبضة. يتقوس الجسد المديد. تهرم الالوان في قوس القزح. كان غازي القصيبي ملاكماً. يلاكم الحلبات وهي غدارة. ويلاكم العمر وهو غدار. ويلاكم الحبر وهو استاذ عريق في معهد الغدر القديم.

كان غازي القصيبي مصاباً بنار تقيم في داخله. انها النار التي تلازم الأنقياء الأقوياء. يريدون فتح نوافذ الغد لبلدانهم. ويريدون وقف مواسم القحط في امتهم. ويريدون عزل جينات الوهن. والتصدي للافكار التي تديم السلاسل وتنجب المزيد منها. كان من حزب النوافذ. يلتفت الى تاريخ الامة فيصيبه الغضب من اضاعتها درب المستقبل. ويصيبه الغضب ايضاً من اطباء متحجرين تساهم عقاقيرهم في تعميق آبار الظلام بدل ان تفتح كوة في الليل الشاسع المطبق على عقول الكبار ودفاتر الصغار.

بعض الرجال يمر كأنه لم يولد. لا يستفزه ظلم ولا يجرحه ظلام. لا يغويه برق ولا يستوقفه منعطف. لا تحفزه فكرة ولا تنتابه قصيدة او اغنية. لا يتحداه كتاب ولا تأسره عينان يعجز القاموس عن اسرهما. لم يكن غازي القصيبي من حزب السلامة. لم يستسغ العيش المهادن. والإقامة في مواقع المتفرجين. لا تبنى الاوطان على مناكب عشاق السلامة. ولا ينصاع الحبر لمن يفضل المظلة على المغامرة والمخاطرة.

كان غازي القصيبي مصاباً بنار تقيم في داخله ولا تنام. كان يريد ان يذهب ابعد. وان يكون مميزاً ومختلفاً اخلاصاً منه للعنة الأنقياء والأقوياء. لم يسمح لقفازات الديبلوماسية ان تغتال قدرته على الغضب حين يسترسل الظلم في غيه. ولم يسمح لانشغالات الوزير ان تدفع الشاعر الى النسيان والكاتب الى التقاعد. وببراعة صاغ ميزان التعايش في شخصه بين انشغالات واهتمامات واختلاجات. ميزان التعايش بين جدوى الواقعية وجدوى التمسك بالأحلام.

كان غازي القصيبي مصاباً بسلوك العاشق. وبهاجس الإنجاز. وكانت التحديات تضاعف عزمه وألقه. يهوى الاقامة "في عين العاصفة". ويستريح في "شقة الحرية". ولا يخشى ان يكون اول من يبادر وان تكاثرت عليه السهام. كان يستعذب الاقامة في قلب الجدل. وقلب المحاولة. وقلب الحياة.

في "الزهايمر" الاقصوصة التي خانه القلب قبل ايام من صدورها يلاعب الملاكم المسجى على الألم الموضوعات الكبرى: الموت والحب والنسيان والذكريات والشيخوخة. يستخدم اسماء واقنعة لكنها سرعان ما تسقط ليتكشف ان الملاكم يبوح بهواجسه واوجاعه.

كان غازي القصيبي مصاباً بلعنة اللامعين. يريد ان يترك بصمته اينما حلَّ. في مجلس سرعان ما يطغى حديث الادب فيه على حديث السياسة. وفي مكتب مشغول بالتقدم والاستقرار والتحديث وحماية الشباب السعودي ممن يصطادون في مناخات التعثر واليأس وانسداد الافق. كان السفير يختتم نهاره الطويل بالانفراد باوراقه. ومثله يفعل الوزير. الورقة البيضاء كانت حربه وسلامه. حبر العمر وذهب العمر. خيط الود مع محبيه وهم كثر. وخيط الحوار مع منتقديه وليسوا قلائل.

تعب الملاكم واتخذ الافق شكل يد تلوح. وعلى عادة الكبار غادر الشاعر هادئاً كما تهرب نجمة من تعب السهر لتنام بين سطرين.

كما كتب "زياد بن عبدالله الدريس" مقالا عنونه في جريدة الحياة "غازي القصيبي بين الحياة و"الحياة" وجاء فيه:

عنوان هذه المقالة وضعته الأسبوع الماضي ، حين استلمت نسخة من أحدث إصدارات غازي القصيبي : (الوزير المرافق)، من الصديق الكاتب يحي إمقاسم الذي عرض للكتاب الجديد عرضا ً موسعاً ومشوقا ً فوق التشويق القصيبي المعهود بالطبع (صحيفة الحياة 10/8/2010م).

