وأخيرا هبت العاصفة (3/4): الشعراء يتبعون العدم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الثقافة كضد نوعي
إن فهم مسألة اختلاق ضد نوعي ثقافي يحتم, في البدء, تبين ملامح ذلك النمط الذي اعتبر, قبل حرب الخليج الثانية نمطاً مضاداً لخطاب السلطة. أي إن على المرء، قبل كل شئ، استرجاع ملامح النمط الذي اعتبرته السلطة مضاداً لها, في فترة ما , ثم سرعان ما خلقت له, ضداً نوعياً في ما بعد.
باختصار شديد، تجاذب الثقافة العراقية في الثمانينيات، تياران متصارعان أحدهما تقليدي متماه مع ثقافة البعث ومثله حرس الثقافة التقليديون وكان اغلبهم من جيل الستينيات بينما الآخر حداثي متماه مع رؤى فهمت من طرف السلطة بوصفها مضادة وتتعارض مع خطابها الموروث المستلهم، عادة، من الخطاب القومي. وقد تجسد الصراع في حقول الأدب ونظرياته والموقف من التراث والمناهج الجديدة التي دخلت العراق.
وطوال فترة الثمانينيات ظل الصراع محتدما بين الاتجاهين:هذا يتمثل بالستينيين من أمثال سامي مهدي وخالد علي مصطفى وحميد سعيد وأمثالهم وذاك بتمثل بالسبعينيين والثمانيين من أمثال زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وسلام كاظم وأتباعهم.
التفاصيل، بهذا الصدد، واسعة ومعقدة لكن مع هذا يمكن اختصارها بالآتي: في ما يتعلق بالموقف من الأدب، انحصر الصراع في الدعوة إلى قصيدة النثر إذ دعا الأدباء الجدد إلى كتابتها محتذين خطوات الشاعر السوري أدونيس الذي قاد الحداثة العربية منذ الخمسينيات وبات منذ تجربة مجلة "شعر" اللبنانية رافدا جد مؤثر في الشعرية العربية والموقف من التراث.
الحال أن دخول مقولات أدونيس إلى الثقافة العراقية في الثمانينات مثل، بالنسبة لثقافة البعث، ناقوس خطر سياسي وليس ثقافيا فقط. وأبرز مخاطره حسب رأي سامي مهدي، وهو أكثر الستينيين البعثيين وعيا بهذه المسألة، هو الموقف من اللغة والتراث.
فأدونيس وأتباعه من المتلفين حول مجلة شعر نظروا إلى اللغة على أنها عائق يجب إزالته ورأى بعضهم بضرورة تقعيد "اللغات المحكية" واعتبارها بديلا في حين ركز أدونيس على إحياء المهمش والمقصي من تراث الشعوب العربية وهو ما يعني، بالنسبة للقوميين، بعثا خطيرا لـ" شعوبية" قديمة (52).
لذلك ركز سامي مهدي على هذه المخاطر التي يختصرها الصراع حول قصيدة النثر والموقف من اللغة. واليكم ما يقوله في كتابه "أفق الحداثة وحداثة النمط " وهو كتاب خصصه لتسفيه آراء أدونيس في اللغة والدعوة ألى قصيدة النثر والموقف من التراث.
يقول سامي مهدي: "إن اتهام تجمع شعر بمعاداة تراث الأمة العربية أو الانقطاع عنه ليس اعتباطيا ولا تعسفيا بل هو ناجم عن نظر عميق في أشعارهم وتفحص دقيق لأقوالهم" (53).