قرأت العرض صباحا ً واستلمت الكتاب مساء ً. كنا نتحدث، يحي وأنا، عن حالة غازي الصحية الحرجة التي دعته لدخول العناية الفائقة.

قلت بما أن الوضع الصحي بلغ هذا الحرج فسأجعل مقالتي الأسبوع القادم فورا ً عن الكتاب، لعل غازي يسر بقراءة المقالة، وفي الحقيقة أني أنا الذي كنت أطمع أن أسر بقراءته لمقالتي هذه!

ولأن الوضع الصحي أصبح حرجا ً لدرجة ظهور العبارة المخيفة: "غازي بين الحياة والموت"، فقد قررت أن أجعل العنوان هو (غازي بين الحياة والحياة)، الحياة الأولى هي التي يزاولها سائر الناس والحياة الثانية هي التي يختص بها أمثال غازي القصيبي من الكائنات الحية التي تستمر حية حتى بعد موتها. كما لا يخلو العنوان من إسقاط على اسم صحيفة الحياة التي كانت آخر المحتفين بأعمال غازي قبل موته.

هذه هي حكاية المقالة وعنوانها، لكن القدر كان أقدر وخلال خمسة أيام بين ولادة هذه المقالة ووفاة ذلك الغازي، أن يحيلها إلى مقالة رثاء وتأبين .

عنصر الدهشة في كتاب (الوزير المرافق) ليس جَلَد القصيبي على الكتابة والتأليف حتى في أحلك الظروف، ولا أسلوبه السلس الذي ألفناه وعهدناه منه، ولا التقلبات المتمكنة والمحكمة له في مجالات الكتابة بين الرواية والسياسة والإدارة والسيرة والشعر، حتى إنه حيّر الناس وأربك الصحف فيما يمكن تسميته ووصفه به، فلم يجدوا أفضل من أن يصفوه بأنه: غازي القصيبي!

الدهشة في هذا الكتاب الأخير، أو ما قبل الأخير بالأصح، هو هذه القدرة المتقنة عند القصيبي للكتابة في مواطن الغضب والتأزم والمسكوت عنه. ثم يخرج سالماً معافى.

لطالما كُتب الكثير عن أزمة "ثنائية السياسي والكاتب"، وكيف يمكن للمثقف الكاتب حين يتحول إلى سياسي مسؤول أن يستمر في نهجه الكتابي دون أن يسبب حرجاً لمنصبه؟!

لم يكن المخرج من تلك الإشكالية سوى تحوّل الكتّاب المسؤولين إلى الكتابة في المناطق الرمادية تلك التي لا تثير نقعاً ولا صليلاً!

غازي القصيبي بمهارة مذهلة استطاع أن يقبض على المعادلة .. فيحتفظ بصورته المتفردة : كاتباً مثيرا ُ ومسؤولاً مرموقاً. في آن.

للحق، لم تتجل هذه المهارة القصيبية في كتابه الأخير فقط ، بل قرأناها في كتبه (حياة في الإدارة)، (سعادة السفير)، (أمريكا والسعودية)، (أبو شلاخ البرمائي) وغيرها من كتبه الأخرى المثيرة للجدل . الجدل عند الناس، لكن ليس عند غازي المتوافق والمتصالح مع نفسه .

في كتابه (الوزير المرافق) يتحدث عن جيمي كارتر وكأنه يتحدث عن زميله في الدراسة، أما انديرا غاندي فهي ابنة جيرانهم، والعقيد القذافي ولد حارتهم الشقي!

يصف كارتر بأنه (كان حريصا على إرضاء الجميع مهما كانت مذاهبهم ومشاربهم ، وقد انتهى به الأمر بإغضاب الجميع من كل المذاهب والمشارب)، لا يقول غازي هذا الوصف عن كارتر دون أن يحمّله رسالة مبطنة من قناعات غازي نفسه. وعلى نفس المنوال يروي عن أنديرا غاندي قولها: (لقد كانت الرغبة في فرض التطور غلطة الشاه الأساسية، وكانت غلطة أتاتورك قبله. لقد تصوروا أن التغيير يمكن أن يتم بقرار حكومي. هذه نظرة خاطئة. الناس أنفسهم هم الذين يحددون سرعة التغيير ولا يمكن أن تفرض عليهم الدولة أن يتغيروا حسب هواها)، هذا دون شك هو رأي وقناعة غاندي الهند وغاندي السعودية أيضا!