ويضيف أن "أولئك الشعراء يعتبرون التراث العربي جزءا من واقع لغوي ليس لهم خيار فيه... أما التراث الذي يؤمن به شعراء تجمع شعر فهو تراث المراحل الوثنية والمسيحية التي مرت على المشرق العربي. بل الهلال الخصيب على وجه التحديد" (54)
قدر تعلق الأمر بالثقافة العراقية واستلهامها محاولات أدونيس ورؤاه يتوقف سامي مهدي في بضعة أسطر مهاجما الستينيين الذين كتبوا قصيدة النثر ومن ثم الثمانينيين من أمثال سلام كاظم وخزعل الماجدي قائلا "وقد قام أصحاب هذه المحاولات مؤخرا بالدعوة إلى ـ كتابة جديدة ـ كتابة تلغى فيها الأنواع الأدبية وهو ما دعا إليها أدونيس في مجلة مواقف منذ أواخر السبعينيات متأثرا بما راج في النقد الفرنسي الجديد ولم يفطن إليه المعنيون إلا اليوم فإذا بهم يتحدثون عنها وكأنها اكتشاف جديد ويجترحون لهذا الشكل معاناة جديدة وغطاء نظريا مهلهلا هو خليط من فتات المفاهيم التي استهلكها أدونيس طوال ربع القرن الماضي... ومن البداهة القول أن عيوب قصيدة النثر التقليدية تتوفر كلها في هذه المحاولات ولاسيما محاولة خزعل الماجدي الفجة ـ استيقظ البوق فوجد نفسه نحاساـ وقبلها محاولته ـ خزائيل ـ (55 )
أن ما يكتبه سامي مهدي كان عادة هو السائد عمليا في الثقافة العراقية خلال فترة الثمانينيات. وطبقا لموقفه من الأدباء الشبان، فان ذلك يعني: تهميش كل ما يتعلق بالرؤى الأدونيسية المتبناة من قبل الأدباء العراقيين خصوصا الشعراء، لذا كان من المنطقي أن يهمش دعاة قصيدة النثر ويقتصر نشاطهم على مجلة "الطليعة الأدبية"المخصصة للشباب رغم أن أغلبهم كانوا يقاربون الأربعينيات من أعمارهم.
لقد اعتبروا، في الواقع، معارضين للثقافة السائدة وفي بعض الأحيان معارضين للسلطة لجهة أن الكثيرين منهم لم يشتركوا في رفد الثقافة التعبوية السائدة أثناء الحرب العراقية الإيرانية كما هو شأن شعراء القصيدة الموزونة والعمودية.
ولئن أسهم بعض زملاء ذلك الجيل، جيل قصيدة النثر، في المهرجانات التعبوية وأطروا صدام حسين فلأنهم كانوا ينتمون إلى التيار الآخر الذي مثله أدباء البعث.
أما كتاب قصيدة النثر، فأن القاعدة عندهم هو الابتعاد عن درن النظام الحاكم أثناء الكتابة واللهاث خلف كل ما تكرهه السلطة من أفكار.
الحقيقة أن هذا الصراع استمر حتى عام 1991 وكان من الوضوح بحيث إن كتابة قصيدة النثر عدت آنذاك معيارا لثورية الشاعر ومعاكسته لثقافة النظام السائدة. بل انك طالما كنت أدونيسيا، حتى دون أن تعلن عن ذلك، تكون أبعد عن شبهة الاندراج في عجلة النظام ثقافيا.
لذا شاعت آنذاك فكرة "تفجير اللغة" كما لم تتفجر سابقا وبدا الاتجاه إلى الغنوصيات والعرفانيات واستلهام نصوص النفري وابن عربي وباقي المتصوفة موضة تلك الأيام. أما الحديث عن "الرؤيا الواسعة" و"العبارة الضيقة " فكان زادا يوميا للسبعينيين والثمانينين.
ما جرى لاحقا هو أن تلك المنظومة ستتبدل كليا وسيلتفت إلى شعراء قصيدة النثر والحداثيين عموما من قبل عدي صدام حسين وسيستخدمون لاختلاق "ضد نوعي" يسود أشكال الثقافة كلها وليس الشعر فقط.
التفاصيل تفيد، بهذا الصدد، أنه في العام 1991 يعين خالد مطلك، وهو شاعر شاب يكتب قصيدة النثر وينحدر من عائلة بعثية، كرئيس لمنتدى الأدباء الشباب خلفا لعدنان الصائغ،الشاعر التعبوي وربيب السلطة الذي يحيل للمرحلة السابقة.
مع تسنم مطلك هذا المنصب بدا وكأن دماء جديدة تتدفق في المشهد الأدبي حيث سينظم المنتدى ملتقى لشعراء الثمانينات عام 1992. وللمرة الأولى, يتم التعامل مع هؤلاء الشعراء باحترام ملفت للنظر وسيبدون شعراء أقرب إلى "الرسميين" و"الممثلين" لنمط ثقافي سائد.
في غضون ذلك سيعاد إصدار مجلة "أسفار" بهيئة تحرير ثمانينية بعض أعضائها يعملون في صحيفة "بابل" في حين سيعين شعراء آخرون كمحررين ثقافيين في صحف "الثورة "و"الجمهورية" و"القادسية" وهم كل من خالد مطلك وعبد الزهرة زكي ومحمد تركي النصار ومنذر عبد الحر وسعد جاسم وحسن النواب. أما وسام هاشم فكان من أوائل العاملين في صحيفة "بابل".
كانت النتيجة التي لمس الجميع نتائجها سريعا هو تحول الثمانينيين من جيل "مهمش" و"مغيب" كما شكوا هم أنفسهم قبيل اجتياح الكويت (56)، إلى جيل رسمي "مضاد" لنفسه، يقف في "مركز" الثقافة العراقية ويحرك الكثير من مفاصلها.
بدل منتدى"نعمة" ومقهى حسن عجمي وشقق الشعراء حيث تتبادل القصائد والأفكار بعيدا عن لوثة المؤسسات الرسمية سيدخل الثمانينيون إلى صلب المؤسسة "محررين" للمجلات والصحف و"مدراء" لبعض المؤسسات.
هل كان الستينيون من أعضاء المكتب المهني موافقين على تلك التغييرات!
كلا بالتأكيد، والدليل هو ما جرى من صراع مستميت في انتخابات اتحاد الأدباء عامي 1993 و1994، حيث سيفوز أدباء شبان بينهم شعراء ثمانينيون في الأولى وسيقودهم رعد بندر لمدة عام في حين سيعود الستينيون إلى واجهة الاتحاد في انتخابات "ثأرية"عام 94 يقودها المكتب المهني ويفوز بها حرس الثقافة التقليديون وعلى رأسهم هاني وهيب ( 57 )
لقد حدث الأمر بطريقة غريبة بعض الشيء في الدورة الانتخابية عام 1993 التي جرت في نقابة المهندسين وأشرف عليها صباح ياسين. منع الستينيون من الترشح بأمر من عدي صدام. وسحب حميد سعيد وعبد الأمير معلة وسامي مهدي ونجمان ياسبن وغيرهم ترشيحهم مقابل مرشحين شبان من السبعينيين والثمانينيين.
والنتيجة هي استحواذ أدباء يعدون شبانا آنذاك بمقاعد المجلس المركزي وكان على رأسهم رعد بندر الذي أصبح رئيسا للاتحاد ومعه رعد عبد القادر ووارد بدر السالم وعبد الزهرة زكي ومحمد تركي النصار وزعيم الطائي وهادي ياسين علي وجواد الحطاب ووسام هاشم وشوقي كريم وغيرهم.
الحال أن نتائج الانتخابات لم تمر بسلام اذ سرعان ما أثيرت الاعتراضات من المكتب المهني وتك التشكيك بها ما أدى الى أعادتها في السنة نفسها فرجع الحرس القديم، ولكن بمعية عدد من الشباب من أمثال هادي ياسين وجواد الحطاب ومنذر عبد الحر.