أما حديثه عن ومع العقيد المعقد فهو ما لا يمكنني الاقتباس منه لأنه كله اقتباس.

أما الكاتب عبدالعزيز السويد فكتب مقالا في صحيفة الحياة اللندنية عنونه "طهارة يد" جاء فيه:

ما الذي ميّز الدكتور غازي القصيبي عن غيره؟ ربما يقال، مع المنصب..، ثقافة برزت في جملة من المواهب الإبداعية، فهو لم يكن وزيراً وسفيراً فقط بل شاعراً وناثراً وروائياً، قد يكون في هذا جانب من الصحة، لكن هناك أمراً بل أموراً أخرى، بحسب تقديري، أولها أن القصيبي لم يكن متهافتاً على الكرسي، يمكن استشفاف ذلك من جملة مواقف، كتابه حياة في الإدارة واحد منها إذا وضعنا في الاعتبار الظروف التي نشر فيها، إنه أول كتاب - بحسب علمي- يخطه مسؤول عن كواليس العمل الإداري الأعلى، والمؤلف لا يزال في قمة العطاء، بمعنى أن له طموحاً مشروعاً ورؤية في التنمية، وفي الإدارة كان الدكتور غازي الوزير يفوض الصلاحيات لمساعديه إلا أن هيبته كانت موجودة وحاضرة، لأن تفويض الصلاحيات من دون حضور قوي قد يؤدي إلى نتائج سلبية، أما الميزة الأكبر بل الأعظم لشخصية القصيبي الفريدة فهي معاصرته مشاريع ضخمة وتولي بعضاً منها، في الصحة والكهرباء والصناعة بمشاريعها المتعددة، عايش طفرات ضخ مالي كبير ومع ذلك لم تظهر إشاعة واحدة تنال من ذمته المالية، طهارة اليد هذه جعلت حتى من تصيبهم الغيرة من حضوره - وكلنا بشر - لا يستطيعون سوى التوقف أمام هذا السد المنيع، وفي المقابل يتذكر من عرفه عن قرب من موظفي مكاتبه كيف كان يوزع راتبه على صغار موظفين، ويرسل لهم بطاقات التهنئة موقّعة بخطه، كان غازي القصيبي في الصعود الإداري مثل صاروخ أو لنقل مثل مصعد كبير نقل معه عدداً لا بأس به ممن رأى فيهم كفاءة إلى أعلى المراتب الإدارية فكثر حوله الأصحاب، وفي قصيدة نقلها على "العربية" الشيخ الدكتور سلمان العودة اشتكى من تخلي أصدقاء عنه في أواخر حياته.

كانت السفارة هي الفاصل بين فترتين من حياة غازي القصيبي الإدارية، حقق النجاح شعبياً في الأولى منها، ولم يتحقق له مثيل له في الثانية، ويلاحظ أن قطاع الأعمال كان صديقه في المرحلة الأولى وخصمه في الثانية، فهو صديق أثناء الضخ وخصم أو متمنع عند العطاء، من هنا لا يستغرب أن تكون فترة وزارة العمل فترة غير سعيدة في حياة الدكتور رحمه الله تعالى، ظهرت إشارات إلى ذلك في كثير من التصريحات والمقابلات الصحافية، لا ينسى أنه استطاع بذكاء تأسيس شراكة مع الصحافة، عند بدايات المسؤولية تمكّن من استثمارها، في الصحة والكهرباء والصناعة، كان أول من استخدم الإعلام كسلطة ميدانية في مجتمع محافظ، وأعلن أول حالة رشوة خسرت بسببها شركات كورية فرصاً كبيرة، ولم يكن الصحافيون يرون في الوزير غازي خصماً أو مسؤولاً متحصناً في مواجهتهم، حتى وإن كان له رأي فيهم أو في بعضهم، وعندما حاول البعض تقليده لم يكتب لهم النجاح.

أما الكاتب "جميل الذيابي" فكتب مقالا عنون "الفقيد غازي يكتب "حراً"" جاء فيه:

ارتعدت اليد وسقط القلم، فنزف حباً وحبراً وفكراً وشعراً ونثراً في غياب عراب التجديد. كيف لا؟! وهو يبحث عن كلمات تليق بعزاء ورثاء غازي القصيبي، فقيد المملكة العربية السعودية الشاسعة والوطن العربي الكبير، وفقيد أصدقاء كثر في أرجاء المعمورة.