الأحرى أن الصراع بين تيار عدي صدام وتيار المكتب المهني كان على أشده آنذاك وثمة إشارة مهمة ترد على لسان رعد بندر في حوار أجرته معه صحيفة "الرياض " السعودية، إذ يزعم " شاعر أم المعارك" أنه لم يكن بعثيا وأنه، مع هذا، فاز برئاسة الاتحاد عام 1993، وفي المرة الثانية ـ عام 1996 فاز أيضا بأكبر عدد من الأصوات لكن وزير الثقافة في حينه، عبد الغني عبد الغفور، منعه من رئاسة الاتحاد بحجة أنه لم يكن منتميا إلى حزب البعث، الأمر الذي دعا بندر إلى تقديم شكوى إلى صدام حسين طرد على إثرها عبد الغفور من الوزارة ! ( 58 )
إن مثل هذا الطرح معقول جدا، فجزء من صراع عدي ضد "السلطة" آنذاك كان موجها إلى الحرس التقليديين في حزب البعث من أجل خلق ضد نوعي له، ضد يتكون أساسا من "بعثيين" جدد غير منتمين، في الواقع، لكنهم مع هذا أكثر تمثيلا لأفكار البعث الأصيلة من أولئك "العجائز" من أمثال إلياس فرح وسامي مهدي وحميد سعيد.
حقيقة الأمر أن ذيول ذلك الصراع استمر طويلا، ورغم عودة بعض رموز "المكتب المهني" إلى ممارسة سلطاتهم عام 1996، إلا أن عددا من "شبان" عدي ظلوا يناكدون ويشاكسون"عتاة الثقافة العراقية"، وكان يمكنك الإصغاء لبعض أصداء ذلك الصراع هنا وهناك وبهذه الطريقة أو بتلك.
وللمرء أن يتذكر، بهذا الصدد، ملتقى الشعر التسعيني ـ مثلا ـ الذي رعاه فاروق سلوم في منتدى المسرح خلافا لرغبة اتحاد الأدباء الذي هدد بتعليق عضوية المشاركين فيه حسب شهادة عبد الخالق كيطان. ( 59 )
لقد جرى كل ذلك بالتساوق مع حملة شاملة قادها عدي صدام لـ" تفجير" مؤسسات أبيه الإعلامية والثقافية من الداخل. وكان في النية تركيز كل المفاتيح في أصابعه، ففي عام 1993حل منتدى الأدباء الشباب ودمج أعضاؤه في اتحاد الأدباء وحلت جميع النقابات والجمعيات الأدبية والفنية ثم أعيد تشكيلها بوصفها تشكيلات تتبع لتجمع مركزي أطلق عليه "التجمع الثقافي" وشمل الأمر جمعيات التشكيليين والشعراء الشعبيين ونقابة الفنانين وغيرها من الجمعيات الشبيهة.
كان الجديد في الموضوع هو استبعاد الحرس القديم واستبدالهم بهيئات تتكون من مثقفين شبان أمثال رعد بندر ووسام هاشم ومحمد النصار وهاشم حسن ورحيم مزيد وخالد مطلق ووسام هاشم وغيرهم.
التساؤلات التي تطرح، هنا، هي الآتية: إذا كان مفهوم الضد النوعي يختلق عادة لإفراغ فكرة ما أو آيديولوجيا معينة من محتواها الحقيقي، وإذا كانت صحيفة "بابل" والصحف الأسبوعية الأخرى قد مثلت ضدا نوعيا لصحافة المعارضة خارج العراق، وإذا كان تيار محمد الصدر قد مثل ضدا نوعيا لخطاب المعارضة الشيعية الموجودة في إيران، إذن ما الذي كان يراد من الضد النوعي الثقافي تمثيله، ضد من عليه أن يتوجه يا ترى ولماذا!
أي: لم يتوجه عدي إلى الثمانيين ـ مثلا ـ ومن ثم الحداثيين ودعاة المناهج الجديدة لاختلاق ضد نوعي ثقافي...! من كان المقصود بالضبط؟
إن إجابة عن هذا السؤال ضرورية جدا لمعرفة عدد كبير من النتائج المتحصلة لاحقا ومنها شيوع تلك العدمية الطاغية عند المثقفين الشبان الذين تشكل وعيهم بعيد حرب الخليج الثانية وهم الجيل الذي سمي"جيل التسعينات".
الحقيقة أن الثمانيين الذين بروزا بعد حرب الخليج الثانية بوصفهم فعالين ورسميين في الثقافة العراقية إنما مثلوا ضدا نوعيا لأنفسهم أولا، أو لنقل انهم مثلوا "ضدا" لتلك القيم التي ارتبطت بهم طويلا, وميزتهم طوال الحرب العراقية الإيرانية.
كان الهدف هو إفراغ ما يمكن تسميته بـ"المعارضة الثقافية"من محتواها وتدمير محمولها الذي عرفت به طوال الثمانينيات.
بالأحرى، لن يعود الجيل هامشيا ولن يكون لمقولاته سحر معارضتها لخطاب الثقافة الرسمية. ستصبح قصيدة النثر أكثر من كونها "موضة"، بل ستتحول إلى خطاب شائع وسيكون على النقاد قول كل ما لديهم حولها.
إن الأمر ليشبه، هنا، ما جرى بالنسبة لظاهرة محمد الصدر ومقلديه ولكأن السلطة آنذاك خاطبت الجميع بعبارة واحدة: خذوا راحتكم إلى آخرها وافعلوا وقولوا ما تشاءون، أهذا ما كنتم تحلمون بقوله!
قولوه إذن ولنر كيف سيكون الأمر بعد فترة قصيرة.
نتائج الضد النوعي
كانت الاستراتيجية باهرة النتائج بالنسبة للسلطة ووخيمة بالنسبة لتلك الأنماط الأصلية.
كل شئ بدا سفيها وسقيما: التيارات السياسية الشيعية تشرع في التصارع فيما بينها لحيازة شرعية تمثيل الطائفة، وينقسم المتدينون إلى"صدريين" و"سيستانيين"وللمرة الأولى منذ عقود يصبح من الممكن سب "آل الحكيم" والتشكيك بأصالة معارضتهم لسلطة صدام.
بل في أثناء إقامة عزاء محمد الصدر الذي اغتيل عام 1999، دخل محمد باقر الحكيم لتقديم التعازي فقذف بالأحذية ( 60 )
الخلاصة أن المعارضة التي قدست رموزها طويلا أنزلت إلى الأرض وصار بالإمكان التشكيك بكل شئ يتعلق بها. وكان المستفيد الأكبر من هذه الهزة هي السلطة الحاكمة.
الأمر ذاته تحقق في صحافة عدي"الحرة" فقد نجحت، هي الأخرى،في خلخلة الفهم التقليدي للزوج القديم: سلطة / معارضة.أصبحت السلطة تمارس دور المعارضة ضد نفسها وكانت النتيجة أنها نجحت في تحطيم البنية الكلاسيكية القارة منذ خروج الأحزاب الدينية والعلمانية: امتص بعض الغضب ووفرت الصحافة "الانتقادية" فرص عمل للمتمردين والانتهازيين والأصلاء على حد سواء.
بل إنها استدرجت الكثير من الرموز التي كانت صمتت احتجاجا في الثمانينيات من أمثال عريان السد خلف ومحمد خضير وغيرهما إلى إعادة نشاطها، وكان بالإمكان، في تلك الأيام، قراءة قصائد إنتقادية لاذعة لعريان السيد خلف في صحف كالزوراء ونبض الشباب إحداها تحدثت عن غلاء الطماطة ـ مثلا ـ.
عدا ذلك، نجحت تلك الصحف في تنشيط جو ثقافي راكد وكان محررون مثل احمد الشيخ علي وسلام دواي وعبد الخالق كيطان وغيرهم قد فتحوا صفحاتهم الثقافية لزملائهم من جيل التسعينيات فراح هؤلاء ينشرون بكثافة ودون رقابة أحيانا.