رحمك الله يا غازي.. وألهم الله زوجتك وأبناءك وأسرتك وأهلك الصبر والصبر والصبر. نُقل خبر وفاة أبي سهيل صباحاً، في خامس أيام شهر رمضان الكريم 1431هـ.. في شهر الرحمة والمغفرة والخير والبركات.

رحمك الله يا غازي.. فلم تكن فقيداً لعائلة صغيرة يا أبا سهيل، بل فقيد كل عقل عربي يبحث عن التغيير والتفكير والتقدير.

نظرت إلى صورة قديمة تجمعني بالوزير والشاعر والديبلوماسي القدير غازي، فاجتاحتني عاصفة من الألم والحزن، وسقطت من عيني دموع محبة تقديراً لرجل قدره كبير في نفسي، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره.

عرفت القصيبي دؤوباً، يسأل عن الكل، ويتمحص العبارات، ويفحص الكلمات، ويشجع كل عقل جديد وكل صاحب مشروع جريء يأتي بمصلحة الوطن أولاً.

عرفته سنوات طويلة، وفي كل مرة أجده كما كان، وفياً وكبيراً لا يتغير، بل في كل مرة ألتقيه فيها أشعر بكبر قلبه وعقله وديبلوماسيته وحيويته وحبه للعلم والتعليم.

عرفته وهو سفير، وقبلها وزيراً، وبعدها وزيراً، وقبل هذه وتلك كان غازي الإنسان المثقف والشاعر والروائي المتقد بالأحاسيس والمحب للعمل ولكل الناس.

أعذرني أبا سهيل، فقد سقط القلم من يدي مرة ثانية وثالثة، وتساقطت من عيني دموع حزن وألم كبير يعتصران قلبي لفقد رجل مختلف مثلك، وجدناه مثالاً للتغيير والتصالح مع نفسه وذا الوجه الواحد في زمن تتشكل فيه الوجوه وتتنوع وتتعدد وتتسع بينها المسافات والحسابات.

لقد عبر غازي بفكره إلى محبيه وقرائه، من المحيط إلى الخليج، بطرق "غير مفروشة" بالورد، بعد أن واجه تحديات أصحاب "الحسابات" والأصوات "النشاز" بكل قدرة وشجاعة في مراحل عمرية، لا خيالية كما يكتبها البعض، من وراء جدران "عنكبوتية" وتحت أسماء مستعارة.

لقد كان القصيبي بشعره ونثره وفكره يرنو إلى بناء إنسان متسامح مفعم بالحب ومهموم بإشغال العقل لخدمة الإنسان. لقد كان عندما تسن الأسئلة أمامه تأتي إجاباته "غازية" مقرونة بالأدلة والأسئلة وعمق التفكير.

رحل غازي بعد أن نجح في وضع علامات استفهام وتعجُّب عند المؤيدين والمختلفين معاً، لأنه كان صاحب الوجه الواحد الذي "يبش" بالصراحة، ويملك الشجاعة عند المواجهة أو المقاومة.

رحل غازي إلى الرفيق الأعلى وأنا مازلت أقرأ كتابه الجديد "الوزير المرافق"، فهو - كما يقول محبوه - لا يزال بيننا يكتب حراً.

وكتبت الروائية رجاء الصانع مقالا في جريدة الحياة اللندنية عنونته "كان ولا يزال أروع ما في حياتي" حيث جاء فيه:

كنت في الثامنة من عمري عندما دخلت أمي إليّ المنزل وهي تبكي على كتف أخي الأكبر، وعندما سألت أخي الثاني عن سبب دموعها التي لم أرها قبل ذلك اليوم قال لي: بابا توفي، الله يرحمه. قد يقول الناس إن طفلة في الثامنة لا تفهم معنى الموت، إلا أنني التفت إلى أصغر إخوتي والذي يكبرني بثلاثة أعوام والتقت أعيننا للحظة وكأننا نسأل بعضنا عن التصرف اللائق في مثل هذا الموقف، اندفعنا بعدها أنا وهو نبكي كما بقية الأسرة ونحن لا نعي تماماً مقدار الألم الذي يحيط بنا.