على أن كل ذلك لا يعد شيئا ذا بال إزاء نتائج الضد النوعي في المستوى الثقافي. وعلينا، بهذا الصدد، الوقوف طويلا عند نشوء جيل عدمي بكل معنى الكلمة، جيل بدا وكأنه فقد الإيمان بكل شئ فتساوت عنده المفاهيم والظواهر وقيم الكتابة والمواقف.
بل تساوت عنده المتعارضات التقليدية. كل شئ باطل: هذا ما كان يردده المثقف الجديد وهو يرى بعينيه مشاهد الانهيار،إنهيار الدولة عام 1991 ثم انهيار"ضدها" بعد ذلك، انهيار أخلاقيات الحداثة وانسحاق أنموذجها الذي بات منذ الثمانينيات مثالا يحتذى.
ولكي نتفهم هذه النتيجة الخطيرة علينا العودة إلى جيل الثمانينيات الذي استثمر، بنجاح، في خلق ضد نوعي مناقض لخطابه وطريقة تفكيره وموقفه من السلطة أثناء مرحلة "الهامش" التي كان يرزح تحتها.
الحديث سينصب، هنا، ليس على انهيار مقولات ثقافية أو تبدل ظواهر كتابية، وهو ما بدا واضحا بعد حرب الخليج الثانية، إنما سيتركز حول انهيار في الموقف من السلطة بشكل أربك الوسط الثقافي وخلخله تماما.
فشاعر قصيدة النثر الذي كان يحتقر شعراء التفعيلة والعمود بات ينافس أولئك الشعراء في تمجيد السلطة وبقصائد نثر هذه المرة. ولن يعود الأمر غريبا حين يقرأ شاعر مثل نصيف الناصري قصيدة في عيد ميلاد صدام حسين عنوانها "شمسك على الفراتين ساطعة. وشموسهم رماد".
وعدا الإهداء إلى"الرئيس القائد في عيد ميلاده الميمون"، كان بإمكان الناصري القول، على غير العادة:
"يا أولاد المحارم / موتوا بعاركم، بزفت خياناتكم/ موتوا بنذالتكم / وسوف نطعم لحومكم للكلاب / صدام أنت المرتجى، أنت الأمل / وأنت الفادي/ فدتك كل أرواحنا وكل أعمارنا / يا خيمتنا الكبيرة / يا خيمتنا الوحيدة / شمسك على الفراتين ساطعة / وشموسهم رماد" (61 ).
أما أمل الجبوري فتكتب "يا سيد المسرات/ يا أيها المبجل النبيل / ليظل قلبك واحة من كرنفال / ليظل عمرك سدرة من حب/ كي يكبر العراق/ عاريا من الحزن/يا سيد الفرات" (62)
الحال أن اثر ذلك التبدل كان حاسما من جهات عديدة. ولئن فهم ويفهم دائما على أنه شكل من أشكال الانتهازية عرفته الثقافة العراقية في كل وقت، فان أحدا لن يستطيع إنكار أثره في إشاعة نوع من الخيبة المريرة من انهيار جيل ثقافي كامل نظر إلى "هامشيته" القديمة وتمنعه الشجاع في الثمانينات على أنه دليل على جدوى الإيمان بالحداثة.
كان المثال الذي ضربه عدد كبير من أبناء ذلك الجيل، في عقد الثمانينات، في طريقه إلى إنجاز مهمة مقدسة بالنسبة للجيل الأحدث غير أن انهيارهم المحزن واستخدامهم كـ"ضد نوعي" ضد أنفسهم أدى بمن جاء بعدهم إلى طريقين يؤديان كليهما إلى"جحيم" عدمي واحد.