اليوم وبعد عشرين عاماً، دخلت أمي إلى غرفتي لتوقظني من نومي وتقول لي: غازي القصيبي توفي، الله يرحمه. هذه المرة لم أحتج لمن يشرح لي حجم الفجيعة، أو أن يعلمني كيف عليّ أن أتصرف في مثل هذا الموقف، أنا الخبيرة في شؤون الفقد منذ الصغر.

بكيت ومازلت أبكي وسأظل أبكيه مع الباكين طويلاً. وجدت نفسي أدعو له بالشفاء وأنا ممسكة بتمرتي عند الإفطار مثل كل يوم فبكيت أكثر. تذكرت وقتها دعائي اليومي وأنا في أميركا أن لا يفجعني الله بفقدانه وأنا في الغربة لا حول لي ولا قوة، وكأنما استجاب الله دعائي وتوفاه بعد أربع أيام فقط من عودتي للرياض بعد إنهائي دراستي في أميركا، ليمحو حزن فقدانه كل فرحة بالتخرج والعودة إلى الوطن.

كنت أستعد لامتحان مهم في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عندما جاءني خبر مرض أبي الروحي الدكتور غازي القصيبي، فخانني تركيزي ولم أوفق في امتحاني من شدة خوفي عليه.

ولم أخبر أحداً سواه في ما بعد بهذا الأمر. ولأنني أعرف حسرة المشاعر التي تتأخر عن الوصول في وقتها، صرت أكتب له أثناء رحلة علاجه الطويلة والصعبة لأنقل له محبة جيل ووطن وأمة، علّ ذلك يخفف من آلامه، هو الذي لم يكن يشكو ولم يتوقف يوماً عن ذكر الله وحمده.

كنت أستمد من صوته المبهج الرخيم الذي يهطل عليّ مطمئناً بين الحين والآخر القوة والصبر والمرح في أحلك الأوقات وأشدها ألماً.

غازي القصيبي الذي أشاع كثيرون أنه خالي أو قريبي أو كاتب روايتي الحقيقي لم يسمع باسمي قبل أن تصله مسودة روايتي يوم الخميس الثالث والعشرين من نوفمبر عام ٢٠٠٤. عندها اتصل بي على الرقم المكتوب على المسودة لأجيبه ببرود (كنت مشغولة حينها بالتجهيز لمحاضرة طبية): نعم مين معي؟ وعندما قال معك غازي القصيبي توقف الكون عند تلك اللحظة، سكت لثوانٍ ثم طلبت منه بكل هدوء أن يتصل بعد خمس دقائق لأنني بحاجة لأن أصرخ فرحاً، أيقن عندها أنه بصدد "مرجوجة" وبالفعل أقفل الخط وذهبت للقفز على سرير الوالدة وأنا أبكي فرحاً باتصال قدوتي ومثلي الأعلى ومن سعيت سنين للوصول إليه قبل أن أعرف أنه يقرأ كل بريده الخاص في الوزارة بنفسه!

واتصل بي الدكتور بعد دقائق ليسألني من أنا وكم عمري ومتى بدأت الكتابة، وهل ما كتبته يحدث في الواقع في الرياض.

سجلت في ذلك اليوم التاريخي شريطاً صوتياً "آنذاك كنت أسجل أفكار الرواية صوتياً عندما لا أجد الوقت لتدوينها" عندما فاق الرضا والسعادة بعد اتصاله حدود الكتابة. في ذلك اليوم وأثناء ذلك الاتصال أخذت على نفسي عهداً بأن أتذكر سعادتي تلك في أي يوم تعيس يمر بي في ما بعد، وهأنا أتذكرها الآن وأتوقف عن البكاء.

أتذكر تفاصيل تلك المكالمة بحذافيرها وأتذكر كل ما تلاها من حلم. أتذكر كيف قرأ أول مئة صفحة من الرواية في ساعة وكيف أنهى الرواية على رغم مشاغله آنذاك في أسبوعين، ثم كيف قرأها مرة ثانية ليضع ملاحظاته مؤكداً أنه لم يفعل ذلك لأحد من قبل إلا أنه أعجب بالرواية وتوسم في كاتبتها الخير. أتذكر أنني اختلفت معه حول أجزاء أشار عليّ بحذفها فعملت برأيي في النهاية لا برأيه ولم أحذفها فغضب من عنادي لكنه نسي أو تناسى الأمر كالأب الحنون بعد انتشار الرواية.