فمن ناحية ساعد الانهيار المذكور في إكمال دورة انهيار أوسع، أبطالها هذه المرة تسعينيون شبان كتبوا كل أنواع الشعر من قصيدة النثر إلى قصيدة التفعيلة إلى القصيدة العمودية. وكان بعضهم أكثر تطرفا في تمجيد السلطة من الأكبر سنا منهم.
وفي فترة ما، في نهاية عقد التسعينات، شاع مديح السلطة بشكل سمج ومبتذل للغاية وعد الناجون من هذه الموجة أقلية لا يعتد بها.
ورغم أننا غير معنيين، هنا، بإحصاء الأسماء أو التذكير بها ـ وهي مهمة تكفل بها كثيرون ـ إلا أنه من الضروري استذكار نماذج من طرائق الكتابة والتنبه إلى ظاهرة الانحدار الفني التي تعكس"عدمية"من نمط جديد. فالقصيدة، هذه المرة، لا تلتزم بأي معيار فني بل لا تبدو في بعض الأحيان أكثر من كلام لا معنى له:
" يا فارس المجد شعب تصافحه
وهو في كل حين يبايعك
يا من فيك كل الشجاعة والسخاء
وسماحة العظماء
نرفع اليوم لك أصواتنا نعم
للعراق للوطن العظيم " ( 63)
لنقرأ الأنموذج التالي أيضا:
"نستقبل العيد
وكلنا أمل
بغدنا السعيد
لفجرنا الجديد
يمضي بنا صدام" (64)
أما من الناحية الأخرى فقد أسهم الانهيار نفسه، ونحن نتحدث هنا عن الوجه الثقافي له وليس عن الوجه الأخلاقي والاجتماعي، في انهيار عدد من اليقينيات أهمها اليقين التقليدي بوجود مثقف ملتزم , وهذا الانهيار لا يبدو، في الواقع سوى نتاج لانهيار يقين أخر يتعلق بجدوى أفكار الحداثة كونها عاصما معرفيا وأخلاقيا عن الوقوع في التناقضات.
كان التساؤل مريرا جدا: ما معنى الإيمان بالحداثة وروحها إذا كان المثقف مستعدا، بكل فظاظة، لإدخالها كعنصر جديد في سياق سمته الانتهازية وعنوانه تمجيد السلطة !
إن الأمر لا يتعلق بكتاب قصيدة النثر من أمثال نصيف الناصري وأمل الجبوري وعلي الشلاه ومعهم حشد الشعراء الذين ظهروا بعد منتصف التسعينيات إنما الأمر يتعدى ذلك إلى النقد المرتكز على المناهج الحديثة. وانه لمن الطريف فعلا استحضار تلك الدراسات النقدية "الحداثوية" التي دارت حول روايات صدام حسين، مثلا، فرغم أن الراويات تبدو متدنية المستوى ولا تستجيب لأدنى شروط هذا الفن. إلا انه كان بمقدور لغة النقد "الحديث" إيهام المرء بما لم يستطع العمل المكتوب إيهامه به. وقد تفنن عشرات النقاد في تسويد مئات الصفحات للحديث عن تلك الروايات. (65)
إن الأمر يبدو، للأسف، مشابها لما كان يجري قي قصيدة النثر التي عرفت بـ"ترفعها" كما يظن نصيف الناصري. والنتيجة هي شيوع نوع من العدمية الشاملة عند الجيل الأحدث.
لم يعد أبناء هذا الجيل، بالأحرى، يقرءون حسب الشيخ جعفر كما كانوا يقرءونه سابقا، لم يعد"عريان"ساحرا بصمته ولوعته، ولم يعد محمد خضير بعيدا جدا عن أدران" الدكتاتور"، فقد جلس قريبا منه ذات مرة وكتب، اضطرارا كما يبدو "كراسة كانون". وقبل كل شئ لم تعد أفكار الحداثة عاصما من الوقوع في الخطيئة.
بعيد ذلك بسنوات قليلة جدا، وتحديدا ابتداء من عام 1993،شرع انتهازيو الجيل الثمانيني في الإجهاز بشكل نهائي على كل ما تبقى من "اليقينيات" التقليدية التي ورثوها عن الأجيال السابقة.
وكان يمكن مراقبتهم وهم يخرجون من البلد زرافات ووحدانا لينقلبوا على السلطة التي مدحوها سابقا أو حتى التي خدمتهم.
المثال الأبرز على تلك الظاهرة ربما هو الشاعر عدنان الصائغ الذي أثار لغطا لمجرد خروجه من العراق حيث تصدى له زملاءه هناك لفضحه بشكل مزر، خصوصا بعد فوزه بجائزة عالمية تمنح عادة لضحايا الاضطهاد. إقرأ على سبيل المثال سيل الكتابات التي نشرها زميله نصيف الناصري. لقد بدا المشهد طريفا للغاية حتى لكأنه يشبه مشهد لصوص يفضحون بعض في نهاية فيلم ذي إيقاع سريع.
يتبع
هوامش:
52 ـ كان هذا الفهم معروفا على نطاق واسع وشبه سائد ويعد سامي مهدي أفضل من نظر له
53 ـ ينظر مهدي، سامي ـ أفق الحداثة وحداثة النمط ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1988 ص 41
54 ـ المصدر نفسه
55 ـ المصدر نفسه
56 ـ ينظر مثلا العدد الخاص من مجلة "أسفار" عام 1989المخصص لجيل الثمانينات الصفحات...حيث يكتب محمد تركي النصار
57 ـ ينظر بندر( رعد) حوار في صحيفة الرياض العدد 13534 يوم الخميس 14 يوليو 2005
58 ـ المصدر نفسه
59 ـ ينظر كيطان، (عبد الخالق)، صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ 8 ـ 4 ـ 2002
60 ـ رؤوف، (عادل )، "مرجعية الميدان" ص 394 نقلا عن بيان نشر في صحيفة المبلغ الرسالي العدد 150 الاثنين 27ذو القعدة 1419 ه الموافق 15 اذار 1999
61 ـ مجلة أسفار العدد 11 ـ 1989 ص 8
62 ـ مجلة أسفار العدد / اب 1992
63 ـ ينظر الراشد (عبد اللطيف) ـ صحيفة الجمهورية بتاريخ 17/10/2002 والقصيدة جاءت بمناسبة يوم الاستفتاء
64 ـ ينظر الفهد (خيون دواي)، جريدة الجمهورية في الصفحة الاخيرة بتاريخ 2/3/1995
65 ـ لا نرغب في التذكير بأسماء أولئك النقاد وعناوين دراساتهم فهي مبذولة بكثرة في ارشيف الصحف والمجلات العراقية كالأقلام والطليعة الأدبية والجمهورية والثورة وغيرها.
التعليقات
لا تنسى
سلمان -كانت مقالات كثيرة حول زبيبة والملك نشرتها جريدة الجمهورية، ومنها مقالة الزميل عبد الزهرة زكي الذي كتب أول مقالة عن روايات صدام
شمسك رماد نصيف
متابع -نصيف الناصري ماذا ستقول الان وكم قبضت ثمن بيع نفسك.. هل ستقول اجبرت وتم تهديدي ولماذا تتمسك بلقب الناصري الذي كان يتفاخر به جماعة صدام حتى كشفك رعد بندر.. شمسك رماد يا نصيف وشكرا للاخرس الذي فضحكم
فنان منفي
فنان -مقالات رائعة ومنصفة عن العراقستكون ناقصة من دون التطرق إلى ما كان يجري للعراقيين في المنفى [في نفس تلك الفترة] وما تركوه من أثر مهم وهم يحاربون منظمات حزب البعث واستخباراته سريا وعلنيا في باريس ولندن وفي المانيا الخ. وهناك أسماء وشخصيات وشعراء وفنانين تشكيليين لا زالوا يعيشون في منفاهم لحد اللحظة، ومنهم من أصبح معروفا.