قلت له في رسالة فاكس بتاريخ ٤-٣-٢٠١٠: "بالنسبة لي، أن نصبح أصدقاءً، وأنتَ أنت! وأنا أنا الطالبة "اللي ماحيلتهاش حاجة" كان ولا يزال أروع ما في حياتي.. إيمانك بي عندما كنتُ "لا شيء" يضعك في مرتبة تقف فيها وحدك. فأهلي يؤمنون بي لأنهم أهلي، وأصدقائي لأنهم أصدقائي.. أما أنت.. أنت! لماذا وكيف؟ وهل كنتَ أكيداً مما سأفعل؟ هل رأيت في علم الغيب أن روايتي ستُتَرجم إلى ثلاثين لغة؟ أنا لم أكن لأصل إلى ما أنا عليه لولا عاملان مهمان.. إلهامك لي قبل أن أعرفك عن قرب.. بسبب نجاحاتك وشخصيتك وانبهاري بكل ما أنت عليه حتى أنني كنت أقول لمن يسألني ماذا تريدين أن تكوني عندما تكبرين؟: أبغى أصير غازي القصيبي "بس ربك ستر!".. والعامل الثاني هو قربك مني منذ ٢٣-١١-٢٠04 وحتى صدور الرواية في سبتمبر ٢٠٠٥ قبل أن أصبح شيئاً يُذكر.

أحمل بداخلي الكثير عن غازي القلوب، غازيها بالبهجة الخالصة في حياته وبالحزن الموجع جداً بعد وفاته. الرجل الحلم بالنسبة لجيلي بأكمله، الإنسان الذي لا يعرفه الكل كما يستحق أن يُعرَف. الرجل الخدوم فاعل الخير الذي تعلمت من أخلاقه أكثر مما علمتني حياته في الإدارة والوزارة والسفارة، ورواياته وأشعاره، وهي علمتني الكثير. عندما أتذكر الآن كيف كان الدكتور يكتب عن رحيل أصدقائه الذين اختارهم الله إلى جواره قبل أن يختاره، كيف كنا نقرأ ما يكتب ولا نشعر بما يشعر به من ألم وهو يرثي أصحابه ورفاق دربه، أشعر بأن من واجبي أن أكتب عنه حتى وإن لم أكن بقوته وصلابته التي تجعلني أتمالك نفسي في مثل هذا الموقف الصعب لأكتب بهدوء في رثاء أبي الذي أعرفه وتيتمت بوفاته للمرة الثانية في حياتي.

عزائي الحار لحرمه ورفيقة دربه، وإخوانه وأخواته، ولأبنائه سهيل ويارا وفارس ونجاد، وأسرهم. تعجز الكلمات عن مواساتكم في فقيدكم وفقيدنا الغازي الغالي، الذي رحل إلى جوار ربه الكريم في أفضل الشهور وترك القلوب مكلومة والألسنة تلهج له بالدعاء.

.. أنتم عزاؤنا ونحن مدينون لكم بكل وقت قضاه والدكم رحمه الله في خدمتنا في مناصبه العديدة عبر السنين، وبكل سطر خطه في كتاب وبكل عطاءاته التي شاركناكم فيها، مدينون لكم حتى في الحزن الذي سمحتم لنا بأن نتقاسم بعضه وإياكم مدعين بأننا نشعر بما تشعرون به لفراق الوالد الغالي ومعزين بعضنا بعضاً فيه. عزائي موصول لأسرة القصيبي كافة، ولأبي غازي الأستاذ هزاع العاصمي مدير مكتبه، ولسكرتيره الخاص الأخ نواف المواش، ولمنسوبي وزارته وأصدقائه ولكل من حظي بالقرب منه في حياته ولكل من دمعت عيناه لفراقه.. لكل من تألم لألمه على سرير المرض وابتهل لله بالدعاء في جوف الليل وآناء النهار حتى يكشف بأسه.

ربِّ إن لي والدَين اليوم تحت الثرى، ارحمهما يا واسع الرحمة وأكرم نزلهما واجعل قبريهما روضتين من رياض الجنة وأسكنهما الفردوس الأعلى يا من وسعت رحمته كل شيء.

"وددت لو أني سبقت الردى/ إليك. لو أني حرست السريرا/ لو أني قبلت ذاك الجبين/ يرش ضياءً ويندي عبير

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف